الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من سرق المصحف..؟!

وليد الفضلي

2008 / 1 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كان أبو الحسن الأشعري (-260 333 هـ) يُلقي درساً، قيل إن موضوعه دار حول الأمانة، على مجموعة من طلاب العلوم الدينية ومريديه في مسجد البصرة. ولقد ألهبت بلاغة موعظة الأشعري، وحسن بيانه، عاطفة الحضور، ولامست القلوب، وبعد الانتهاء من موعظته، تلفت ذات اليمين وذات الشمال باحثاً عن مصحفه الثمين، فاكتشف أنه فقد! رفع رأسه ونظر إلى الحضور، فرأى علامات التقوى، والورع، والخشوع ترتسم على وجوههم، بل إن الدموع الغزيرة بللت لحاهم تأثراً بالموعظة التي ألقاها للتو، فتعجب لما رأى القوم على هذه الحال، وتساءل في دهشة: كلكم تبكون ... فمن سـرق المصحف؟!

كثيراً ما تقفز أطياف هذه القصة التاريخية أمام ناظري، وأنا أتابع ما تتناقله وسائل الإعلام حول مُجريات الأحداث، خصوصاً ما يتعلق منها بجراحات أوطاننا، وآهات شعوبنا العربية والإسلامية؛ فهذه القصة تختزل الكثير من محتويات نشرات الأخبار من المواقف وردود الأفعال، بل الكثير من الممارسات المزدوجة في المجتمع، ولكن بصيغ متنوعة، وأبطال مختلفين، ليكون بذلك واقعنا ذا صور كثيرة ومتنوعة، ولكن بنسق واحد متكرر ومُتجذر في كثير من زوايا حياتنا، ألا وهو التناقض بين المبادئ والقيم المعلنة، والممارسة والسلوك على أرض الواقع، وأذكر هنا صورتين لبيان طبيعة هذا النسق المزدوج:

الصورة الأولى: عن ذاك الذي قصر ثيابه وأطلق لحيته، أو الآخر الذي لبس العمامة متختماً باليمين، فكلاهما ينبذ الطائفية والطائفيين ويستشعر خطرها الحقيقي، ويرفع شعار الإسلام الواحد والإنساني، ويطمح إلى التعايش والتعارف في المجتمع ، إذا من هو الطائفي؟! وأين يختبئ؟! ومن الذي سـرق مصحف التعايش وقبول الآخر؟! ومن هذا الطائفي الذي يصرخ، ويحرر الفتاوى، والكتابات التي تثير الفتنة في المجتمع؟ .

الصورة الثانية: من عالم السياسية الداخلية، فقوى المعارضة في المجتمع تطالب بمواجهة الفساد والمفسدين، وأيضا قوى الموالاة الحكومية لديها المطالب عينها، فإذا ما كان الجميع يدعو إلى إصلاح المجتمع والدولة، والخروج من دوامة الفساد والإفساد، فمن هو المفسد إذن؟! ومن سـرق مصحف إصلاح المجتمع والدولة؟ ومن هذا المفسد الذي يشوش الآمال، وينهش مقدرات الوطن والمواطن المادية والمعنوية ؟

إن هذا الفصل والازدواج بين الفكر والممارسة، بين النظرية والواقع، بين العلم والعمل، هو اختلال ناتج عن عملية الاحتكاك الفاشلة وسط المحيط الاجتماعي، والفهم القشروي لحقيقة القيم والمبادئ، هذه التي على ما يبدو لم تستقر بعد في أنساق المجتمع الفكرية. كما أن هذا النسق تغلغل في سلوك النفوس التي تحاول أن تواري حقيقتها، والعقول التي عجزت عن بيان وتحديد خياراتها، والذات التي تَدعي مسايرة المجتمع ومكوناته، من دون أن تحافظ على هويتها وأفكارها التحديثية، ومن المؤسف أن هذا الواقع لا يقتصر على عوام المجتمع، بل يشمل النخب السياسية والثقافية والدينية. ليُغيب هذا النسق الازدواجي القيم الإنسانية الأصلية بأخرى مُخاتلة ومزيفة تزيد من تفتت وضياع المجتمع في فوضى شعارات وأفكار طوباوية بعيدة عن الواقع ومعطياته.

إننا جميعاً نشكو من هذه الازدواجية القيمية والأخلاقية، والتي لا يجدي معها نفعاً دفن الرؤوس في الرمال، وإنكار أن هنالك خللا في مشاريعنا وخطابنا التحديثي.

طريق التحديث الاجتماعي لا تقوم إلا بانسجام حقيقي مع ذواتنا ومشاريعنا، وردم المسافة بين ما نؤمن به من قيم وأفكار، وبين ما نمارسه فعلياً على الأرض، لنُقدم ونُجسد نموذجاً بديلاً للنسق السائد، والذي هو مجمع على فساده حضارياً، في حين إن الحضور والممارسة الفعالة وتمثيل القيم والأفكار على أرض الواقع هي الكفيلة بإقناع الآخرين في المجتمع بجدوى وفاعليته التغيير والتحديث.

هذه الأزدواجية

لابد من الخروج من هذه الازدواجية عبر بناء علاقة واعية ومحكمة بالواقع، وإيجاد الأرضية والمناخ السياسي والثقافي والاجتماعي المناسب لحضور وتجلي الأفكار والقيم، فعملية التحديث والبناء ليست أفكارا مجردة، أو تهويمات نظرية متجردة ومعزولة عن الواقع، بل إنها علاقة تأثر وتأثير بين حركة الأفكار وواقع المجتمع، وإعادة التوازن إلى العلاقة بين الفكرة والممارسة التي هي أساس التطوير.

كما تضطلع النظرة إلى الذات بدور مهم في صناعة التغيير، وذلك من خلال الوثوق بها وبأفكارها وإمكاناتها وقدرتها على إحداث التغيير المطلوب متسقة مع حضورها الاجتماعي الفاعل والمتفاعل.

ينبغي اذن أن ننظر نظرة فاحصة إلى أفكارنا، وواقعنا، وذواتنا لنجلو عنها كل غبش، كمايجب أن تتطابق أقوالنا مع أفعالنا، ولا نكون مصداقا لقول الشاعر العربي الكميت :

(كـلام النبييـن الهـداة كلامنـا

وأفعـــال أهــل الجاهليــة نفعـــل).









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا بعد سيطرة إسرائيل على معبر رفح وما موقف القاهرة ؟| المس


.. أوكرانيا تعلن إحباط مخطط لاغتيال زيلينسكي أشرفت عليه روسيا




.. انتفاضة الطلبة ضد الحرب الإسرائيلية في غزة تتمدد في أوروبا


.. ضغوط أمريكية على إسرائيل لإعادة فتح المعابر لإدخال المساعدات




.. قطع الرباط الصليبي الأمامي وعلاجه | #برنامج_التشخيص