الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحالمون والازمنة الفاسدة

مهدي النجار

2008 / 1 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


نحسدهم أولئك الذين تخلصوا نهائياً من ضغوطات الواقع وعذاباته المريرة وارتموا بكل ثقلهم، النفسي والعقلي، في أحضان التوهمات الجميلة. لا ريب نحن أيضاً الذين نزعم بإنشدادننا المتين لارضيات التاريخ المحسوس ونحاول مجابهة الواقع في شروطه المتوحشة ، نحاول تفسير التباساته وغموضاته وترهلاته الحياتية والفكرية بأقصى طاقات اشتغال العقل، ترانا أحياناً مأخوذين بهذه الفضاءات الطوباوية البديعة التي تضفي على آلامنا وفواجعنا المعاني وتسوغ مصاعبنا وتجعلنا نستريح في خيال رطب ، يبعث الحيوية في نفوسنا ويخرجنا ولو للحظة من صداماتنا مع القهر اليومي ومساوئ المعيوش، أترانا نستطيع أن نذهب بعقولنا إلى ابعد الحدود من دون استراحات خيالية عذبة، نهجر بها ساعاتنا المليئة بالانهيارات والرداءات والعفونات؟!… فعلها ذاك الفرنسي لويس التوسر، لم يستمتع ولو لحظات بالخيال الرطب، كان مغموراً من رأسه إلى أخمص قدميه في الكتاب الكبير الذي هو العالم في وجوده ذاته ، كان باحثاً وناقداً في آن ، كان مثقفاً إشكاليا من طراز مذهل، شكل فكره حالة تساؤليه فريدة أودت به إلى مصاف من بعقولهم مس ، حتى ذاك الذي طواه التاريخ، السياسي والمثقف الصعب المران، المؤسس الكبير للطوباويات البروليتارية، نعني به دافيدو فيتش تروتسكي، عاش لحظات حلم زاخرة، صف فيها المعذبين في كل الأرض وأعلنها ثورة كونية، يقول: "لا يمكن أن اكف عن الإيمان بالعقل،والتضامن الانساني، كلما تقدم في العمر اشتد بي الايمان، انا لم اعرف في حياتي المأساة الشخصية، الهزائم وخيبات الألم لا تمنعني من أن المح وراء الهزائم الحالية نهوض المعذبين في كل مكان" ، لم يكن في حسبان نبوءاته إن جيوش الكمبيوتر والتكنولوجيا ستقوض مشاريعه العالمية، كان عديم الشفقة مع نفسه ومع الذين من حوله، نخر المنفى السيبيري عظامه، تجرع مرارات المنافي القاسية وفي نفس الوقت تفنن في طرق الهرب منها بجوازات سفر ملفقة،انتحرت ابنته زينايدا من الوجع والهلع والمطاردات والاستجوابات، بينما تراجع روجيه غارودي بخطوات سريعة ومرتبكة عن "العقل الجدلي" ليرمي بنفسه بعد عناء مرهق فوق ضفاف بلا واقعية، أتعبته الواقعية التي خاضها على مدى اكثر من ربع قرن، شاخ وصار مثل طفل بحاجة إلى هدهدة رومانسية تُخلصه من معارك العقل، كتب: "من أكون في اعتقادكم"، رسم في هذه الرواية عالماً آخر غير العالم الذي أرتآه عبر صرامته المؤسسية، انتقل إلى عالم طوباوي مفعم بالأمل الأسطوري، من محور التمرد بكل مراحله يبدا غارودي ببناء خلاق لعالم زاه ما زال في الضفاف الأخرى،يبحث عن أطوار تكوينه في مأساة البشر وأوجاعهم ورفضهم وتمردهم، منقباً عن إيقاعه الداخلي ومشاركًا في ذلك الإيقاع، نسيج من عالم متخيل زاهر، يصنعه غارودي من خلال الحركة والتذكر والحلم والانتظار والخوف، من ذاك العالم المتفسخ تحدث ولادة جديدة لعالم حي ينبض فيه الفرح: "أترى سيكون من الممكن صنع عالم يخلق فيه البعض البعض الآخر؟! هذه قضية أخرى ،ولكن إن حدث ذلك،فسيكون على الأرجح عالماً يشبه هذه الزهرة: ستكون ثمة شمس لا تنفد، ولن يحاول أحد أن يكبر على حساب الآخرين بل يستمد حاجته من هذه الشمس" !!
حسناً فعلوا أبناء جلدتنا من العرب والمسلمين حين نزعوا العقل عن ثقافتهم وأرخوا العنان للقال والقيل وسر ديات العنعنة(قال فلان عن فلان عن فلان…)، تاهوا بأوابد الكلام وغرائبه، منذ أن دشنوا تاريخ الثقافة بمهزلة: "من تمنطق فقد تزندق" وطردوا الرأي المجتهد،والفكر الناقد الفاحص شر طرده، عفروا تربة النظر من بذورات التساؤل والتفكر، هدروا دم الرافضين للاعوجاجات والاستبدادات،باسم الزندقة تارة وباسم الهرطقة تارة أخرى،هؤلاء الروافض حاولوا الاقتراب من الحق، الاتجاه نحوه، حاموا حول وهجه، حول نار وجهه، كان رفضهم كما يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني: "منازعة الحق بالحق للحق"، ذبحوا شاعر العقل بشار بن برد، صلبوا المتصوف الحسين بن منصور الحلاج على دجلة ثم احرقوا جسده، كان متهوراً جسوراً يروم اقلاب الدولة، صرخ شاعر البصرة وواعظ مسجدها الكبير، صالح بن عبد القدوس مستنكراً بوجه الخليفة: علام تقتلني؟!…لكن السياف اخذ غفلته، فإذا رأسه يتهدهد على النطع .
لم يشتروا بفلس احمراوراق:تهافتات ابن رشد، وامتاعات التوحيدي، ورسالات المعري، وتهذيبات مسكويه، ومقدمات ابن خلدون، ومواقف النفري، وفتوحات ابن عربي، واشراقات السهروردي…الخ، نثروها نتفاُ في مهب أزمنة النسيان، جعلوا الذات في عطالة مستطيلة على مدار القرون، انقسموا إلى فئات اجتماعية ومذاهب متناحرة ومتصلبة الشرايين، راحت هذه الفئات تنطوي على نفسها وعلى لهجتها وعقائدها السحرية والشعوذية، استراحوا بفضاءات أسطورية منهوكة دب في عظمها التكرار والإعياء فتحولت إلى سماجات ونواحات، يقول محمد اركون: "حين تشيخ الأسطورة تتحول إلى خرافة"، ناموا أبناء جلدتنا نومة عميقة لا صحوة بعدها ولا نهضة، كأن تطور العالم وفتوحاته المعرفية لا تعنيهم،ناموا تحت وصاية مضروبة على الجميع من قبل أنظمة استبدادية ضعيفة المشروعية،إن لم تكن معدومة المشروعية، يسميها البياتي: "مسلات ملوك البدو الخصيان"، وها نحن جميعاً نسير في تاريخ مقلوب، فبدل أن يسير بنا إلى الأمام والحداثة، راح يقذف بنا إلى الخلف والقدامة، إلى أزمنة بدائية قاحلة، بموجات بشرية مذلولة،تعبى،عارمة،لا أحد فيها يدري: من يضحك على مَن؟!
ـــــــــــــــــــــ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سائقة تفقد السيطرة على شاحنة وتتدلى من جسر بعد اصطدام سيارة


.. خطة إسرائيل بشأن -ممر نتساريم- تكشف عن مشروع لإعادة تشكيل غز




.. واشنطن: بدء تسليم المساعدات الإنسانية انطلاقاً من الرصيف الب


.. مراسل الجزيرة: استشهاد فلسطينيين اثنين بقصف إسرائيلي استهدف




.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش إرهاق وإجهاد الجنود وعودة حماس إ