الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوم أعتقلنا في النادي الاولمبي

خالص عزمي

2008 / 2 / 11
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في صباح يوم 8 شباط عام 1963 ؛ وكانت الاسرة تتهيأ لسفرة الجمعة الربيعية الى مشارف الحلة حيث آثار بابل ؛ ومن ثم الى جلسة هادئة بين البساتين على ضفاف نهر الفرات لتناول طعام الغداء ؛ وكنت بحاجة ماسة اليها ؛ بعد العناء الكبير الذي بذلته من جراء تنظيمي واشرافي المباشرعلى احتفالات مهرجان بغداد والكندي ؛.. في تلك اللحظات السعيدة ؛سمعنا فجأة دوي القنابل والانفجارات ؛ هرعنا الى السطح لم نر سوى طائرة واحدة تحوم في الجو ؛ ثم تتابعت اصوات الانفجارات ؛ فتحنا التلفزيون والراديو معا ؛ فاذا ببيان يعلن عن حدوث انقلاب عسكري ؛مر اليوم الاول والثاني والقتال مستمر على ضراوته ما بين ا لزعيم الوطني عبد الكريم قاسم وجنده الرابضين في وزارة الدفاع ومن ورائهم قوى الشعب المدافعة عن ثورة 14 تموز وبين المهاجمين. بدباباتهم .. ؛ ثم حدث ما هو معروف ومتداول من تفاصيل مذبحة الاذاعة ؛ وما تلاها من عقاب جماعي لكثير من فئات الشعب وبخاصة طبقته المثقفة .

في اليوم الرابع من ذلك الانقلاب الدموي ؛ اذيع بيان رسمي يدعو موظفي الدولة الى المباشرة في وظائفهم والا يعتبرون مفصولين( وسوف يتحملون العقوبات الشديدة ) ان لم يباشروا فورا .. أتصل بي أكثر من زميل من الذين يقطنون الاعظمية وبعد التداول في كل الاحتمالات ؛ قر عزمنا على الدوام . في صباح اليوم التالي ؛ توجهت الى ديوان وزارة الارشاد في منطقة الميدان وكانت تقابل وزارة الدفاع حيث دارت المعارك . توجهت الى مكتبي؛ في الطابق الثاني حيث كنت يومها أشغل وظيفة رئيس شعبة الصحافة الاجنبية ؛ فوجدت عددا كبيرا من الزمـــــــــلاء في غرفهم فمنحني هذا التواجد شيئا من الاطمئنان النسبي ؛ ما كدت اجلس خلف مكتبي حتى سمعت لغطا عاليا ثم اصوات اقدام كثيرة تضرب ارض الممر ؛ اقترب ذلك الجمع من غرفتي ؛ واذا بأحد بسطاء المستخدمين من الذين كنت اعطف عليهم كثيرا ؛ يدخل ويصرخ بوجهي بعبارة لن انساها ابدا (يالله ولك كلب أمش ويانا انت موقوف ....) نظرت اليه مستغربا ... ثم قفت وسرت أمامه في الممر ...؛ واذا به يركلني بحذائه العسكري الضخم على عمودي الفقري مباشرة ؛ هنا سقطت على الارض و شعرت بألم حاد للحظات ؛واذا به يصرخ بي مرة ثانية ( لك .. اوكف على رجليك بسرعة ) وقفت رويدا رويدا ثم واصلت سيري وانا احاول التماسك !! نظرت الى الزملاء الذين سبقوني الى هذا المصير وقد اصطفوا على السلم ؛ كان عددهم لايتجاوز العشرين ؛ أنزلنا بقسوة على انغام سيل من السب المقذع . بالقرب من باب الوزارة كان هناك لوري متوسط الحجم ينتظرنا حيث صعدت اليه بصعوبة بالغة وحشرت مع الآخرين . سار بنا اللوري وقد غطيت جوانبه بالمشمع الداكن لكي لا نعرف اي شيء عن وجهتنا . مر وقت قصير نسبيا فتوقف اللوري عن السير ؛ ثم رفع المشمع وانزلنا فاذا بنا امام صفين من الاشخاص يحملون على اذرعهم اشرطة خضر؛ ويقفون بنسق واحد على الطارمة الامامية للنادي الاولمبي ( على ساحة عنتر حاليا )

ما كدنا نمر واحدا بعد آخر من بينهم ... حتى أنزل علينا صفا الشباب سيلا من حلاوة البصاق المطعم برائحة الشتيمة ؛ دخلنا القاعة و سار امامنا احد افراد الحرس ليقودنا الى حيث صالة البليارد ثم يتركنا لوحدنا ؛ هنا شعرت بان آلام الظهر أخذت تتفاقم بحدة ؛ فلم اجد بدا من الاستلقاء على طاولة البليارد ذات القماش الاخضر السميك . كان اسماعيل ( كهربائي الوزارة ) واحد الموقفين معنا يقف قرب الباب ولا يبعد كثيرا عن أحد معيني النادي ناديت عليه وطلبت منه ان يسأله ان كان لديه ( أسبرين ) في خزانة ادوية النادي ؛ رد علي هامسا سأفعل ؛ أستجاب المعين الى الطلب ثم عاد بعد لحظات حاملا بيده زجاجة ( فيكس ) ومعتذرا عن عدم تمكنه من جلب الاسبرين قمت الى زاوية مضيئة نسبيا ووضعت شيئا من مرهم الفيكس القريبة رائحته من اليوكالبتوس . اغمضت عيني قليلا .. وفجأة استعدت ذكريات انتمائي الى هذا النادي عام 1949

كان النادي الاولمبي في الاعظمية بناءا فخما أنيقا و نموذجيا للنوادي الاجتماعية والرياضية في منطقة الشرق الاوسط ؛ تحيط به الحدائق من كل جانب ؛ وتتوزع على بساطه الاخضر الممرع ساحات التنس الكثر ؛ وملاعب كرة السلة والطائرة والريشة ؛ اما في داخله حيث الفسحة الواسعة التي تحتلها طـــاولات ( البنج بونج ) ؛ فأول ما يجلب النظر من جهته اليمنى هو البار الانيق الذي تنطلق من زاويته المغلفة بألواح الصاج انواع من الموسيقى والغناء الهــــاديء وهي تنبعث من ذلك ( الكرامفون ) الخشبي البراق
وتليه بعد هذا الحمامات وخزانات ملابس الاعضاء . وتقع في الطابق الثاني المكتبة وصالى الاحتفال .
حينما انتميت الى هذا النادي ( بعد جهد جهيد ) ؛ تحقق حلمي بدخوله ومصافحة حارسه الامين المصارع الشهير ( مجيد ليلو ) الجالس على كرسيه الاثير عند البوابة الرئيسية للنادي لكي يأذن لي بعدئذ بالاستمتاع بهوايتي المفضلة بلعبة التنس وغيرها من النشاطات الرياضية و الاجتماعية .

على صوت أجش يصرخ ( قف على قدميك ؛ انت لست في فندق بغداد ؛ انهض وأتبعني .... ) ؛ فقدت صلتي بتلك الذكريات الوردية ؛ ووقفت على قدمي وتبعته حيث غرفة صغيرة كانت خاصة بمدير النادي سابقا ؛دخلت فواجهت شخصا مبتسما حياني بأسمي ؛ عند ذاك تذكرت بانه احد مدرسي المتوسطة في الاعظمية ؛ طلب من الحارس الخروج وغلق الباب ؛ ثم قال لي تفضل بالجلوس ؛ فلما جلست بادرني بالقول : ( ان الشخص الذي اوقفك بالوزارة ؛ جلب لنا عصر هذا اليوم صورة وابيات من الشعرالشعبي الذي لم استطع قراءته ؛ انني اعرفك جيدا ؛ واعرف نشاطك خاصة في الاحتفالات الاخيرة التي كانت تنقل الينا تلفزيونيا ) أجبته دعني ارى اراها رجاء ؟ فلما اطلعت عليها أجبت : اما الصورة فهي لي يوم رافقت رئيس منظمة السلم العالمي وهو يضع الزهور على قبر الجندي المجهول في ساحة العلوية وكانت المهمة جزءا من واجباتي في تلك الاحتفالات ؛ اما الابيات فهي للشاعر حسين ابو شبع قالها يوم وقف اما م قبر المرحوم حسين الشبيبي الذي اعدم في العهد الملكي وهذا نصها :
عيوني تعاين على الدرب وتراب
وعيوني ما يهمه الخطر وتــراب
الشامت يرى كَبرك حجر وتراب
ويرى التاريخ كَبرك مــــــزهرية

قال والابتسامة لم تفارق فمه ( استاذ خالص خذ الصورة والابيات ) ؛ هنا شعرت بالارتياح فسألته : لماذا جلب ذاك ( النبيل الوفي !! ) هذه الصورة بينما هناك في مكتبي عشرات الصور لي مع كبار شخصيات الفكر والثقافة من امثال ابراهيم بيومي مدكور رئيس المجمع المصري وعائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطيء ) وآجاثا كرستي وزوجها البرفيسور مالاوين .. الخ ثم لماذا هذه الابيات بالذات بينما هناك ايضا مئات الابيات التي اعجبتني فأحتفظت بها مع هذه في درج مكتبي ؟ اجابني : لاتحتاج الى تفسير فلقد شخصّت ؛ نهض مصافحا وهو يقول ...مع السلامة ) . عدت الى غرفة البليارد لائذا بالصمت اشمئزازا واحتقارا لدعي كان رده للفضل ؛ بأن وجه الاهانة ودس الوشاية .
مر الوقت كأنه دهر ؛ وعاودتني الالام ؛ وانا اسمع همسا يؤكد ان عدد المعدومين على سطح النادي يزداد ساعة بعد اخرى . كان ظلام الليل وقد تخلله اطلاق النار بين الحين والآخر يضفي علينا رهبة وخوفا. كما كانت اطلالة الحارس المسؤول وهو يحذرنا من التحدث الى بعضنا يزيدنا يأسا. في تلك اللحظة أدركت ان التـــــــعذيب النفسي يكمن فياسلوب التعامل لا في مدة الحجز وغموض اسبابه .

ومر الوقت ببطء شديد ؛ وفجأة سمعنا تصفيقا حادا وهتافات ولم نستطع معرفة ما يجري خارج قفص الحجز ؛وما هي الا نصف ساعة تقريبا ؛ حتى اطل علينا شخص وهو يقول من هو كاظم جواد ؟ تقدم كاظم وقال ؛ انا هو ماذا تريد ؟ وكان الشرر يتطاير من عينيه ثم قال بلغته الجنوبيه ( تريدون ترشّـــوني ؟ رشـــّوني!! ولكم رشوني ) ثم فتح سترته ( جاكيتته ) متحديا ! و في تلك اللحظة دخل شخص بملابس مدنية تحيط به ثلة من الحماية ووجه كلامه الى كاظم جواد وهو يقول اتفضل استاذ كاظم ؛ تفضل روح الى بيتكم ! نظر اليه كاظم جواد بغضب ورد عليه بصوت شجاع كالذي سمعناه منذ لحظات ( لا أخرج من هذا المكان ؛ الا اذا خرج كل الذين اأقتيدوا معي !! لانهم ابرياء : ... ثقوا انهم أبرياء أكثر مني ) .. نظر اليه ذلك الشخص مليا قبل ان يعود الى مجموعته للتداول ( علمنا بعدئذ ان من بين تلك المجموعة كان الشاعرشفيق الكمالي ) ....بعد حين عاد شخص آخر بملابس عسكرية وهو يقول هذه استمارات أملؤها ؛ فقد تقرر اطلاق سراحكم ويمكنكم العودة الى بيوتكم . ما كاد ذلك الشخص يخرج حتى احاط الجميع بأبي مصعب وهم يقبلونه ويشيدون بموقفه الوطني و البطولي .
خرجنا من النادي ؛ و التفت الى بنايته والقيت عليها تحية الوداع الاخير ؛ ثم أتكأت على كتف صديقي وزميلي الشاعر كاظم جواد وأنطلقنا بسيارة تاكسي الى بيتنا القريب ، كان سرور عائلتي بنا لايوصف ؛ ولما أخذنا مكاننا في ( الهول ) قالت والدتي لابي مصعب ( أبني لو تتصل بزوجتك وتريح فكرها ؛ أحنا دا نحضر العشا ) . اتصل كاظم بزوجته ( يوم ذاك ) الشاعرة و الاديبة المبدعة السيدة سلافة حجاوي وطمأنها على وضعه . ولما تناولنا ما لذ وطاب وشربنا اقداح الشاي ؛ قرب كاظم رأسه مني وقال هامسا : لقد كنا اقرب الى التصفية من حبل الوريد . ثم اطلق ضحكته العشوائية المشهورة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجيش الإسرائيلي يطلب من سكان أحياء إضافية شرق رفح إخلاءها ر


.. في سابقة إسرائيلية.. رسالة تحذير من رئيس الأركان لنتنياهو| #




.. مجلس الأمة الكويتي.. لماذا حلّه أمير البلاد وماذا تعني هذه ا


.. قيس سعيد يا?مر بمحاسبة من غطى العلم التونسي بخرقة من القماش




.. وصف بالأقوى منذ عقدين.. الشفق القطبي يزين سماء عدة دول أوروب