الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ذكري ابن رشد

عصام عبدالله

2007 / 12 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


هذا المقال ليس استجابة لحدث ، أو أحداث ، طارئة ، وإنما هو استجابة لهم مزمن ومقيم ، يتعلق بعلاقتنا بالغرب ، أو بالأحري ب" الآخر" الذي يقطننا ، إذ لا توجد " هوية " عمياء تقوم في غياب الآخر .
وهناك العديد من الاسئلة التي أسقطت عمدا ، ربما بفعل فاعل ، من جدلية العلاقة التاريخية بالغرب ، وأهمها : كيف استطاع الخطاب الفلسفي الرشدي ، بمضامينه الإنسانية والعالمية ، التسرب والتغلغل في التحصينات الأوروبية للقرون الوسطي ، التي سممتها أجواء الحروب الصليبية ، والعداء الشديد لكل ماهو عربي وإسلامي ؟ ...
كيف نجح الفيلسوف العربي أن ينال احترام العقول في أوروبا من خلال " الرشدية اللاتينية " في جامعات ايطاليا تحديدا ؟ ... كيف استطاعت فلسفته أن تقلب موازين القوي الفكرية ، وأن تصبح نقطة التحول الفاصلة في الفكر الحديث ؟
ان عالم اليوم هو من كثير من الأوجه بالغ العنف والتعصب في تناقضه وروح ابن رشد ، بحيث أننا بما نحس به من حاجة ماسة إلي كلمة منقذة أو فكرة مخلصة منجية ، قد اضطررنا إلي أن نلتفت بأبصارنا إلي ابن رشد مرة أخري : إن لمحياه في عالم اليوم مظهرا أشد عصرية مما كان له منذ ثمانية قرون أو يزيد ، وكأنما لديه شئ آخر يريد قوله ... فهل لايزال لديه حقا أشياء جديدة يريد الإدلاء بها في مطلع الألفية الثالثة ؟ ... أشياء لم نفهما من قبل !
إن كلماته بالتأكيد هي نفس الكلمات القديمة ، ولكنها أكتسبت صوتا جديدا .... " والحق لايضاد الحق ، بل يوافقه ويشهد له " هكذا قال أبو الوليد في (فصل المقال) ... فالحقيقة واحدة وإن اختلفت دروبها والطرق التي تفضي إليها ، وهذا التعدد هو أساس حرية الفكر عنده . فالأديان والفلسفات والعلوم دروب مختلفة إلي الحقيقة الواحدة ، وهي من أروع الأفكار علي مر العصور التي تحترم الآخر وتقبله كما هو دون تحفظ .
وانطلاقا من وحدة الحقيقة طالب ابن رشد بالاستفادة من انجازات الفكر ، بصرف النظر عن كون المفكر وثنيا ، أو تابعا لدين آخر.
وهذه الفكرة تتكامل وتتداخل مع فكرتين أساسيتين عنده ، تجيبان اليوم عن مسائل شائكة ومشكلات حقيقية ، أولاهما هي " وحدة العقل أو العقول " ومؤداها أن المعرفة تعني المشاركة في المعرفة العالمية ، وحسب " آرنست رينان " فهي تعني : الفكر البشري ككل بوصفه ناتجا عن قوي عليا ، وكظاهرة عامة من ظواهر الكون . فالإنسانية واحدة ، حية دائما ، ضرورية لذاتها .
" وأنت يا من توجد وتعرف لست ، من حيث أنت ذاتك ،إلا صورة رائعة مما هو كوني " .
أما الفكرة الثانية فهي تبلور جوهر فلسفة ابن رشد وهي ان العقل لايمكن ان يقوض الايمان ، فكلاهما يعبران عن حقيقة واحدة ، مما يؤكد أنه لايمكن لأي عبارة أن تستوعب الحقيقة أوتمتلكها ، بل ان الحقيقة هي التي تملكنا جميعا .
هذا من جهة ، من جهة أخري فقد كان ابن رشد يؤمن بالتعدد والتنوع ، وفي الوقت نفسه يدرك أن وراء كل حقيقتين متعارضتين في الظاهر ، تكمن " وحدة " بين طرفيها جهل متبادل ، وحدة في انتظار من يكتشفها ، ثمة إذن دعوة إلي البحث وإلي التأمل وإلي صياغة الوحدة التي تتجاوز تنوع طرق التعبير دون أن تلغيها ....

هذه الأفكار وغيرها رافقت الرشدية اللاتينية في عصر النهضة الأوروبية وشكلت أهم روافده الأساسية ، منذ القرن الخامس عشر حيث بدأت النهضة في ايطاليا أولا ، ومنها شملت كل أوروبا تقريبا في القرن السادس عشر ، وكانت " بادوا " Padua هي معقل الرشدية اللاتينية في هذين القرنين . ونقطة التقاء التفاعل الحضاري بين الشرق والغرب ، بين العرب واليهود والأوروبيين ، وهي ظاهرة حضارية فريدة يتم تجاهلها عمدا ، من قبل دعاة الصراع الحضاري والمروجين لفكرة صدام الثقافات والهويات .

فمنذ العام 1405 باتت جامعة " بادوا " التابعة لجمهورية البندقية المستقلة صاحبة الشوكة ، إذ كانت تعين الأساتذة وتصرفهم دون تدخل من السلطات الدينية ، ومن ثم ظلت مركزا من أهم مراكز الحرية الفكرية في أوروبا .
ويبدو أن إلغاء مجلس شيوخ البندقية (فينسيا) لسلطة ديوان التفتيش، وكذا سلطة اليسوعيين ، قد جعل من البندقية ، التي تضم ، وقتئذ : بادوا وبولونيا وبافاريا وفيرارا وبيزا وسيينا ، أشبه بجمهورية علمانية تحمي الفلاسفة والمفكرين الأحرار .
هكذا احتلت ايطاليا موقع الريادة والتسامح الفكري في العديد من مجالات الثقافة ، خاصة الفكر الفلسفي ، وكانت مركز الإشعاع والتنوير في أوروبا ، وقبلة المفكرين الأحرار علي أختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم .
وما أحوجنا اليوم، ونحن ننشد البديل والجديد ، أن نطلع على هذه التجربة الثرية التي شكلت واحدة من أهم روافد الحداثة في الغرب ، وإحدي أهم نقاط الألتقاء المضيئة والمشرفة في علاقتنا به .
الأمر الثاني، هو استحالة الحديث اليوم ، عن هوية عمياء تقوم في غياب الآخر، فليس "الآخر" هو الذي يقابل "الذات" ويعارضها، بل إنه قائم فيها، وإذا كانت "الذات" في بعد دائم عن نفسها (حتى تستطيع أن تفهم ذاتها) فليس "الآخر" إلا هذا الابتعاد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي اللهجات.. مقارنة بين الأمثال والأكلات السعودية والسورية


.. أبو عبيدة: قيادة العدو تزج بجنودها في أزقة غزة ليعودوا في نع




.. مسيرة وطنية للتضامن مع فلسطين وضد الحرب الإسرائيلية على غزة


.. تطورات لبنان.. القسام تنعى القائد شرحبيل السيد بعد عملية اغت




.. القسام: ا?طلاق صاروخ ا?رض جو تجاه مروحية الاحتلال في جباليا