الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بنية العقل العربي

فتحى سيد فرج

2008 / 2 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بعد أن ينتهى محمد عابد الجابري في الجزء الأول من نقد العقل العربي - الخاص بتكوين هذا العقل - من وضع أسس البنية المعرفية العربية الإسلامية، يخصص الجزء الثاني – والخاص ببنية العقل العربي - لآليات النظام المعرفي لمختلف العلوم العربية، ووفقا لنفس تقسيم العلوم العربية إلى علوم، البيان، العرفان، والبرهان، يحدد هذه الآليات .
فبالنسبة لعلوم البيان من نحو وفقه وكلام وبلاغة تتشكل الرؤية البيانية للعالم في الفكر العربي من خلال سمتين أساسيتين: السمة الأولى الإزدواجية بين اللفظ والمعنى، والسمة الثانية هي انعدام مفهوم السببية .
بخصوص ظاهرة إزدواجية اللفظ والمعنى، يعرض الجابري أن النظرة البيانية للمعرفة العربية هي رؤية الانفصال وليست رؤية الاتصال، حيث تمثل هذه الظاهرة مشكلة عند اللغويين والفقهاء والمتكلمين، فهم جميعا ينظرون إلى اللفظ والمعنى باعتبارهما كيانين منفصلين، أو على الاقل كطرفين يتمتع كل منهما بنسبة واسعة من الاستقلال، فعند اللغويين تتكون الجملة الأسمية - وهي السائدة في الخطاب العربي - من أسم يقع في أول الجملة، وخبر يأتي بعد ذلك، لا يتعلق الأمر فيها بمعنى من المعاني، بل يتعلق فقط بالاخبار .
وفي علم أصول الفقه يتجه النشاط الذهني من اللفظ إلى المعنى، ويكون الأهتمام منصبا بشكل أساسي على اللفظ ، من خلال التركيز على الجزئيات على حساب الكليات، ونفس الأمر داخل علوم الكلام فالحوار الذي دار حول مشكلة خلق القرآن تبلور حول الفصل بين معاني الالفاظ باعتبارها حروفا تلفظ باللسان، وبين معاني هذه الالفاظ ، ويخلص الجابري إلى أن العلوم البيانية لم يكن بها اهتمام بعلاقة اللغة بالفكر ولا أي اهتمام بدور اللغة في عملية التفكير، لم يكن الجميع قادرين على الاهتمام بأولية التفكير على التعبير وأولية المعنى على اللفظ ، كان ذلك بسبب انشغالهم بالنصوص، وليس بالوقائع .
بخصوص السمة الثانية والخاصة بانعدام مفهوم السببية، يرى الجابري أنه بالرغم من الاختلاف الجوهري بين موقف المعتزلة وموقف الاشاعرة، إلا أن هذا الاختلاف هو خلاف مذهبي ايديولوجي حول اسبقية العقل، وليس اختلافا معرفيا بالاساس، ولا يؤسس هذا الاختلاف مذهبا دينيا في المسؤولية والجزاء وليس وجهة نظر في المعرفة .
فهذا الخلاف كان يدور بشكل رئيسي حول طبيعة النص القرآني باعتباره النص الأساسي الذي ساهم في تشكيل الحضارة العربية الإسلامية، وفي تحديد طبيعة علومها ومعالم تطورها، فعلى حين ركزت الاتجاهات العقلية التي يعد المعتزلة أشهر ممثليها على الإنسان وعقله في فهم النص بوصفه المخاطب والمستهدف من تعاليمه، كما استوعبت النص عل أساس أنه " فعل مخلوق" معني بالحوادث ومجريات الواقع .
نجد الاشاعرة قد ركزوا على الطرف الآخر, طرف القائل، ومن ثم كان تصورهم للنص أنه " صفه ذاتية" للقائل لا فعلا من أفعاله، وكان من الطبيعي أن تتضاءل في هذا السياق قيمة الإنسان، فعندما يقول الأشعري بأن الله خلق كل شئ، العدل والظلم، الخير والشر، فأن ذلك يعني نفيا وتقيدا للفعل الإنساني، وأنه يخلع المشروعية الإلهية على كل ما هو بشري، بمعنى أن الله هو الذي يفعل والإنسان ليس إلا منفذا لا إراديا، و يصل الأمر إلى أن يقرر الغزالي أن الصلة بين مانعتقد أنه علة وما نعتقد أنه معلول لا تتضمن ضرورة بينهما، إذ لكل منهما ذاتيته، فلا إثبات أحدهما ولا نفيه، ولا وجوده ولا عدمه يتضمن إثبات ألآخر أو نفيه .
فلا الري متضمن في الشرب، ولا الشبع متضمن في الأكل، ولا الحريق متضمن في النار، ولا الموت في حز الرقبة، ولا الشفاء من تعاطى الدواء، وهكذا في كل الارتباطات في الطب والفلك، إذ الرابطة بين الأشياء قائمة على إرادة الله أن يجعلها على النحو المتتابع، ولا ضرورة بينهما، فالله قادر عل أن يخلق الشبع دون أكل، وأن يجعل الموت دون حز الرقبة، وهكذا الأمر، فلا صلة بين الأسباب والمسببات، كم أنكر الاشاعرة على العقل أن يصل إلى الحقائق دون عون من الوحى، هذا وقد سادت أفكار الأشاعرة خاصة بعد أن جعلها الغزالي أساسا لوقف الاجتهاد في الإسلام .
يفسر الجابري هذه الرؤية البيانية للعالم والتى تقوم على الانفصال ونفي السببية، بردها إلى الطبيعة الجغرافية للجزيرة العربية، والتكوين الاجتماعي والثقافي للعالم العربي، حيث يتكشف هذا الاصل في الطبيعة الرملية التى تقوم على الانفصال والتجاوز بين حباتها، كما يتكشف في العلاقة القبلية التى تتكون من مجموعة أفراد منفردين تجمعهم القبيلة، أضافة إلى أن العلاقات في المجتمع الرعوي هي علاقات انفصال، فالراعي لا يرتبط بغيرة في ممارسته لنشاطه الإنتاجي، ولا تربطه صلة تعاون كالصلة التي تربط الفلاحين في أثناء ممارسة الأنشطة الإنتاجية من بذر وري وحصاد، ولا يرتبط بأرض أو سكن مستقر ولا وطن له، ينتقل من مكان إلى آخر بشكل دوري حسب توفر مصادر المياه والكلا، لذا فأن مصدر اللاسببية نجده متجزر في البيئة الصحراوية التي تقطعها التغييرات المفاجئة .
كما يرى الجابري أن الاستدلال البياني موجود منذ القدم في الممارسة العقلية البدوية، فبنية الممارسة الاعرابية الجاهلية كانت التشبه الذي يقوم على المقاربة بين طرفين، والرؤية التي تؤسسها المقاربة هي الانفصال، ولذا فان وظيفة الاستدلال البياني سواء كان لغويا بلاغيا أو قياسا فقهيا أو كلاميا أو نحويا هي المقاربة بين الأشياء، وتقريب بعضها إلى بعض بهدف البيان والاظهار، بل أن أصل الاستدلال بمفهوم قياس الشاهد على الغائب نجدها في علوم العرب من نجامة وقيافة وفراسة وكهانة، وهي آلية ذهنية تقوم على الاستدلال بالأثر والامارة، وليس تعبيرا عن مبدأ السببية، لان الاستدلال السببي هو استدلال بعلة على معلول أو معلول على علة، أما الامارات والأثار فكلها تشير إلى أن الغائب كان حاضرا أو أنه سوف يحضر .
***************
وبالنسبة لعلوم العرفان من تصوف، وفلسفة أشراقية، وتفسير باطني، وسحر وتنجيم، فعلى الرغم من أن الجابري يقر أنها على نقيض من علوم البيان، حيث تقوم عل آلية الكشف، إلا أنه يرى أنها لم تضيف جديدا للعلوم العربية، حيث أنها تنتمي إلى الموروث العرفاني السابق على الإسلام، كما أن الكشف ليس الا عملية ذهنية معروفة تقوم على المماثلة أو استرجاع الماضي، وهو أدنى درجات الفعالية العقلية .
فالغزالي يرى أنه توصل إلى العلم اللدني من خلال المجاهدة والتواصل مع الله الذي أودع في صدره علم التفسير الباطني دون استعانه بمخلوق أوالاستفادة من نظرية سابقة، لذلك كان من الطبيعي أن يكون ضد المنطق والفلسفة والعلوم الطبيعية، وعلوم الدين عندة أهم من علوم الدنيا فجواهر العلوم في البحث والتواصل مع الله، أما النظر إلى الطبيعة كموضوع للدراسة أو اكتشاف قوانينها فلم يحظى بأي قدر من الاهتمام، حيث أن الطبيعة وكيفية حركتها معطى نهاائي من عند الله فهو وحده القادر الخالق، وليس للبشر قدرة أو دور في فهمها أو تفسير حركتها، واكتفي العقل العربي بالنظر في حسن اتقان الخالق لما خلق، والتسبيح بحمده، وهكذا لم يكن العرفان الذي ساد خاصة بعد الغزالى سوى مجرد الرؤية السحرية للعالم، الذي يكرس النظرة الميتافيزيقية للكون والحياة .
****************
أما بخصوص علوم البرهان في الفكر العربي، فقد اعتمدت على المنهج الأرسطي وتوظيف رؤيتة في فهم الكون والله والإنسان، والتى تقوم أساسا على أن الأرض هي مركز الكون وأنها ثابتة، وأن الحركة الدائرية هي الكمال الأقصي، لذلك فإن الشمس والقمر والكواكب والنجوم تتحرك حول الأرض في أفلاك دائرية، وقد طور بطليموس في القرن الثاني ق.م فكرة أرسطو لتصبح نموذجا كاملا، تبنته الكنيسة وجعلته متوافقا مع تعاليم الكتاب المقدس، وهكذا كان الكون محددا ومنسجما ومتسقا كعالم ثابت من العلاقات الطبيعية، وكذلك في العلاقات الاجتماعية والمصالح التي كانت تكتسب شرعيتها من الله، فالطبيعة والبشر موجودات لخدمة الله وخدمة ممثليه على الأرض من السادة والحكام والرهبان .
وقد انتقل هذا المفهوم للكون والله والإنسان للفكر العربي، إلا أن الجابري يرى أنه تحول في المشرق إلى مجرد آلية ذهنية شكلية يراد منها أن تحل محل آلية ذهنية أخري هي الاستدلال بالشاهد على الغائب، مما أفقده وظيفته الأصلية في التحليل والبرهان، ومما يؤكد ذلك ما قام به ابن سينا الذي حاول التوفيق بين العرفان والبرهان، وهي المحاولة التي كانت محل اهتمام كل العلماء والفلاسفة والمفكرين العرب من الكندي إلى ابن رشد وحتى الطهطاوي ومحمد عبده حيث كان شاغلهم الأكبر التوفيق بين النقل والعقل، أو بين الدين والعلم، معظمهم كان يرى النص أو الدين كمرجع ومحاولة الاستفادة من العلم بما يتفق مع قواعد الدين، وبعضهم كان يعلى من قيمة العقل ويحاول تؤيل النص بما يتفق مع قواعد المنطق العقلي .
وقد ميز الجابري بين نوعين من الممارسة العلمية في الفكر العربي في حدود البرهان العقلي : ممارسة نظرية تقع بكاملها داخل المنظومة الأرسطية، وممارسة عملية ونظرية تتحرك بدرجة من الحرية خارج هذه المنظومة، فهو يرى أن الرياضيات والطبيعيات كما مارسها الكندي والفاربي وابن رشد كانت مؤطرة، وإن بدرجات متفاوته بالمنظومة الأرسطية، ولما كانت هذه المنظومة قد اكتملت وانغلقت مع صاحبها، وتحولت إلى نظرية عامة في الكون والإنسان والله، أي إلى منظومة ميافيزيقية، فأنه لم يكن من الممكن للعلوم الموظفة داخلها أن تتقدم أو تتجدد إلا بتكسير تلك المنظومة، ولم يكن من الممكن تحقيق ذلك إلا بعد الاعتراف بهاوالعمل داخلها وتحريك تناقضاتها وتفنيد فروضها، كما حدث في أوروبا من خلال ثورة العلم الحديث المسماه بالثورة الكوبرنكية – نسبة لأفكار كوبرنيكوس وكبلر وجاليلو ونيوتن - .
أما الثقافة العربية فلم يكن قد تم الاعتراف بالمنظومة الأرسطية بنفس الصورة التي اعترف بها في أوروبا المسيحية، لأن السلطة المرجعية الدينية في الثقافة العربية لم تكن في حاجة إليها، لا إلى منطقها ولا إلى علومها، حيث كان لها عقلها البياني الخاص بها، لذلك لم تنقل المنظومة الأرسطية إلى العربية لذاتها، ولا من أجل إعادة بناء الفكر الديني الإسلامي، بل من أجل توظيفها كلا أو بعضا في محاربة " العرفان" .
ورغم تقدم العرب في عديد من العلوم كالفلك والرياضيات والكيمياء وقطعوا شوطا كبيرا في ترسيخ الممارسات التجريبية، إلا أن الهدف الأساسي لكل ذلك كان لخدمة الدين أو لتحقيق بعض التصورات العملية، فالتقدم في علوم الفلك كان بهدف تحديد مواعيد الصلاة واتجاه القبلة، والتقدم في الرياضيات كان يهدف لضبط عملية تقسيم المواريث .. وهكذا، وكانت اغلب الممارسات التجريبية في الكيمياء بهدف تحويل المعادن البخسة إلى المعدن الثمين، أو الحصول على ماء الحياة .
لم يتم تفعيل هذا التقدم العلمي في تحسين مستوى الحرف ولم يستثمر في ترقية الصناعات، حيث أن النشاط التجاري كان هو العمل الأساسي للعرب، كما يشير الجابري إلى أن ذلك التقدم بقى من أول الأمر وحتى نهايته خارج مسرح الصراع في الثقافة العربية، فلم يدخل العلم في صراع مع الدين كما حدث في أوروبا، حيث توقف العلم العربي أمام سطوة الثقافة الدينية التى كانت ترى أن كل ماتم أكتشافه من حقائق علمية وما سيتم اكتشافه في المستقبل موجود داخل النص ولا حاجة لنا في محاولة البحث العلمي، وهكذا لم يساهم التقدم العلمي العربي في تكوين بنية العقل العربي، فلم يكن الصراع في الثقافة العربية الإسلامية من أجل هدم تصور للكون وبناء تصور آخر، وإنما كان الصراع في العالم العربي صراعا أيديو لوجيا سياسيا بصورة مباشرة، وهذا ما سيوضحة في الجزء الثالث والمخصص " للعقل السياسي العربي" .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما محاور الخلاف داخل مجلس الحرب الإسرائيلي؟


.. اشتعال النيران قرب جدار الفصل العنصري بمدينة قلقيلية بالضفة




.. بدء دخول المساعدات عبر الرصيف الأمريكي العائم قبالة سواحل غز


.. غانتس لنتنياهو: إما الموافقة على خطة الحرب أو الاستقالة




.. شركة أميركية تسحب منتجاتها من -رقائق البطاطا الحارة- بعد وفا