الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عاشوراء: موسم المنابر و حصاد الوجاهة!

نذير الماجد

2008 / 1 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كانت الوجوه مشدوهة و الأنفس واجمة مضطربة تحمل كبت السنين و نكبات الماضي المثخن بالجراح.. تحت تلك الأعواد الخشبية تتراقص الأجساد على وقع الألم.. تصارع سواد الليل و تجتره بلا انقطاع.. كانت الجموع تمارس طقوس الوجع في تلك الليال العشر من كل عام.. تعيد نفس الطقوس و تسترسل في ابتلاع الغصص المتراكمة مع آهات الليل الممتد و الصمت المدوي الذي لا يقطعه سوى صوت النياح.. في ما يشبه بجلسات التفريج الهستيري.

أمةٌ مكتئبة.. تدشن عامها الجديد بكبت القهر ليرتد عنفوان الثأر على الذات و تتحطم و ترتطم بواقع المأساة، حينها يبدأ موسم لطم الوجوه المعرورقة و الصدور العارية، الليالي السوداء الحالكة في مطلع كل عام تكفي لتعبر بجلاء عن سودواية الحاضر و قتامة المستقبل..

في مطلع كل عام يبدأ "موسم المنابر" و يبدأ استعراض الوجاهة و النفوذ، في الأيام التي كان يفترض فيها أن تينع يذور التمرد لحصاد التغيير و النماء و كل ما هو أفضل لمجتمعنا و واقعنا، فإذا بنا نعيد إنتاج المأساة و ابتلاع الهزائم!

في موسم المنابر تبرز الوجاهة كعنصر مؤثر في تشكيل المشهد العاشورائي، حيث يتنافس النائحون و المعممون في جذب أكبر عدد ممكن من الجماهير البائسة التي ترقب الجديد و لا جديد على الإطلاق، فعلى امتداد القرى و المحلات تجد المجالس من كل طيف و لون، و بين هذا الزقاق و ذاك هناك موكبٌ ينشد حضور المعزين، لا مشقة أبدا في المشاركة، فالمجالس و المواكب و الفعاليات كثيرة جدا، بحيث أن بإمكانك الاستماع و المشاركة و أنت في منزلك! مكبرات الصوت تكفيك مشقة الزحام و الحضور بين الحشود المتراكمة في الطرقات و الأزقة!

التلاوات الحزينة و التراتيل التراجيدية المشبعة بالحزن تتردد في اليوم الواحد مرات عديدة، نفس الوجوه و الآهات تتكرر، و ذات الديباجة في كل محفل، إذاً لماذا لا نجد محفلا مركزيا و موكبا مركزيا و لو لليلة واحدة هي ليلة الخاتمة، ليلة العاشر من محرم؟!، تبريرات كثيرة يجابهك بها المعنيون بالأمر أي أصحاب المآتم و المواكب السيارة، إلا أنها جميعا لا ترتقي لأهمية الوجاهة و النفوذ سواء من قبل التيارات الدينية المتصارعة و التي تكرس ظاهرةً مميزةً يمكنني أن أسميها : نجومية الفقهاء و المراجع الذين لهم المركزية و الأسبقية في التطييف و خلق التيارات، أو من قبل القائمين على المآتم و الأوقاف و الحسينيات. أليست تلك الحسينيات تصطبغ بصبغة العشيرة؟ و العائلات الكبيرة؟ أليس من الواجب عليها كلها أن تحيي هذه المناسبة و التي تحتل الصدارة بين المناسبات الدينية عند الشيعة؟ إذاً لابد من صيغة تتجاوز المركزية، إننا هنا بإزاء فيدرالية خاصة هي فيدرالية المآتم التي يجب أن تتحلى بسلطاتها المحلية!

أما مضامين خطابات تلك المنابر فتلك أحجية أخرى تحتاج إلى تفكيك! إنه خطاب شفهي بامتياز! يتناول قضايا ثقافية و تاريخية دافعها الأساس تعزيز العصبية دون الارتقاء بالواقع و تحقيق الطموح، ذلك الخطاب الموغل في تقريع الذات و تصويب اللعنات عليها و على أسطورة الشر الموهومة التي تُسقط عليها كل العدوانية المتراكمة يتراوح في مكانة، يترنح بين تشريق و تغريب دون إدراكه لحقيقة استلابه، كل القضايا التاريخية و الدينية و المذهبية يتم تناولها بإسهاب إلا قضايا هذا المجتمع و الإنسان فيه، و أنا هنا لا أعمم لأنني أدرك أن هناك من بين هذه المنابر و المحافل الكثيرة من تهتم بذلك، إلا أنها لازالت تعاني من التهميش أو أنها لم تنجح في اختراق المألوف إلى الحد الذي يمكنها من التغيير و الإصلاح بحيث تأخذ على عاتقها طرح القضايا المعاشة بجرأة و شجاعة.

في موسم المنابر تزدهر الثقافة الشفهية، فتحتكر المشهد العاشورائي كله، دلوني على منبر واحد يقدم مادةً فكرية معمقة تستهدف النخب و الجيل المتطلع إلى خطاب معقلن و ليس خطاب انفعالي عاطفي!؟ إن أغلب تلك المنابر لا تقدم إلا كل ما هو سطحي و انفعالي و مبسط و كأنهم يهدفون بذلك إلى استجلاب البركة ليس إلا! لازال الخطاب المعتمد حتى الآن يستهدف فئات اجتماعية معينة هي تلك الفئات المسالمة الفاتيكانية التي لا تريد لنفسها الضجر و الصداع! إنه خطاب عجوز تجاوزه الزمن.

من هنا نلمس أهمية المقترحات الواعية التي قدمها عدد من المثقفين في إقامة مراكز بحثية سنوية، حيث بإمكان هذه المراكز تقديم بحوث سنوية تعالج النهضة الحسينية و تدرسها وفقا لمناهج العلوم الإنسانية و الانثربولوجية الحديثة، و ذلك جنبا إلى جنب مع العادة الدارجة في المآتم و الحسينيات، بالإضافة إلى منح التوجهات الفكرية الأخرى فرصة تقديم نفسها و مخاطبة الجمهور، و طرح تفسيرها الخاص حول الإمام الحسين و نهضته، لماذا يتعين على الجميع تلقي رؤية و تفسير أحادي لهذا الحدث التاريخي؟ لماذا لا نجد منابر متعددة في أطروحاتها؟ كل الأفكار و المعالجات التي تقدم في موسم محرم إسلامية صرفة في حين أن مجتمعنا قد شهد ولادة تيارات أخرى لها مذاهبها الفكرية الخاصة، لكن لا يسمح لها أبدا بارتقاء المنبر لتكون لها مساهمتها الخاصة في بلورة و صناعة المشهد العاشورائي.

حتى الفعاليات و الأنشطة الأخرى التي تمكنت من الإفلات من سلطة المنبر لا نجدها إلا بلون واحد فقط، أمثلة كثيرة ترد في ذهني، المسرح كمثال و الذي أدخل في المشهد العاشورائي مؤخرا لازال يرزح تحت سلطة التيار الديني التقليدي، حتى أن المؤثرات الصوتية أخضعت هي الأخرى لهذا التوجيه، فليس من المتاح -مثلا- إدخال الموسيقى كعنصر صوتي مؤثر لأن ذلك يتعارض مع الخطاب السائد الآنف الذكر.

كنت في أحد المواسم الفائتة في زيارة للبحرين، و قد شهدت الفعاليات المتنوعة التي لا تقف عند حد الخطاب المنبري و حسب، بل تسعى لتجاوزه عبر إقامة أنشطة و فعاليات متنوعة و غنية في محتوياتها و مضامينها.. ما لفتني هناك هو ذلك الموكب الذي يسير في أزقة المنامة على عزف الموسيقى التراجيدية الحزينة و يشهد الله أنني تفاعلت كثيرا بل ربما أشد من ذلك النياح المتكلف الذي يتصنعه في الغالب هذا النائح أو ذاك الخطيب، حين يبذل جهدا كبيرا من أجل إضفاء مناخ حزين يحفز الدموع على الانسكاب، لكن دون جدوى فالمتلقي الذي هو أيضا هاجسه الدموع، يجهد نفسه فيتباكى كثيرا إلا أنه يبكي قليلا!

و رغم أنني هنا لا أدعى تقديم مقترحات نهائية و ناجزة حيث أنها لا تعدو أن تكون قناعات في طور التبلور إلا أنني متيقن تماما بأن ثمة خلل و نقص ما يعتري مراسمنا العاشورائية هو المسؤول عن حالة التبرم و الفتور في موسم يفترض به أن يكون على العكس تماما. و هذا ما لا يتوافق مع تطلعات القوى الحيوية التي تعج بها مجتمعاتنا.

لقد ارتبط اسم الامام الحسين بالتغيير و ثوريته، لهذا كان شهر محرم زاخر بالثورات و الحركات المطالبة بالتغيير و النهضات التي تستمد أوارها من الومضات الحسينية في كل موسم عاشورائي، لأن الحسين عليه السلام قدم نفسه من أجل الإنسان و صلاحه و خيره و لأن حادثة كربلاء غنية بالعنفوان و الطاقة المتوثبة التي تأخذ من زخم الشهادة أرفع معاني الإيثار من أجل الجماعة و الأمة و سعادتهما.

في كربلاء تتضخم عذابات الإنسان لتبلغ الذروة في عملية تماهٍ مستمرة مع كل إنسان يعاني من لسعات السياط و وجعه، لأن في عرف عاشوراء ليس هناك استثناء في تقصي المعاناة و العذابات، يجب أن يشعر من أراد اقتفاء أثر الحسين عليه السلام بأثر كل صفعة و كل ألم و كل و جع و كل جوع و كل فقر و كل مهانة و كل عذاب على نفسه هو ذاته، كأنه يقول: "إنني أحس على وجهي بألم كل صفعة تُوجّه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وجد الظلم فذاك هو وطني" هذا هو الطموح و المؤمل من هذه المراسم و الطقوس أما أن تتشوه عاشوراء و تصبح مجرد موسم لجلد الذات و حصاد الوجاهة فإنها تفقد كل بريقها و عند ذاك لن نجد سوى الجعجعة و لكن من دون طحين!









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال


.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس




.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال


.. قطب الصوفية الأبرز.. جولة في رحاب السيد البدوي بطنطا




.. عدنان البرش.. وفاة الطبيب الفلسطيني الأشهر في سجن إسرائيلي