الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث الروح

أحمد الخمسي

2008 / 1 / 10
المجتمع المدني



لست أدري كيف، أثرت الزميلة لطيفة الفاطمي الدكالي في عمود هذا الاسبوع جزئيا، وقد اقترحت علي المشاركة في حلقة من برنامج "مكان ومسار". في الحقيقة، حركت المواجع. لكنها ساهمت في تجميع حشرجة الروح، وقد ساهم مدير أكاديمية الحسيمة في تلفيق مجلس تأديبي عثرة في الطريق، وكرس مدير أكاديمية طنجة تطوان صنعة قديمة من التجاهل المصطنع لأنوار شعت في أرجاء الوطن. وكل على طريقته، جدد العهد القديم بظلماته، لتبييض سيرته الشخصية، لكن الأمراض العضوية آخر مناسك العمر، لكل طامع في ترتيب موجز حسن السيرة، على حساب سير الآخرين وكأنها دفتر وسخ لتعلم الترقي المهني وسط الادارات المركزية. قد تلطف ما يأتي في خاتمة العاقبة.


إن الذين يؤدون أثمان متنوعة ليرتقي المحيط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للبلد الذي يتشرفون بالانتماء له، يقرأون سير الشعوب والأمم. فيجدون الاستقرار والطمأنينة مرابطة في بيوت الجبناء والأنانيين الذين لا يرون في أفق الحياة والممات غير أنفسهم. ولن يكون لنا شرف المنفى والتشرد والاعتقالات والتهم الجاهزة، سوى لينهض الجيل الموالي من الإناث والذكور. ومثل كل أبناء الشعب الذين يتعلمون من التجارب الحقيقية، فكل الذين حرصوا على خدمة المحيط الاجتماعي الذي رباهم وترعرعوا وسطه، غالبا ما أدوا الثمن مقابل رفض البهدلة والإذلال. ولعل امتحان محمد بن يوسف بن الحسن أكثر البراهين قوة بالنسبة للماسكين عن طريق الوشاية والنكاية تنقيط الرقي المهني. وللمفرنسين حجة نابليون بونبرت واسكندر ذو القرنين.

و لو أن التعاسة في كثير من الأحيان لا تترك للضحايا لحظة للاختيار. بل يجرفهم التيار العام جميعا دون رحمة. مما يقوي عند عموم الناس اتجاه التفكير بفساد النظام بدل تحميل الأفراد أكثر مما يتحملون. إلا في حدود القبول بمنصب وازن مقابل تصويب الأذى تجاه أفراد الشعب، مع القبول بوظيفة الإذلال والترويض، في منطقة لا وسطية فيها بين الأعيان في الأعلى والأعيان في الدرجة الأدنى من الهرم الإداري ولو مدير أكاديمية.

ولعل التذكير بلحظات مرة، ستسعف أكثر الناس صمتا للحوار الداخلي، قصد بدء حديث روح لأرواح يسري، كما غنت أم كلثوم. فهناك مواجع مكان وهناك عثرات مسار. عبر السفر والاستقرار.

أول سفر إلى الدار البيضاء (17/9/1973) انتهى بعد أربعة أيام بمأساة. كانت فيها مقايضة القدر معي غالية، توفيت الوالدة (20/9/1973)، ولم أتمتع بملامسة الجثة لأتيقن أن من وضعتني مخلوقا في هذا العالم قد غادرت الحياة فعلا. وقد ذقت بسبب هذا السفر الخاطف الألم العاصف الذي لم يهدأ إلى اليوم. لأنها ودعتني "صح من ظالم" لأرجع في اليوم الرابع وقد سجلت في دفتر الحالة المدنية ضمن الأموات.

أول سفر إلى مراكش (17/3/1975) تم، لكن بداية الطريق من الكوميسارية في بلاص بيتري بالرباط (بعد أربعة أيام من الاعتقال 13/3 /1975)، و كان الطريق داخل الفاركونيط، بالبانضا والمينوط. أما نهاية الطريق فكانت كوميسارية "جامع الفنا". وهناك التقيت من يوجدون اليوم في مناصب عليا: مثل وزير التعليم: أحمد اخشيشن فالجول،

أول "سفر" إلى الخارج، عبر باب سبتة، رفقة حكيمة ودلال وسوسن، في يوليوز 1992، نودي علي للمكتب رقم 5، بمكاتب شرطة الحدود بالجمارك، لأبلغ رسميا وشفاهيا، أن الباسبور الذي تسلمته في شهر مارس من نفس السنة، قد ورد فاكس من الإدارة العامة للأمن الوطني يأمر بسحبه مني. ما العمل؟ هل نظهر للبنتين السبب الحقيقي لعدم خروجي معهما. أخاف أن يترسخ في قلبهما كره المغرب. وقد اعتقلنا نحن الإثنين، أحمد وحكيمة، من أجل عزة المغاربة والمغرب. فكانت الغصة غصتين. علما أن الباسبورات كانوا كيتباعوا للحشايشية اللي ولاوا كبار اليوم ضمن المافيا دالمخدرات. وفضيحة كاستييخو كانت قد اشتهرت بداية التسعينات.

أول اختيار مكان للتعيين في الخدمة المدنية، طلبت التعيين في أزيلال، لم تكن أية حركة أمازيغية بعد ظاهرة بشكل اليوم. لكن الاتجاه العروبي الذي كان يملأني من الداخل، كان يضع في أدني جملة بسيطة، إذا كنت تحب بلدك، وتكره الهيمنة الأجنبية، فلك إخوات وإخوة لم يعرف المغرب لغة قبل لغتهم، فلا الكتب تكتب بها ولا أبطال مناطقها مخلدين في كبريات-المدن ولا في البلدان الشقيقة والصديقة، إنهم سكان المغرب الأولين، الأمازغ.

أول تعيين في الخدمة المدنية، الفقيه بنصالح. الوطاء بدل الجبل. العرب بدل الأمازغ.

أول تعيين في الوظيفة العمومية تعيين عقابي، لأنني لم أطلبه قط.، في تطوان الجميلة. كنت اندمجت ـ أنا "الجبلي وُكَاّل البصارة راسه قاسح" حسب شهادة ضابط الشرطة القضائية البكاي سنة 1975ـ مع العروبية، من حيث سلاسة وشفافية نفسيتهم. فلم أفكر قط الرجوع إلى المناطق الشمالية، بل طلبت ثلاث مرات القنيطرة، لأن شتم الضابط البكاي لانتمائي الجهوي، أفرز لدي مبكرا اتجاها عولميا، بقاموس اليوم، عالميا أمميا بالقاموس الذي ارتبط بالحرب الباردة وما قبلها، أتجاها أمميا. فكأنني أردت أن أتبث للبكاي كم ضاحك اختياري منفتح على كل المغاربة متضامن مع المهمشين منهم في الجبال. أبلغ منه وطنية، لأنني عروبي مناصر لعزة المناطق الأمازيغية وكبريائها.

* * *

بصمات أخرى مختلفة نوعيا:

1)
منذ مطلع 2005، كان الإعداد جاريا لتحويل القطاع السمعي البصري، من الناحية الإدارية إلى شركة إنتاج إعلامي وفق قواعد المنافسة والجودة في البرامج من حيث القضايا ومن حيث مهنية التواصل السمعي البصري. علما أن قطاعا يصنع العواطف ويكيف النفسية مع الأحداث ويشذب شجرة الرأي العام الباسقة، لا يسهل على أحد الادعاء والقدرة على المبادرة السهلة وهو يتهيأ لإلقاء الكلمات والأفكار والقضايا، هكذا في الفضاء العام، عبر الأثير. مما يضع في أدق اللحظات معادلة ماكس ويبير ما بين سلوك القناعات وسلوك المسؤولية.

وككل قطاع، يحتك الفرد المغربي بالمؤسسة. فيجد نفسه أمام الخبرة والعلاقات العامة و والنفسية والرصيد الثقافي والمعاناة والطموح والمصلحة والموقع وموجز السيرة الشخصية، ومن ثمة المؤسسة بتعقيداتها. ويتحدد الاستمرار في الارتباط أو ينقطع، ويتقوى أو يضعف، حسب المعادلة المركبة من العوامل المذكورة.

2)
يمكن القول، لمن جرب العمل المجتمعي المستقل، ضمن الحركة الاحتجاجية بكل أصنافها، أن الظروف العامة كانت (وربما مازالت) تهيئ الأفراد للمخيال ذي البعد الواحد أو الثنائي اللونين من حيث التقييم والتصنيف: الأبيض أو الأسود. مما يقلص الطاقة التوقعية إلى احتمالات ضيقة وقليلة من حيث العلاقة مع الواقع الحي الأغنى، ومن حيث مسؤولية التأطير لعموم المجتمع.

مما جعل الغالب الأعم من أطر الحركة الوطنية الديمقراطية يتخيلون الأفراد المنخرطين في العمل الاداري، من حيث القيم والتوجهات وقياس المنافع ومعايير المعاملة، وكأن الإدارة لم تستقطب سوى أشلاء البشر. بينما الرصيد الضخم الغني المتنوع بالنماذج والأصناف من البشر موجود في المؤسسات والإدارات. والحقيقة أن الصورة النمطية عند المعارضة حول المحسوبين على القطاعات الرسمية والعكس صحيح، لم تنزل عن مستوى الملاسنة القدحية، يكاد يجاري اللون الحاد الذي نسمعه اليوم كلغة للتراشق بين الطرفين بالقاموس اللبناني: الموالاة والمعارضة. وهذا لا يمنع الرصيد الهام لدى المغاربة من التعقل والنسبية والاعتدال في الممارسة اليومية. لكن السلوك الحاد اقترن بافتراض الموقف المسؤول. بينما اقترنت المرونة باللامبالاة والاستقالة من الشأن العام. مما أفرز ثنائية وسكيزوفرينيا مخيبة للثقة.

ولا يخرج تقويم أحد عن هذه النمطية الثنائية الفقيرة سوى من كان له الحظ في التربية والتوجيه العائلي الأول، والأسري الثاني، أو من عانى في الممارسة اليومية على النحو الذي جدد لديه معايير التقويم على كيفية حكمة سيدنا الخضر (ذكر أحمد محفوظ أنه من بين النماذج المعالجة عند شيخ المتصوفة ابن عربي المرسي الأندلسي= إغراق السفينة لإنقاذها من الأعداء).

3)
إن التخلص من هذه النفسية لا يشكل الوجه السهل من الخبرة في حياة الفرد المغربي مع المؤسسة. خصوصا إذا كانت المؤسسة من النوع الذي اعتبره السياسيون من القلع المرتفعة بين المواقع المحصنة للدولة والسيادة بالمعنى الهيمني العالم ثالثي حيث الفرد لا يساوي "وقيدة طافية". والحال أن الإعلام السمعي البصري، في عهد الحرب الباردة شكل الموقع الرمزي بامتياز للسيطرة التامة على الدولة نفسها (اقتران الانقلابات العسكرية بالسيطرة على مقرات الإذاعة والتلفزة)، خصوصا مع الاحتكار الشديد آنئذ من طرف الدولة لهذا السلاح الناعم، ذي الحدين، حد توجيه الرأي العام بكيفية مغرضة للفئات المتدنية الثقافة في المجتمع، وحد المطابقة بين إفلاس الاعلام العمومي وبين افلاس الاختيارات العمومية للدولة، إلى درجة المطابقة بين كراهية الناس للسلطات العمومية وما يرمز لها وعلى رأسها الإعلام العمومي.

4)
إن التموقف والتموقع الحادين قد وفرا للمغاربة تجربة خصبة. سواء عبر الذات أو بالمعاينة. وقد شكلت الحرب الباردة، طاقة استقطابية، على الصعيد العالمي (1945-1989)، ومحيطا متلاطما،على صعيد المقارنة بين القناعات والمسؤوليات، لامتحان الانتماء الديمقراطي، بنفس الحدة التي شكلته فترة الحماية الاستعمارية للاستقطاب الوطني، ما بين الممارسة العملية وادعاء القناعات، حسب الوسائل المستعملة والقدرة على التكييف المنتج للقضية وللظرفية.

واليوم والمواطنة العالمية تحاسب درجة الفعالية في استعمال الديمقراطية والوطنية معا، لفائدة الفرد أو ضده، تنتقل الصلاحية للمؤسسات المحلية أو الوطنية أو العالمية، حسب المردودية المحصلة، فلم تعد الخصائص الأنتروبولوجية الضاربة في القدم والمحلية والعرقية، ولا تقليدانية الافكار الماضوية، ولا المنظمة الاجنبية، ولا الممول الغريب، وعاء تهمة جاهزة. بل فقط، أصبحت العولمة مثل بستان الأقلية الدينية بالمعنى العنصري المنغلق"الماكلة فيه، واللعنة فيه".

وضمن هذا الخليط، تحول ما كان يعتبر خلطا، إلى اختلاف في التصور. وما كان مناقضا، أصبح مناسبا أو ملائما للظرفية ومستجيبا للاكراهات. واتسعت مساحة البرغماتية في الترتيبات والأولويات. إن الاكتظاظ بين مفاعيل الحركة الديمغرافية والتقنية والنفسية والبيئية، ضغط أكثر على عامل الوقت في الاقتصاد اليومي للفرد. وانخفضت درجة الجودة عند جميع المجتمعات. بما فيها تلك المتعودة على الدقة والتنافسية والتجديد والتسابق التكنولوجي. واتسع الفارق العمودي بين الأجود والأسوأ. ومست التحولات الكمية الجذور النوعية للحركات الاجتماعية بمختلف مشاربها. فكاد يتنكر الليبرالي لبقية فروع الحداثة، كما اتسعت الهوة داخل الساحة المصطبغة بالتدين حد الدهشة أمام الفوارق الفاصلة بين الحجاب الماضوي والحجاب الموضوي. ناهيكم عن موروثات التكفير والتخوين والبهدلة على أقرب مسافة من الرأي المخالف.

هذا التلاطم في عباب العولمة الهوجاء، ينعكس على الوجهة النفسية بما اتسع من حالات القلق والضيق النفسي وما إليهما من الحساسيات والأمراض التنفسية والجلدية وامتدادها في الكآبة الراقية؛ وتداخل العلائق الفئوية والمهنية والعمرية؛ مقابل تهالك التراتبية المعتبرة ضوابط قيمية واجتماعية، قبل بضع سنين فقط.
مناسبة نهاية السنة، مناسبة للبدء بمراجعة أسلوب لم يستخرج منه العتاة سوى طاقة لمزيد ومزيج من الصلف والقرف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #أخبار_الصباح | مبادرة لتوزيع الخبز مجانا على النازحين في رف


.. تونس.. مؤتمر لمنظمات مدنية في الذكرى 47 لتأسيس رابطة حقوق ال




.. اعتقالات واغتيالات واعتداءات جنسية.. صحفيو السودان بين -الجي


.. المئات يتظاهرون في إسرائيل للمطالبة بإقالة نتنياهو ويؤكدون:




.. موجز أخبار السابعة مساءً - النمسا تعلن إلغاء قرار تجميد تموي