الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفجوة بين صُناع القرار وصُناع الأفكار

وليد الفضلي

2008 / 1 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تتسارع التحولات التي تشهدها الدول والمجتمعات في شتى المجالات ، وباتت هذه التحولات تشكل تهديداً حقيقيا لاستقرارهما، نظراً لأنها لم تأت نتيجة لعمليات التنمية الداخلية ، بل جاءت وفَرضت نفسها ونتائجها كأمر واقع وحتمي لا يمكن الفكاك منه، ومن دون مراعاة للخصوصيات، إذ أنها عملت على إذابة جميع ألوان الطيف الإنساني والثقافي والسياسي في قالب وأنموذج واحد مهيمن على مفاصل حركة الحياة .


يقابل هذه الهيمنة تضاؤل دور مراكز الدراسات التي يفترض بها أن تقوم بالمهام الرئيسة في عملية مواجهة تلك الهيمنة الخارجية ، إضافة إلى رصد منهجي لحركة التحولات السياسية والاستراتيجية الحاصلة على مستوى العالم، والتنبؤ بها، وبما سينتج عنها من تطورات متلاحقة ، عبر بناء رؤية كليانية، وتكوين منظومة نشطة من قيم التحديث التي تحتاج لها كل من الدولة ومؤسساتها ، والمجتمع وتكويناته تبعاً لأولويات كل مرحلة من مراحل النماء والتطور ، إلا ان مراكز الدراسات والبحوث في العالم العربي تواجه مجموعة من التحديات تحول دون إطلاقها فعالياتها المطلوبة ..ومنها :

أولاً : اتساع أبعاد الفجوة بين صُناع القرار وصُناع الأفكار ؛ فعندما نتأمل العلاقة بين صناع القرار السياسي في العالم العربي من جهة والباحثين ، ومراكز الدراسات من جهة أخرى، نجدها علاقة أقرب إلى القطيعة منها الى التواصل الشكلي . فلدى صناع القرار هواجس تجاه المفكرين و الباحثين ومراكز الدراسات تتركز بشكل أساسي على الخوف من تقويضهم لآلية صنع القرار السياسي التي هي واحدة من أهم أدوار أصحاب القرار السياسي ، بالإضافة إلى عدم قناعة بعض السلطات السياسية بفاعلية البحاثة الاستراتيجيين اصلا ، وأن أفكارهم هي مجرد هوامات نظرية لا قيمة فاعلة لها على أرض الواقع .

ويتضح ذلك في قيام الدولة في العالم العربي بإرسال المئات من أبنائها للدراسة في أفضل الجامعات العلمية ليعودوا بعد ذلك إلى أوطانهم وينشغلوا باعمال بيروقراطية واخرى مكتبية لاطائل منها ،في حين أننا أحوج ما نكون الى خبراتهم المنهجية والبحثية ، ومن يخرج منهم إلى عالم البحث وصناعة الأفكار، فإنه في الحقيقة يفقد الامل في أن تجد أفكاره آذانا صاغية من طرف سلطة صناع القرار في المجتمع ، فتتقاعد أفكاره مبكراً، ويتحول مع الوقت إلى ضفاف السلبية والتبرم.. واستطرادا الى التواري والغياب .

التحدي الثاني، هو عجز مراكز الدراسات والباحثين عن الوصول إلى المعلومات الإحصائية الدقيقة، بحجة أن هذه المعلومات محفوفة ومختومة بالسرية ،ما أدى بدوره إلى عزل الباحث عن تكوين قراءة موضوعية وتطبيقية دقيقة لميدان دراسته ، واتجاهها إلى البحث النظري والمنهجي ، أو لجوء بعض الباحثين مجبرين إلى الاستعانة بأرقام وإحصائيات قديمة ، أو بأخرى أصدرتها جهات خارجية غير موثقة وتدور حولها الشبهات .


التحدي الثالث، فقدان قيمة البحث العلمي في المجتمع والدولة، والاعتقاد أن النشاط البحثي ما هو إلا حاله ترفيه تطلع بها النخب المتعالية من بروج عزلتها عن مجتمعها وآلامه اليومية ، ما نتج بدوره قلة في عدد الباحثين ، ووهن المكانة الاجتماعية للمشتغلين في حقل الدراسات، وبالتالي قلة في عدد مراكز الدراسات ...هذه اذا كانت لدينا عربا مراكز دراسات بالمعنى العلمي للكلمة...وحتى الحصن الأخير للبحث العلمي، وهو المؤسسة الجامعية هدمته المكاتب التجارية التي تجمع فتات الأفكار والكلمات وتقدمها سلعة رخيصة لمن يرغب بشرائها من الطلبة ، ومع الأسف تعدى ذلك ليشمل بعض الأساتذة والأكاديميين الضالعين في العملية التربوية، وبأساليب أكثر احترافية.. كمشاركة الآخرين في أبحاثهم من دون أية مساهمة تذكر في البحث، أو استشعار للقيمة العلمية التي يتوخاها ، وذلك كله بغية الحصول على درجة وظيفية أعلى في مقابل حصول الطرف الآخر المشارك على مبالغ نقدية مغرية .

وحتى بعض مراكز الدراسات التابعة للمؤسسة الجامعية، انحرفت عن دورها الطليعي في صناعة البدائل الجديدة ، ونقد ما هو قائم من مشاريع وأفكار إلى مؤسسة رمزية وكرتونية ، تعمل وبشكل أساسي على تبرير حالة الهيمنة ، والتخلف المتغلغلة في بناءات الدولة والمجتمع ، والترويج لما هو سائد على أنه الممر الوحيد للعبور إلى فضاء التقدم والتطور الحضاري والإنساني .


التحدي الرابع يتمثل في ضعف التمويل والإنفاق المادي على البحث العلمي في العالم العربي، الذي يكشف فداحة الواقع المتأخر - والمعدوم أحياناً- لحضور مسألة البحث العلمي في سلم أولويات الدول العربية . وقد أشار الأستاذ أحمد شهاب في معرض دراسته (أين مراكز الأبحاث في الخليج؟) “الى أن مجموع ما أنفقته الولايات المتحدة الأميركية على البحث العلمي في العام 1989 بلغ مائة مليار دولار، ويقدر هذا بـ 26 في المائة من الناتج القومي، تحصل منها أبحاث الفضاء على 12 مليار دولار سنويا. ويبلغ عدد الباحثين في الولايات المتحدة 85 باحثا لكل عشرة آلاف مواطن أميركي.

أما إسرائيل ( من باب اعرف عدوك ) فهي الأخرى تعد من دول الإنفاق الكبير على البحث العلمي الذي وصل في العام 2000 إلى 3 في المائة من دخلها القومي، ويبلغ عدد الباحثين فيها 135 باحثا لكل عشرة آلاف مواطن إسرائيلي” .

كما لا يمكن حصر الاعتماد على إنشاء وتكوين مراكز الدراسات على القطاع الرسمي ، بل إن تاريخ حركة المجتمع الكويتي بالأخص تخبرنا : أن بدايات العمل التنويري كانت نتيجة سلسلة من مبادرات الخيّرين التنويريين من أبناء هذا المجتمع في إِشعال فتيل العلم والتغيير الإيجابي ، ونأمل أن يأخذ أبناء هذا الوطن ، والقطاع الخاص، ومؤسسات المجتمع المدني زمام المبادرة بإنشاء مراكز للدراسات والأبحاث تدعم مسيرة أوطاننا ومجتمعاتنا .


ختاماً إن قيمة البحث الأكاديمي التي تُبنى عليها الآمال في انتشالنا من الحالة الراهنة المُجمع على ضرورة إصلاحها ، تتطلب إيجاد استراتيجية وطنية جادة تعيد الاعتبار إلى قيمة البحث العلمي في المجتمع والدولة ، بالإضافة إلى سد الفجوة بين صُناع القرار وصُناع الأفكار ، وإعادة النظر في طبيعة العلاقة بين المعرفة والسلطة السياسية ، بإعطاء دور للباحثين في مجريات آلية صنـع القرار ، وإتاحة الفرصة لهم لإبراز وجهات نظرهم في القضايا التي تهم الوطن والمواطن ، وحثّهم على تقديم دراسات ورؤى تمكن صُناع القرار السياسي من تصويب وجهات، ليس قراراتهم فقط،وانما خططهم المنظورة والمستقبلية، ووضعهم في مسارات وأنساق الحداثة السياسية والتنموية والاقتصادية والثقافية كافة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صفقة أمريكية-سعودية مقابل التطبيع مع إسرائيل؟| الأخبار


.. هل علقت واشنطن إرسال شحنة قنابل إلى إسرائيل وماذا يحدث -خلف




.. محمد عبد الواحد: نتنياهو يصر على المقاربات العسكرية.. ولكن ل


.. ما هي رمزية وصول الشعلة الأولمبية للأراضي الفرنسية عبر بوابة




.. إدارة بايدن تعلق إرسال شحنة أسلحة لتل أبيب والجيش الإسرائيلي