الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النفري افكار مشوشة وتاريخ غامض

مهدي النجار

2007 / 12 / 15
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة "

كانت " نفر" هي نفسها المدينة البابلية "نيبور" التي تقع على نهر الفرات، وكانت مركزاً دينياً مهماً قبل اربعة آلاف سنة وقد تميزت بمعبد آكور الذي يعبد فيه "انليل" سيد الهواء، ومن ثم اصبحت فيما بعد مركزاً للديانة المانوية ثم المسيحية في القرن السابع الميلادي وظلت هذه المدينة العريقة حتى ظهور الاسلام تزخر باثار تلك الديانات، ولابد للنِّفَّري ( محمد عبد الجبار/توفي سنة 965 ) الذي ولدَّ فيها ان يتاثر بتراثاتها الدينية والفكرية من خلال سيرة غامضة وملتبسة يقول عنه آرثر جون آربري ( محقق كتاب المواقف والمخاطبات/ ترجمة سعيد الغانمي) بان النفري " شخصية غامضة منتهى الغموض في تاريخ التصوف الاسلامي " ، بل نكاد ان نقول بان حياة هذا النفري تتفرد بغرابتها وغربتها عن كل حياة عاشها اهل التصوف، فان كان هؤلاء القوم قد فضلوا الصوف على الحرير واستهانوا بالمال والنفوذ ليخلصوا انفسهم من ضيق العبودية وهوان المداهنات والتزويرات والتزييفات ليعيشوا سعة الحرية في فضاء الحق والمطلق، فضاء الملكوت الالهي الذي ينتقل فيه الانسان من حالة التسافل الى حالة التسامي، الا انهم عاشوا غربتهم وسط اجتماعهم يحيلون مرارة الفساد والخواء الى حلاوة المكابدات والملاء، يستنتج آربري :اذا سلمنا ان النفري كان من اهل "نفر " او اتصل بها على نحو ما فقد استلهم من وحي تاريخها الغريب، المنقسم بين مجدها الغابر ووحشيتها الحاضرة، اذ لم تعد توجد سهولها التي كانت تضج بالمسير المنضبط للجيوش الشبحية ولم تعد معابدها مسرحاً لرقصات لا يتذكرها احد، ولم تعد صيحات اهل اسواقها وخفة سكانها تعكر شوارعها الصامتة. وحين كانت النجوم تسطع خفيضة في الليل، ويعيد حزام "أوريون" الوهاج الى البال اساطير العملاق الذي اوغل في طموحه، كان النفري هذا السائح المتوحد يجد القوة والعزاء في رؤية الله الواحد الحق الذي يعوض حبه عن كل محبوب، كان متخفياً متستراً مشغولاً بقصده الوحيد: لا مقصود الا الله، كان يتشوق للاتصال بتلك الحقيقة المطلقة والوصول اليها من خلال التخلي عن كل العوالق والعوائق بحيث نسيَّ نفسه وناسه وارضه الى درجة النسيان المذهل، لكنه كان يحس باوجاع الخيبة: "وقال لي اذا كنت كما أُريد فأبكِ على نفسك" وكانت روحه القلقة الهيفاء تتقزز من كل ما هو فاسد وسقيم وليس امامها الا ان تتماهى في شئ ما يخلصها من اوجاع التورمات البشرية وانتهاكات السلطات الارضية ( سلطة الحكم وسلطة الفقه). وجد النفري تماهيه في " الوقفة" فاصبحت واحدة من اهم كشوفاته الصوفية: " الوقفة ينبوع العلم يستمد الواقف علمه من تلقاء نفسه، بينما يستمده غير الواقف من غيره/ للوقفة مطلع على كل علم، وليس للعلم عليها مطلع/ الوقفة روح المعرفة، والمعرفة روح الحياة/ الوقفة باب الرؤية، وهي تعتق من رق الحياة والآخرة، انها نور الله الذي لا يجاوره الظلم/ الوقفة تنفي ما سواها كما ينفي العلم الجهل/ الواقف وحده يجمع بين العلم والحكم، لانه يرى العلم ولا يروقه الحسن، ولا يروعه الروع/ كل واقف عارف وما كل عارف واقف/ يخبر العارف عن المعرفة ويخبر الواقف عن الله/ لا يستقر الواقف عند شئ حتى يصل الله، فلا يتسع له شئ، ولا ينسجم معه شئ/ يموت جسم الواقف ولا يموت قلبه/ يكاد الواقف ان يفارق حكم البشرية ولا ياتلف مع الزمان والحدثان......."
اذاكانت "الوقفة" هي خلاصة السياحة النفرية المضنية فانه قد دخلها عبر الحرف وتحمل مسؤلية حمل الامانة الثقيلة، لان الحرف خزانة الله:

*" الحرف خزانة الله، فمن دخلها فقد حمل الامانة"
*"الحرف نار الله وامره وخزانة سره"

* "الحرف حجاب والحجاب حرف"
* "الحرف لا يلج الجهل ولا يستطيعه "
* " الحرف دليل العلم والعلم معدن الحرف "
* " فلنقتبس حرفاً من حرف كما نقتبس ناراً من نار، الحرف ناري، الحرف قدري، الحرف دهري، الحرف خزانة سري "
ولكن كانت معضلته الكبرى في تملك الحرف والبحث الذي لا هوادة فيه عن اسرار المعرفة والحكمة ، هذا السلوك الذي يفضي الى الخراب والانهيار كان النفري قد اختاره عن قصد وهو العارف المتيقن بنتائجه المهلكة والمدمرة " هلك من ركب وما خاطر" لانه في نهاية المطاف سيوصل المرء الى نقطة وعرة ومستحيلة يجد نفسه وحيداً، غريباً، يجابه الدنيا بمفرده، يجابه وساختها واتضاعها وغثاثتها، حين احس النفري بآلام طريقه وعذاباته، طريق الحق والحقيقة، طريق اللاجدوى – حسب التعبيرات الوجودية – طريق الخسارة واللاثمن او وفق تعبيرات النفري نفسه: " العابد كالماء يسقي الارض ولا يأكل من ثمارها. والعارف كالآيات يحث الاذكار ولا يشرب باكاويبها" لذا راح يحذر الناس ان لا يسلكوه، ينصحهم ان يظلوا في عمايتهم وجهلهم ففي كتاب "المواقف" يقول:

* " وقال لي اعدى عدوِّ لك انما يحاول اخراجك من الجهل لا من العلم"
* " وقال لي اختم عِلمكَ بالجهل والا هلكت به "
* " اوقفني في الدلالة وقال لي المعرفةُ بلاءُ الخلْقِ "
* " الجهل عمود الطمأنينة "
افضى به امتلاءه المعرفي لان يقول الشئ ونقيضه او مايسميه سعيد الغانمي : "استواء الاضداد" وهي فكرة تقوم على نفي التضاد والتثنية كما نجدها في اغلب نصوصه : " من رآني تساوى عنده الكشف والحجاب ومن لم يرني من وراء الضدين رؤية واحدة لم يرني" وبهذا استطاع ان يخترق حدود التقليد، ويطير محلقاً خارج اطار المعارف المالوفة: " اذا علمت علماً لا ضَّد له، وجهلت جهلاً لا ضدَّ له، فلست من الارض ولا من السماء" يقول الغانمي الطيران خارج حدود السماء والارض هو طيران خارج التقاليد وخارج اللغة معاً، فلحظة استواء الاضداد هي لحظة اندحار اللغة وخذلانها ولحظة تالق انتصارها وتحديها في آنٍ واحد، كان محمد عبد الجبار النفري فراشة تحوم حول النار ولاتهاب الاحتراق أو كما يوصي: " اذا رايت النار فقع فيها ولا تهرب فانك ان وقعت فيها انطفت وان هربت منها طلبتك واحرقتك ". لا احد يعرف كيف عاش ولا كيف مات ذاك المتوتر القلق الغارق في بحر تصوفه، وكما يقول اديب كمال الدين، لم يكن معنياً بالكيفية التي ستخرج فيها اقواله الى الناس: فلسفة ام شعراً ام فكراً! كان الرجل مهووساً بشطحاته التي هي مزيج عجيب من النقائض النادرة التي تشبه احياناً الهذيان العميق الذي فيه صفات الكلام الممتع المجدي او الكلام الذي لا يعطي لقارئه اي خلاصة او معنى ، اختفى ولم يكلف نفسه حتى عناء جمع مواقفه وخطاباته التي فيها كنز روحي نادر رغم تناقضاتها، فقد ترك اوراقه متناثرة مشوشة مبهمة لانه لم يكن في هذا العالم بل في عالم آخر!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مهدي النجار/بغداد/ كانون اول2007








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تدرس نقل السلطة في غزة إلى هيئة غير مرتبطة بحماس|#غر


.. القوات الإسرائيلية تدخل جباليا وتحضيرات لمعركة رفح|#غرفة_الأ




.. اتهامات جديدة لإسرائيل في جلسة محكمة العدل الدولية بلاهاي


.. شاهد| قصف إسرائيلي متواصل يستهدف مناطق عدة في مخيم جباليا




.. اعتراضات جوية في الجليل الأعلى وهضبة الجولان شمالي الأراضي ا