الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من معارك الشرف العربي المجيدة

زكية خيرهم

2007 / 12 / 28
الادب والفن


معركة شخصية في قالب روائي

انتهى الفصل الدراسي و حصلت على شهادة الماجستير في الأدب الإنجليزي. لابد أن أسلم مفتاح الغرفة اليوم إلى الإدارة. ها أنا الآن أحمل شهادتي. كم كنت أتمنى أن أحصل على شهادة الدكتوراه أيضا. هل أستطيع أن أحمي نفسي بشهادتي هذه وأرجع إلى أهلي؟ هل شهادتي ستمنحني الاستقلال الذاتي؟ هل ستجعلني أدافع عن حقي أمام والدي وأقول لا لجبروته وتسلطه؟ بالطبع لا... ذلك يعتبر عقوقا. لأنهم هم الكبار وهم ملوك الحكمة ...وهم الذين لهم الحق في تشكيلي كما يرغبون لا كما أرغب أنا. لا يهمهم ماذا يجري في ساحة قلبي من حروب ومجازر، حروب أكثر شراسة من التي تدور حولهم أو يتحدثون عنها. هل أرجع عند نبيل إلى ليبيا؟ لا...لا ..غير ممكن. فهو يريدني زوجة وذلك مستحيل.
اختلطت الموازين في ذهن غالية، فلم تستطع لا الفرار ولا الردى. ولم يكن أحد الحلين أحلى من الثاني ولا أمر منه، كلاهما شوكة حادة عالقة بحلقها. أسرعت إلى الإدارة، سلمت مفاتيح غرفتها، ودعت موظفيها، ثم انطلقت بسيارة الأجرة إلى حيث تمثال الحرية. رجعت إليه بعد أن خاصمته و شعرت بالعداوة نحوه. رجعت إليه لا لتستمد شيئا منه ولكن لأنه يذكرها بالأيام التي قضتها مع نبيل. وضعت الحقائب على الأرض ووقفت منتصبة تتأمل زرقة المياه ويد تمثال الحرية التي تحسّ أنها تمتد إليها لكي تصالحها . مدت يدها محاولة مسك يده. أغمضت عينيها تواجه نفسها وتتأمل عالمها الداخلي، تحاوره محاولة إظهار مناطقه الظليلة وإعادة اكتشاف ما يدور داخل ذلك السر الخطير المحكوم عليه بالتشريعات الاجتماعية التي لا تعرف معنى الشرف ولا معنى الحق. نزلت من عينيها دمعة ووقعت وسط المياه كصخرة كبيرة متدحرجة من قمة الجبل ، فاختلطت دمعتها بمياه البحر . أيقظت تمثال الحرية من سباته، فأمسكها بيده وحلق بها في الفضاء، يسري بها بين النجوم ليلا ويحوم بها حول الشمس بالنهار. وكانت تضحك في ذلك الفضاء بكل ما لديها من قوة. تضحك ضحك كالبكا . ثم أرجعها التمثال إلى حيث كانت تقف ورجع منتصبا في مكانه.

فتحت غالية عينيها وبدأت تنظر إليه وتبتسم، تحاوره بصوت غير خافت لكي يسمعها: سامحتك وصفحت عنك، جعلتني أتفهم حالك، جعلتني أدرك معنى الحب واشتباكه مع الحياة، جعلتني أعفو وأصفح عمن يمثل الحياة من الجنس الآخر. ذلك الجنس الذي يجعل للحياة تناغما وتطابقا عندما يصير فيه المحبّان روحا واحدة ويسكنون بعضهما البعض. حيث يصبح صوت أحدهما صدى الآخر ويتطابق ظل أحدهما مع قوام الآخر. شكرا لك أيتها الحرية التي جعلت خيالي ينظر إلى الحب بشكل واقعي وليس إلى وصفات محددة يمليها خيالي، وجعلت تطبيق واقعي صورة بعقلي وأخضعه إلى صورة ذهني، لكي لا يتسع كابوس سري الخطير به ويستفحل. كانت غالية كأنها في غيبوبة داخل عقلها وحوارها مع تمثال الحرية غير معيرة الانتباه للمارة وغيرهم من الذين كانوا واقفين ليس بعيدا عنها مشدودين مستمتعين بتمثال حريتها. كان أخ صاحب المطعم ينظر إليها. سمع صوتها الذي كان يستعصي على أية أذن قريبة منها أن لا تسمعه. كانت تتكلم باللغة العربية، اقترب منها ليسرق سمع كلامها. كانت عيناها مصوبتين إلى التمثال، مبتسمة له، مكملة حوارها معه. تقول الأشياء دفعة واحدة وكأنها تريد أن تصفي الحساب مع الخيالات والأوهام والكوابيس التي هدمت تواصلها مع محيطها وحياتها. رفعت يدها لتمسك يد تمثال الحرية مرة ثانية وقالت بصوت مرتفع غير مبالية بمن حولها من المارة لأنهم لا يفهمون لغتها: اسمعي أيتها الحرية، من الآن فصاعدا لن أخلق كلمات أعزي بها نفسي. لن أخلق كلمات لا تعني للواقع شيئا أو قد تكون نقيضه ، لأن عالم الواقع هو الحياة نفسها والحياة أكبر من أن تخضع لسجن كلماتي . من الآن فصاعدا لن أكون مدمنة كلمات خيالي. سأعيش حياتي وأنفق من حبي لأهلي ولكل من أخلص له بقيمي وبروحي، بقلبي، وبلا محرمات. وسأجعل حبي لمن حولي حبا حقيقيا، به أنتصر على كل شيء. على كل شيء حتى ولو كان ذلك الشيء هو الموت. كانت عيناها مغرورقتين بالدموع، التي حجبت عنها تمثال الحرية. كانت تراه وكأنه يقترب منها شيئا فشيئا...تحاول فتح عينيها ليتجلى نظرها، فرأته واقفا أمامها، يبتسم إليها، راضيا عن قولها وعن التغيير الذي حصل لها. أمسكت بيده وقالت: لم أكن أعرف أنني كنت مريضة إلى هذا الحد...إنني أحبك...أحبك من كل قلبي، ولا أستطيع الاستغناء عنك...أعترف أنني لك...أحبك حبا شبيها بالعبادة...عانيت آلام الصد وهيجان الشوق إليك ومرارة الغيرة عليك. ستحبني كما أحبك؟ هل ستكون عادلا في تصرفك ومعاملتك معي ومع نفسك؟ هل سيكون رداؤك العدل وتصرفك النبل ، وروحك المتمردة مرحة رومانسية جذابة مثل التي لقيتها في الصحراء التي تركتها ورائي والتي جعلتني أفتح خزائن قلبي التي كانت مقفلة داخل ألف صندوق و بألف مفتاح؟ أحست يد التمثال تلمس يدها بدفء وينحني إليها قائلا:
_ سأكون لك العدل والنبل وسأكون لك فارس الصحراء الشهم الشجاع الجذاب الوسيم، سأكون لك الروح التي تجري في جسدك والقلب الذي ينبض في عروقك، سأجعلك تسكنين بذاتي وسأجعل ذاتي تسكن فيك.

أحست برعشة تسري في كل جسمها، أفاقتها من غيبوبة حوارها معه. مسحت عينيها المغرورقتين بالدموع لكي تستجلي رؤيته، فرأته واقفا أمامها، قريبا جدا منها حتى كادت أنفاسها تختلط بأنفاسه، فسألته مستغربة:
_ هل أنت تمثال الحرية؟ هل أنت هو؟ هل...
ابتسم وقال:
_ أنا الحرية ذاتها... أنا الحب الحقيقي والنبل الصافي... المنبعث من تجربة وحقيقة الحياة... أنا الحلم الواقعي...أنا قاهر معاناتك وآلامك...أنا الشجاعة والنزاهة وقوة البصيرة...أنا تجربة مستقبلك التي ستدون بنبضات قلبك وجرأة موقفي وستكتب في تاريخ حياتنا منذ اللحظة إلى نهايتها...أنا أنت وأنت أنا. فلندع يدنا في يد بعضنا لنرجع مرة أخرى نسري ليلا بالفضاء، مستمتعين بالنجوم ونحوم حول الشمس بالنهار.
ضحكت وضمته إلى صدرها وقالت:
_ أنت الحرية...نعم، أنت الحرية...لقد عرفتك...هيا بنا أريد أن أذهب معك، أطير معك في دنياك وأحلامك وأجعلها جزءا من أحلامي ودنياي.
حمل حقيبتها ... أمسكها من يدها من دون أن ينبس ببنت شفة وانطلقا إلى الفندق. التفت إليها يبتسم فوجدها تنظر إليه والفرح يضيء كل وجهها. جلست تتحدث إليه ... وهو يستمع إليها بكل جدية ... شعرت بالإنجداب إليه من أول نظرة وهاهي ذي تحس باقترابها منه أكثر فأكثر ... اسمه عادل، شاب وسيم المنظر والمظهر، شهم، كريم، لطيف، وديع. كالطفل تماما في حبه للفرح والمرح والغناء، يحب الريح التي تجلب الغيوم لتمنح المطر. يحب الشمس المضيئة والأشجار المورقة والأزهار...كالطفل تماما يكره الحزن والبكاء والعاصفة الهوجاء والغيوم الداكنة السوداء. علمته الحياة منذ حداثة سنه كيف يتعلق بالأمل ويرفض الفشل حتى الرمق الأخير. علمته الحياة أن يمارس حياته الطبيعية في الحلم والشعور والنظر، وفي الواقع والتجربة والممارسة. لن أترك الدنيا ولن أجعل الدنيا تتركني. إنه شاب في مثل سني. مقبل على الحياة الدنيا بعطش وحماسة. سأخوضها معه بحماسته، بشجاعته، وسأعيش فيها معه بحب وإخلاص لأنفسنا وللحياة.
_ لا تؤاخذيني يا آنسة غالية ... من أول ما شفتك .... أحببت أن أتعرف عليك.
_ وأنا كذلك ... يسعدني التعرف عليك ... لكن ...
إغرورقت عيناها بالدموع ...
_ لماذا يا غالية؟
_ لا شيء ...
أمسك بيدها وقال هل تقبلينني صديقا لك؟
_ سعيدة بصداقتك لكنك ستسافر إلى البلد الذي تقيم فيه وأنا لا أعرف إلى أي أرض سأذهب ...
_ لا تكوني متشائمة إلى هذه الدرجة ....
_ لا أعرف ما تخبئه الأيام ... فرسائل والدي تلاحقني محذرة إياي من بلاد الكفر وشرورها
_ لماذا لا تسافري معي ...
_ أسافر معك إلى أين؟
_ إلى النرويج ... وهناك تكملين دراستك إن أردت. عندي إحساس أنك ستكونين زوجتي ...من اللحظة الأولى التي رأيتك فيها في المطعم ... قلت لنفسي هذه هي التي ستشاركني حياتي و إلا ما تبعتك من المطعم إلى الجامعة ومن الجامعة إلى مكان تمثال الحرية.
_ لكن ... النرويج؟! بلد الفايكينغ ... أوسلو ...قاتلة الأحلام ...
_ لماذا قاتلة الأحلام؟
_ أليس هناك تمت اتفاقية أوسلو ...صحيح أنا لا أفقه تلك الغابة الموحشة التي تسمى السياسة فأنا أكرهها ... لأنها مليئة بالأسرار والمؤامرات ... وأنا أخاف من كل أمر ذي صفة سرّية ... ألا يكفيني أنني أهرب بسري الخطير من بلد إلى بلد ...
ـ ماذا تقصدين ... عن أية أسرار تتكلمين؟!
ـ أخي ... هل تعتقد أن الأمور بهذه السهولة ... ليس كل الأسرار والاتفاقيات يمكن الحديث عنها بسهولة ... إنسى الموضوع ...

فكّرت في المسألة بجديّة ... وصرخت: لقد وجدتها؟ تخيلت عمتي الطيبة صفية، تسألني:
ماذا ضاع منك ... وأين وجدته.
أوسلو..أوسلو...حلاّلة المشاكل. نحن النساء أسهمنا في انتاج سلوك وعادات، ثم نشكو حظنا العاثر ... ونعيد إنتاجه سلوكا وعادات ... ونحن معشر النساء، أسهمنا في الرضوخ إليه وتأسيسه ... ثم نبكي نساء ... وليس كالنساء ... إذن لابد من أوسلو ... فهي الأقدر على حل مشكلة فضّ غشاء بكارتي إن كان قد حدث ذلك ... هل هناك مشكلة أكبر من أن تعيش مشكلة دون أن تكون متأكد أنها موجودة فعلاً ... ربما تكون موجودة وغير موجودة ... وهذه هي حالتي مع سرّي الخطير ... لقد جعل المجتمع المعادلة كالتالي: غشاء بكارتي موجود فأنا موجودة ... غشاء بكارتي مفضوض فأنا مقتولة! ... إذن لابد من أوسلو، وإن طال السفر !!... وهل سيختلف وضعي بإختلاف المكان ... نيويورك ... أوسلو ... أوسلو ... نيويورك ... نفس الوضع، فكلّها عند الإمام سلطان بلاد كفر وإلحاد ... وأوسلو ... عاصمة الفايكنغ ... أليس فكرة الإمام عنهم، أنهم من أشهر قطاع الطرق البحرية ... ولن تتغير فكرته عنها ... وعنهم لو قرأ كتاب رحلة أحمد بن فضلان عن هذه البلاد وما جاورها ... رحلة قبل ألف وسبعة وسبعين عاماً ... يا مُقدّر الأرزاق ... عربي ... عربي مسلم يصل إلى هذه البلاد ... هل جاءها عادل مقتفيا خطى ابن فضلان ... آه لو يقرأها الإمام سلطان ... تلك الرحلة كما جاءت على لسان ابن فضلان ... أو بعظمة لسانه كما نقول ... رغم أن اللسان لا عظام فيه ... عظّم الله أجرك يا إمام ... لو قرأت ثلاثة ... أربعة سطور محددة من كتاب ابن فضلان ... وبعظمة لسانه، لحكمت عليه بالجلد مائة جلدة ...

وصلت غالية إلى أوسلو عاصمة النرويج مع فارس أحلامها. عاشت معه في الحي الجامعي. كان ما يزال يدرس العلوم السياسية و الاقتصادية. تجلت لغالية رؤية الحياة بوضوح وأصبحت في حالة شديدة من الصحو العقلي والنفسي. كما أصبحت ترى سرها الخطير أقل قدرا. بل أصبحت تحاول التعايش معه دون هلع، تحاول تحليل أفكارها ومشاعرها نحو نفسها ونحو عادل حبيب قلبها وتحليل ماذا سينتظرها معه. لم تعد تعيش في الأوهام ولا تلفظ عبارات التأسي والتحسر، ولا تتذكر لقطات حياتها القاسية الحزينة. أصبحت تحس بشجاعة في نفسها وصفاء في رؤيتها، بعيدة عن الزيف، دون خوف. هكذا علمها عادل هذا الفارس الذي أغدق عليها القليل من ثروته والكثير من ذاته وحبه. علمها أن تؤمن بالحياة وسخاء الحياة. أطلعها على مخبأ الكنز الذي لا يفنى...علمها أن تزرع حقل حياتها بالمودة وتحصده بالامتنان. كان لها الفارس القوي الذي يتكلم صامتا، يتصدى لنكبات الحياة بوجه فرح. كان حبه لها كالفضاء لا حد له، وكالبحر بدون شواطئ. كان حبه متأججا دائما. كل ذلك زادها ثقة بنفسها. جعل لها رغبة في أن تفتح صفحة الماضي كله. خاصة وأنها استمدت منه قوة، لم تكن تمتلك مثلها من قبل. جعل منها كائنا مساويا له وليس مجرد أنثى، يراها بطريقة مختلفة، كزهرة قمر متلألئة. تمنته زوجا، أرادته حلالا. لم يكن لها من جسر للعبور إليه إلا أن تكشف بنفسها سرَّ سرها الخطير.

لابد أن أذهب عند الطبيب النسائي وأكشف عن حالي. لابد من الذهاب إلى طبيب نسائي كي أقطع الشك باليقين. فإما أن أكون له وإما أن يكون الموت لي. لابد أن أبدد الغيوم الهشة وأفسح المجال لرؤية أوضح. ها أنا أتزحلق مرة ثالثة نحو مصيري، بمسرح الحياة التي رسمها قدري ولا أعرف ما هو هذا المصير ولا كيف سيكون.
اتصلت بالمستشفى:
_ ألو...هل يمكنني زيارة الطبيب النسائي؟...إسمي غالية....غالية سلطان...اليوم؟ عظيم...شكرا.
وضعت غالية السماعة...هيأت نفسها ونفسيتها... انطلقت إلى المستشفى...انتابتها قشعريرة في كل جسمها...تنظر إلى الممرضين والممرضات وإلى المرضى والأصحاء...حولت عينيها الخائفتين الكبيرتين إلى مكتب الاستعلامات...توجهت مسرعة نحوه ...تستفسر عن المكان...رافقتها ممرضة إلى فرع الأمراض النسائية...جلست في غرفة الانتظار. كانت مليئة بالنساء أغلبهن حوامل ومن سكان البلد...الخجل...الحرج...الخوف... الحياء...تبللت يداها ...بردتا ...أقبلت ممرضة...نادت واحدة من النساء...ابتسمت إليها ثم دخلا معا إلى الغرفة وأقفلت الباب.
وقف كابوس السر الخطير أمام عيني غالية شاخصا ممتثلا مؤكدا لها صدقه وأن ما وقع لها بالماضي مازال حولها، وأنها مازالت ستلاقيه في الليل وتصارعه متعثرة بانفعالها وخجلها وخوفها. صرخت في وجه كابوسها ساخرة: لن أبكي مرة ثانية، ولن أصرخ ولن أندب، ولن أخافك ولن أبالي بتهديداتك. رغم أنني بكيت كثيرا وظُلِمت كثيرا ويئست كثيرا إلا أنني أحببت كثيرا وأملت كثيرا و ألآن أضحك كثيرا لأنني علِمت أن طفولتي كانت حلما ووهما. فأنا الآن سأوقف هذا الاتهام وسأثبت براءتي.

نادت الممرضة غالية، فوقفت هلعة من مكانها، ترتعد خوفا من قرب معرفة الحقيقة، التي ستكون عليها تهمة ثابتة وسيحكم عليها بسجن قلبها إلى الأبد. وقفت من مكانها واتجهت نحو الممرضة التي كانت تبتسم لها. كانت مسافة خمس خطوات نحو الممرضة كخمسين ألف خطوة. ترتعش...ترتعد...تتعرق...يصفر وجهها ...تتلعثم...تقول بخجل:
_ هل أنت الدكتورة؟
_ لا، الدكتور الذي سيكشف عليك في الداخل.
تشعر بسخونة في وجهها وبخوف وخجل. مستحيل أن أدعه يفحصني، أن يمد يده علي...لا...هذا غير ممكن...هذا عيب كبير...هذا مستحيل...
نظرت إلى الممرضة...تلعثمت...أرادت أن تغير رأيها وترجع من حيث أتت...أمسكتها الممرضة بلطف من يدها وقالت: لا تخافي، سأكون معك.
أدخلتها إلى الغرفة وقفلت الباب. نظر إليها الدكتور مبتسما...مد يده...سلم عليها...طلب منها الجلوس. جلست غالية... أطبقت على رجليها بقوة... شبكت يديها ببعضهما... خفضت عينيها. هل هذا الشاب هو الذي سيكشف علي؟ لا ..لا.. مستحيل!
أرادت أن تقف من مكانها، قاطعها الدكتور متسائلا: ما خطبك؟
رفعت عينيها تنظر إلى الممرضة خجلة، ثم حولت نظرها إليه وقالت:
_ أنا...أنا...لا أعرف كيف أبدأ...أريد..أريد أن أفحص نفسي.
_ ما المشكلة؟ هل أنت حامل؟
_ أريد أن أفحص إن كنت عذراء أم لا؟
نظر الدكتور إلى الممرضة مستغربا، ثم حول نظره بسرعة إلى غالية وقال: لا داعي للخوف.
نظر إلى الممرضة من غير أن يتفوّه بكلمة. اقتربت الممرضة منها وقالت: هيا.
قالت غالية خائفة: إلى أين؟
أشارت الممرضة إلى ستار يفصل الغرفة إلى قسمين وقالت مبتسمة:
_ خلف هذا الستار، يمكنك أن تخلعي لباسك الداخلي، ثم أشارت بيدها وأضافت: بعدها ستجلسين على هذا الكرسي.
نظرت غالية إلى الكرسي الذي كان يختلف عن كل الكراسي، حيث الجالس فيه تكون رجلاه مفتوحتين ومرفوعتين إلى فوق. بلعت غالية ريقها ونفذت ما أُمِرت به. كانت تنظر إلى الممرضة وكأنها تحتمي بها، وكانت هذه الأخيرة تمسك بيدها محاولة تهدئتها. أقبل الدكتور ويديه داخل قفازات بلاستيكية. اقترب منها وقال مبتسما:
_ لا تخافي. أدخل أصبعه فشعرت بالألم وصرخت وهي تنظر إلى الممرضة التي كانت سيغشى عليها من الضحك. فارتبكت أكثر وتوترت أعصابها. أخرج الدكتور أصبعه. نظرت إليه وعيناها مفتوحتان، جاحظتان.
_ ما الأمر يا دكتور؟ هل أنا ...هل أنا ...لست عذراء؟
قال مبتسما:
_ بلى.
_ ماذا؟ ماذا قلت؟ هل أنا عذراء؟! أنا عذراء ...أليس كذلك؟
_ نعم، أنت عذراء.
انفجرت تبكي وتضحك، تنظر حينا إلى الممرضة وحينا إلى الدكتور كالذي فقد عقله أو كالذي وجد جبلا من الكنز فجأة. أنزلت رجليها اللتين كانتا معلقتين وضعت كلتا يديها على وجهها بكت بكاء ثم توقفت عن البكاء وعلا ضحكها في تلك العيادة. نظرت إلى الدكتور والممرضة بعينين مليئتين بالحزن العميق والخوف من الموت ظلما من كابوس سرها الذي كانت تظنه حقيقة. ذلك السر الوهمي الذي أفقدها طفولتها التي لم تعشها كغيرها، كانت رعبا منذ ذلك اليوم الذي سيصل وستزف فيه إلى القبر. ..كم عشت كذبة هدمت حياتي وجعلتني أجوب الأرض شرقا وغربا والآن يقول لي الطبيب أنت عذراء. كان الدكتور والممرضة ينظران إليها مستغربين ... لم يفهما شيئا. علا ضحك غالية وامتزج بالبكاء كالذي فقد عقله وبدأت تلطم وجهها وتشد شعرها بكل ما لديها من قوة: أ هذا هو سري الخطير ...! أ هذا هو الوهم الذي قتلني ... أزهق روحي ... بدد حنيني لوطني ... قتل كل ذرة حب لأهلي وجعلني وحشا مجنونا يفتك بنفسه. كان الدكتور يحاول إمساكها آمرا الممرضة أن تأتيه بحقنة مهدئة.
ـ لا أريد حقنة مهدئة يا دكتور. أنا الآن جد هادئة. كنت أعيش مع شكي بنفسي ... لكنني الآن رزينة .... هادئة وحكيمة أيضا.
نظرت إليه بعينين ينبعث الشرر منها وكأنها تريد أن تنتقم منه ... من أي شيء ... من نفسها ... لنفسها. ها هو الوقت الآن يا غالية قد حان وأزفت ساعة الانتقام من أبيك ... من أخيك ... أبناء عمومتك ... من جدك الأول ... جدك الآخر ... وحتى من كل النساء اللواتي منحن الرجل هذا الحق في أن تكون المرأة نعجة تساق إلى سرير ذبحها ... إلى كل امرأة تمنح حناجر المتعطشات لسفك الدماء صوت الزغاريد على صرخات ألمها ... لتنتقمي من هذا المجتمع الذي قدمها على طبق طائر من التشرد والهروب لسمير الذي حاول أن يفترسها ولنبيل الذي حاول أن يستولي على قلبها برقته وكرمه وعطفه يا الله ... يا ربي ورب كل مظلوم ألا يحق لي أن أثأر لنفسي لموت روحي ... لزوال آمالي ... لفقداني فرحتي ... لضياعي وتشردي. تبكي غالية ... تشعر بالقوة والعجز يمتزجان في داخلها، لا تدري ماذا تفعل أو كيف ستعيش مع واقعها الجديد. تنتفض كعصفور أُخرج من بئر ... وبلهجة حادة:
ـ دكتور ...أريدك أن تخلصني منها.
_ نظر إلى الممرضة ، احمر وجهه الشديد البياض وقال: تخلصي منها بنفسك.
قالت مستغربة: كيف؟ لا أستطيع.
_ هل لك صديق؟
_ نعم.
_ هو يمكنه فعل ذلك؟
قالت بعصبية وهي تبكي: لا أريد أن أهديها لأحد في طبق من فضة.
قال الدكتور والدهشة على وجهه: وما الحل؟
_ أريدك أنت أن تزيلها.
احمر وجه الممرضة وعيناها تسيل دموعا من هيستيريا الضحك الذي كانت تحبسه بداخلها، خرجت فارَة من الغرفة وضحكها يسمع مدويا من وراء الباب.
قال الطبيب متلعثما: إذا لابد من إجراء عملية بسيطة نشق فيها غشاء البكارة وفي نفس الوقت نفتح في موضع التبول شيئا ما، لأنه مخيط وذلك يسبب عدم خروج دم الحيض كاملا بطريقة طبيعية. هل أجريت لك عملية الختان؟
قالت غالية وشرر الغضب يتطاير من عينيها.
_ نعم، لقد أجريت لي عملية الختان لكي لا أشعر بالرغبة الجنسية وأفقد العذرية. هذه الأخيرة التي عذبت حياتي منذ الطفولة بسبب شكي في افتقادها. بتروا عضوا بداخلي وخيطوني ولم يتركوا إلا ثقبا صغيرا للتبول. عملوا ما عملوا لكي لا أفقد عذريتي التي يعتبرونها رمزا لعفة الفتاة وشرفها. إلا أنني أريد أن أتخلص من هذا الشرف.. ومن دون احتكاك جنسي. أريد أن أقضي على هذا الكابوس بنفسي، هنا عندكم بالمستشفى.
عندها فهم الدكتور ما تقصده فقال: إذا يمكنك المجيء إلى هنا في الساعة العاشرة صباحا لإجراء العملية.
_ هل سأمكث طويلا بالمستشفى؟
ابتسم قائلا: ستخرجين في نفس اليوم.
شكرته وغادرت العيادة إلى الحي الجامعي. وجدَت عادل غارقا بين أوراقه يتهيأ للامتحان. قبلته في خده وقالت:
_ غدا سأكون طيرا يحلق في الفضاء. غدا سأنتصر على الكون كله، غدا سأتخلص من قيد نجس كان منغصا علي حياتي، محولا مجراها إلى طرق متشعبة ووعرة. غدا سيكون يومي يوما جديدا ونظرتي إلى الحياة متفائلة حقا.
قال عادل مبتسما ورزمة من الأوراق في يده يصففها على منضدته: ألا تخبرينني سبب هذه الفرحة؟
اقتربت منه، وضعت يديها على كتفه وقالت: إنها مفاجأة ... إنها انتصاري لنفسي بسبب ما ذاقت من عذاب ... من وهم كاد يقتلها ... أهيم على وجهي ... أركض ...أرقد .... أموت ... أحيا ... أموت ... أعيش ما بين الموت والحياة ... فلا الحياة تهبني سعادتها ...سبب حبها ولا الموت يدركني فيخلصني من حياة الموت وموت الحياة. أتدري يا عادلُ لم كل هذا ... لأن قدري أوجدني في مجتمع يفرض علي أن أسير في ركابه دون وجود لذاتي أو كيان لإرادتي.
وقف عادل مستغربا: ما هذا الكلام يا غالية ... أهو نص قرأته في رواية ما ...أم أنك تفكرين بكتابة رواية... لم تقولي لي أنك تملكين هذه الموهبة.
ابتسمت ابتسامة طويلة ... لا تندهش أنا لست كاتبة ولم أقرأ رواية، غدا ستفهم ما أقول ... غدا ستشرق شمس حقيقتي ويتبدد ظلام الدنيا من حولي ... غدا سأكلم البحر شعرا، أغازله يغازلني .... غدا سيرسل لي البحر عروسه لتهبني كلَّ ما فيه من رحابة واتساع ...لأن غدا هو غدي ...
_ هكذا إذا. أنا كذلك عندي مفاجأة لك ولن أقولها. جلست على كرسي بالقرب منه، وهو تتوسله لمعرفة ما هي المفاجأة؟
_ لن أقول شيئا حتى أسمع مفاجأتك.
قالت وهي تتغنج وتبتسم: مادمت مصرا ستسمعها غدا.
_ وأنا أيضا لن أقول شيئا حتى الغد.
لم يعد هناك سر ، ولا خلوة في وحدتي. ولم يعد لك أيها الكابوس مكان في منامي. انتصرت عليك ألف انتصار. كنتَ بالأمس ناضجا، نشطا في أحلامي، وعدوا لدودا ترافقني.وكنت وحدك تسمع صراخي وسكوتي وقذائف براكيني الثائرة في ظلمات الليالي. سقطت الآن واندثرت. فاضحك لوحدك أيها الكابوس ودع العاصفة تضحك معك وتحفر لك قبرا بدون قعر... تهوي فيه إلى الأبد.

تخلصت غالية أخيرا من وهم العذرية. فأصبحت بعد نزعها متحررة، متأكدة من عذريتها الحقيقية، عذرية أخلاقها وسلوكها وطهارتها التي لم تدنس يوما رغم صحراء الجزائر وليبيا. غادرت المستشفى بعد زوال تأثير البنج، فوجدت عادلا ينتظرها.
_ مساء الخير غالية، أين كنت؟
_ سأخبرك عندما تخبرني عن مفاجأتك.
_ ما رأيك أن نذهب إلى حديقة قصر الملك؟ إن هناك طبيعة حلوة واخضرار يغطي كل تلك المساحات التي تحيط بالقصر. فالطقس مازال دافئا والشمس مازالت ساطعة.
انطلقت غالية وعادل ويداهما متشابكتان إلى أن وصلا إلى حديقة قصر الملك. تلك الحديقة التي لا تحضن بذراعيها سوى المحبين.
نظرت إليه بشغف وقالت: ما هي المفاجأة؟
اقترب منها، أخرج علبة صغيرة من جيبه، فتحها، أخرج منها خاتما، ركع أمامها وقال: هل تقبليني زوجا لك؟
شدته من يديه ... ساعدته على الوقوف، نظرت في عينيه بكل قوة وشجاعة وقالت:
_ إن كنت تريدني أنا، قبلتك زوجا. وإن كنت تريد عذريتي فهي هناك بمستشفى الأوليفول.... وتلك هي مفاجأتي.

جحظت عيناه. سحب يده من يدها، تراجع إلى الوراء. لم يصدّق ما سمع ولم تكن له القدرة على أن يطلب منها استفسارا. انطلق مسرعا إلى غرفته بالحي الجامعي. أما هي فكانت تضحك، إلى أن وصل صوتها إلى الفضاء. كانت تجري وتقفز فوق الحشيش الأخضر، تحرك يديها وكأنها تريد أن تطير وتحلق في الفضاء. كانت تحوم كفراشة من ركن إلى آخر في الحديقة إلى أن تعبت. استلقت على ظهرها تنظر إلى السّماء. لم تكن تر غير السماء. أغمضت عينيها، فرأت تمثال الحرية ينزل من السماء ويمسك بيدها ويأخذها محلقا بها إلى الفضاء. فتحت عيناها وأسرعت إلى الحي الجامعي، طرقت الباب، لم يفتح لها. فتحت الباب ببطء فإذا بها تندهش لما رأته عيناها. كل الغرفة كانت مليئة بالورود الحمراء. لم تفهم شيئا ولم تستوعب ماذا يجري. تخطو ببطء لكي لا تدوس على الورود منادية: عادل...أين أنت يا عادل؟
خرج من الحمام، أقبل نحوها، ضمها إلى صدره، أخرج الخاتم من جيبه، وضعه في يدها ثم ركع على الأرض مرة ثانية يسألها:
_ هل تقبليني زوجا لك؟
كانت واقفة أمامه كالحلم، كالأسطورة اليونانية، المعطرة بأحلام الأيام السعيدة وأحلام الأجيال. واقفة بجسدها الرائع الممشوق وشعرها الطويل المفروش على ظهرها وقالت:
_ أنا لك... أنا الآن ملكك...أنا هنا...أنا معك إلى آخر يوم في حياتي.
تحشرجت الكلمات في حلقها وتعثرت الحروف في لسانها، وقالت بصوت مبحوح... فرح، متأثر. أحبك، نعم أحبك...لأنك...لأنك...
وسكتت...
ضحكت وهي تحاول مسح الدموع من عينيها وقالت:
_ ضمّني إلى صدرك بقوة، إصهر روحك بروحي ...إجمع قلبينا كي يخفقا سويا.
ضمها إلى صدره... كانت هادئة...مطمئنة...عائدة إلى طبيعتها ... كحال أية فتاة.

خرجا معا بسيارة أجرة إلى وسط المدينة ... مارين بمبنى تاريخي مكتوب عليه المسرح القومي ... وأمامه تمثال عملاق بطول خمسة أمتار تقريبا للكاتب المسرحي النرويجي المشهور هنريك إبسن ... بلحيته ذائعة الصيت كمسرحياته ... من يُصدق؟! غالية بنت الإمام سلطان أمام تمثال هنريك إبسن ... وأين ... في أوسلو ... في مملكة النرويج ... قريبا من القطب الشمالي ...هنريك إبسن ... هل هي مصادفة، أن يأتي بي عادل إلى هنريك إبسن قبل زواجنا ... تذكرت مسرحيته المشهورة ( دُمية البيت ) تلك المسرحية التي كانت صرخة احتجاج على اضطهاد الرجال واستغلالهم للمرأة ... آه هل يقصد عادل ذلك ... وكيف أدري ... ربما هو لم يقرأ المسرحية ولم يسمع عنها ... ووجودنا الآن أمام المسرح القومي النرويجي وتمثال هنريك إبسن مجرد صدفة، قادنا إليها التجوال الحرّ في هذه المدينة، بليلها الساحر، والثلوج تغطي أرصفة الشوارع ... لا يهم ... ولكن المهم يا عادل ... لن أكون معك أقل حزماً من نورا ... بطلة المسرحية ... تذكر يا عادل أن نورا ... عندما رفضت قبول اضطهاد زوجها، طرقت الباب خلفها متمردة خارجة إلى الشارع ... إلى الفضاء ... باحثة عن حريتها وكرامتها ... يا الله ... يا مقسم الأمكنة والأرزاق ... صرخة نورا هذه قبل مائة سنة ...

فجأة دخلنا في شوارع داخل حديقة كبيرة ... نمشي ... يدانا متشابكتان ... وحرارة يد عادل تسري في عروقي، مذيبة الثلوج ليس من جسدي فقط، ولكن من الأرصفة المجاورة كذلك ... فجأة ظهر أمامنا وعلى بعد أمتار بناء ضخم ... كأنه من الأبنية الرومانية ...
ـ ما هذا يا عادل؟
ـ القصر الملكي ... ألا تشاهدين الحراس الملكيين على أبوابه، بملابسهم المميزة، وخطواتهم المهيبة ...
ـ القصر الملكي ... منذ دقائق ونحن نمشي في حدائق القصر الملكي ... من المؤكد تقصد القصر القديم ... المهجور ... وهو متحف الآن ...
ـ لا ... ليس مهجورا ولا متحفاً ... القصر الملكي الحالي ... والآن داخله الملك والملكة والعائلة المالكة ...
ـ لا تصبني بالجنون ... يعني نحن على بعد أمتار من مخدع الملك والملكة ...
ـ تماما ... وما الغرابة؟
ـ عادل ... وتسأل وما الغرابة ... وكأنك مولود في النرويج ... رحمك الله يا عمر ألست القائل:" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا."
ضحك عادل ... وجرّني من يدي نحو باب القصر ... سحبت يدي من يديه، متراجعة:
ـ أيها المجنون ... إلى أين؟
ـ إلى مدخل القصر ... سألتقط لك صورة مع الحرس الملكي ... وربما يتصادف خروج الملك والملكة ... ونلقي عليهم التحية ...
لم أصدق كلمة مما قاله ... إلا بعد أن وقفت أمام مدخل القصر كتمثال هنريك إبسن، وعادل يلتقط لي عدة صور من زوايا مختلفة ... عندها شعرت أنني نورا وليست غالية يا الله ...

وعادت شهرزاد إلى فاس

كانت عائلة غالية تنتظر قدومها بكل شغف وفرح، خاصة والداها اللذان فقدا الأمل منها ومن تمردها اللذين لا يقبلا اللين ولا الدعة. هاهي ابنتهم ستصبح زوجة عن اقتناع منها من غير أن يفرضا عليها ذلك. وصلت غالية مع حبيبها إلى المغرب، حيث أقامت عائلتها عرسا فخما لم يسبق له مثيل بالحي الذي كانت تسكن فيه. حفلة لفرحتين: فرحة نجاحها وفرحة زفافها.
كّنا في منزل القاضي سلطان حوالي الساعة الرابعة عصراً ... حشد كبير من الرجال والنساء ... الأهل والأقارب والجيران ... إختفى عادل بينهم ... سلام ... وتحيات ... وقبلات ... وأيمان غليظة أنهم أحبوه ... وأنه واحد من العائلة ... جلس جواره القاضي سلطان ... مبتهجا ... مشرق الوجه ... وكل خمسة دقائق، يسمعه ويُسمع الحضور:
ـ يا سي عادل ... والله أنت واحد من ولادي أهلا بك ... شرفتنا في المغرب. يا سي عادل ... نحن المغاربة نحب كل العرب ... خاصة اللبنانيين ...
إنعقدت حلقات الرقص والغناء للنساء والرجال ... طبول مغربية، إيقاعات موريتانية وسودانية تصم الآذان ... ولا أحد يشعر بضجيجها ... فالكل يعيش لحظة ضجيج زواج غالية بنت القاضي سلطان ... والحدث الأهم ... عريس لبناني مستورد من لبنان ... مشحون من النرويج ... تم التخليص عليه في مطار الدار البيضاء بعد تدقيق وفحص كامل للأوراق الثبوتية وتاريخ صلاحية الاستعمال ... الإخوان بوشناق يشدون في حلقة الرجال ... ويتناغم معهم صوت الحاجة الحمداوية من حلقة النساء ... فرح لا مثيل له ... إنه حدث فريد في تاريخ مدينة فاس. وحانت ليلة الدخلة ودخلت مع عريسها عادل إلى الغرفة التي كانت يوما منفردة فيها مع عريسها السابق نبيل. دقت الطبول وارتفعت الزغاريد، وانهال على باب غرفتهما طرق. فلم يكن لعادل إلا أن يخرج شفرة حلاقة من حقيبته ويكشف عن فخده محاولا جرحه لإخراج شيئا من الدم. كان العرق يتصبب على وجهه ويده ترتعش... لم يستطع أن يجرح نفسه...نظر إلى غالية التي كان رأسها سينفجر من شدة الأصوات والزغاريد المرتفعة ومن شدة الطرق على الباب المستمر من غير توقف.
_ غالية، هل يمكنك أن تفعلي هذا؟
نظرت إليه مندهشة وقالت:
_ أفعل ماذا؟ أجرحُك...؟ لا، لا أستطيع فعل ذلك.
وقع الضربات على الباب زادت من توتره وارتعاده مما أدى إلى سهولة جرح نفسه. لكن الدم لم يخرج منه...يضغط على لحم فخده المجروح حتى خرجت قطرة صغيرة، تنفس الصعداء...فرح...وأخيرا قام بذلك الإنجاز العظيم...مسح بقطعة قماش بيضاء على فخده...ألقى به خارج الباب وأغلقه.

زادت الزغاريد في الإرتفاع، وزادت الأصوات في التهاليل...
أما غالية فقد نامت في حضن عادل. ورأت في منامها البحر يتسع ويتسع ولون مائه يزرق ويزرق، والشمس تحمر ملونة الرمال التي تمتد في صحراء الجزائر وليبيا. كانت ترى نخيلات قصيرة ومتفرقة. رأت عادل يقبل نحوها بفرسه... يحملها أمامه وينطلق بها في صحراء الجزائر وليبيا...يغني لها أغنيتها المفضلة...يوقف فجأة فرسه...ينزلها ...يضمها بكل نبل وإخلاص ويحلق بها آخر المطاف في عالمه، ذلك العالم الذي تشرق فيه فقط شمس الحرية والعدالة. بعيدا عن المتعطشين للدم ... أسقتهم غالية قطرات من دم عادل ... فلم لا؟! المهم دم ...أليس ذاك ما يريدون؟ ذلك هو الشرف في مفهومهم ... لقد أعطيته لهم لأن شرفي الحقيقي لا يفقهونه.

غالية محدثة نفسها ...ساخرة: ما أغباكن ....ما أتفهكن ... نسيتن أنكن وقفتن أمام هذا الباب سابقا تطرقنه ... تصرخن ... تردن دماء بكارتي ... كيف أستغرب وأنتن عندما تُدعونَ للإحتفال بيوم الدماء تفقدن الذاكرة وتنسين حتى ثوابت الأحداث.
كانت عائلتها في قمة السعادة. وأخيرا ارتاحوا من تحمل مسؤولية ابنتهم التي كانت حملا ثقيلا على عاتقهم ومهددة لشرفهم ومكانتهم الإجتماعية. هاهي الآن غالية أصبحت في بيت عدلها، وأصبحت في طريقها إلى تأسيس عائلة خاصة بها مع زوجها الذي استطاع أن يملك روحها وقلبها، قابلا شرفها الحقيقي.أما والدها فكانت الفرحة لا تسعه، والإعجاب بعادل هذا الفارس الذي استطاع أن يقهر ابنته بحبه. ضمه إلى صدره بقوة ...
انطلقت العائلة كلها إلى المطار، لتودع ابنتهم الغالية، وفي مقدمتهم العمة الطيبة. هذه المرة كان الوداع مميزا على أمل رجوع ابنتهم مع زوجها تحمله لهم طفلها بين ذراعيها. توجهت غالية وعادل إلى داخل المطار. كانت تلوح بيديها من خلال الزجاج ، لكل فرد من عائلتها مبتسمة، سعيدة. أثار انتباهها عمتها التي كانت تحاول اللحاق بها وشرطي يمنعها الدخول إلى مكان الجمارك، كانت تصده قائلة: لابد أن أتكلم مع ابنتي..
قطبت غالية على جبينها...أسرعت نحو عمتها...لحقها عادل...
_ ما بك يا عمتي؟ ما خطبك؟
قالت العمة حائرة: لن يهدأ بالي ولن ترتاح نفسي حتى تجيبيني على سؤالي.
_ أي سؤال يا عمتي الحبيبة؟
وضعت العمة الطيبة يدها على رأسها تحكه وكأنها وقعت على معضلة فلسفية، معقدة تريد طرحها وقالت:
_ بالله عليك يا ابنتي، كم من عذرية لديك؟
قالت غالية مبتسمة: أنا...؟ أنا ليست عندي عذرية ولم أخلق بها.
_ لكن... كيف؟
_ العذرية الأولى كانت للدكتور نبيل والثانية لعادل.
نظرت العمة مستغربة مندهشة...لم تفهم شيئا ... إلا أنها ضحكت وضحك عادل أمسك بيد غالية وانطلق بها داخل المطار وهو يلوح بيده إلى العمة الطيبة التي كانت تحرك برأسها وتعدّ بأصابع يدها، محاولة فك العقدة واللغز الذي لم تستطع استيعابه.
حلقت الطائرة ... نظرت غالية إلى البحر ... بدأت تناجيه: آه أيها الحبيب أتراك ستفهم ما أقول ... أنا غاليتك ... ابنة اليوم ... أنا غاليتك الجديدة ... أعلم أنك تفهمني وأن أمواجك تحاول التحليق في هذا الفضاء لتقول لي: هنيئا لك يا غالية، انتصارك وحريتك. آه أيها البحر أتراك تصدق ما حدث ... ما أعجب هذه الدنيا وما أغربها وأغرب ما فيها أن ما يعذبنا قد يصبح سبب سعادتنا فها أنا عشت حياتي يعذبني سري الخطير ... يشقيني ... يشردني ...وعندما أكتشف أنه لا سرّ عندي أسعى لإيجاده ولكن، كي يسعدني ويحقق ذاتي.

( كاتبة مغربية مقيمة في النرويج )
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي