الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عشاق الحياة:شهداء يكتبون عن الشهادة (من دفاتر شهيد شيوعي)

هيفاء عبد الكريم

2008 / 2 / 15
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


لم يرجعوا من حديقة غيابهم..العابرون الذين مروا من أمام ابوابنا، توارت آثارهم خلف ذاكرة الوطن.. لكن أيديهم مازالت تطرقُ تلك الأبواب،فنسمع ُ صدى أصواتهم، كملائكةٍ تُخبأ ُظلها في سحاباتٍ بيضاء.
هي ذاتها الأبواب التي غادرناها، تبزغُ وراءها شمس .. وتسطع خلف أسوارها كنوز ليل..
أولئك الذين أغمضوا عيونهم، كي يمنحونا أحداقها لنبصرَ بها صورة الوطن الحلم.. في عناق أستغرق نصف أعمارنا.. أعمارنا التي حملناها عائدين اليه، كأوراقٍ جفت ولم تسقط.. نلوذ بالصمت والصراخ ، نبحثُ عن وجوههم التي تركوها فوق الجدران.. نحملُ زيتَ مصابيحهم الى تلك البيوتِ، المسكونة بالأسرار .. المعبقة بالأغاني.. المشيدة بالآمال والعشق والأشعار..

حَملتُ حقيبة أشواقي الى وطنٍ فارقته، قرابة ربع قرن من الرحيل .. ألوذ بالذكرى وأنينها.. أبحث عن قبلة حبيب غادرتني الى المقصلة..
ها أنذا اذا في العام 2004 وفي بغداد......

بريق ذهبي يلوحُ لي فوق منائر الكاظمية، يغرقُ سماء عيني بالنخيل والنشيج.. بغداد تلوحُ لي بيدها البيضاء..بجروح ِ أزهارها المنذورة للشمس، وهي تمنح ُشعاعها قرابين، لنهارٍ يتفيئُ في حشرجةِ شفق مذبوح..
هي ذاتُها تلك الشوارع التي ركضنا خلفها، نحملُ المنشورَ والجريدةََ َ.. نطاردُ الحمامَ الابيضَ، فوق سطوح ِ بيوتها الآمنة بالدفئ والمحبة.
شعاعٌ خافتٌ يتوارى خلف الذاكرة ..فأستيقظ ُ من حلمي على مشهدِ مدينةٍ أحرََقََتها الحروب.. وطوَقتها دباباتُ الأحتلال من كل صوب وجانب.. بغداد كثكلى تتوسد أنينها، تغفو مثل يمامةعلى قبة التأريخ.
رُحتُ أبحثُ في الأيام التوالي لعودتي الى الوطن،عن عنوان بيت أحد الأصدقاء، الذي أودَعْنا عنده بعض حاجاتنا، وأوراقنا .. قبل أن أغادر الوطن..
وجدت نفسي أمامَ داره، بعد عناءٍ طويل في البحث عن عنوانه...
سلمني الأمانة، ففتحت حقيبة ً أ ُغلقت قبل ربع قرن من الزمن...
طالعتني مجموعة من الأوراق وقصاصات من الصحف، مقالات وخواطر.. رسائل وصور
انها ذخيرة حية، لشهيد وهب حياته للشعب والوطن..هي أجمل وأعز ما حَملتهُ من الوطن معي..

أنها شهادات حية بقلم ِ الشهيد:

( اسماعيل خليل (أبو هند) ..)
الصحفي والأنسان.. الشيوعي الذي وهب حياته من أجل قضيته ..أ ختطفتهُ يد الفاشية والقتل والأجرام أوائل الثمانينات، من أمام مقر عمله في صحيفة ( طريق الشعب).. ليلتحقَ بالمسيرة الظافرة لقوافل شهداء الحزب و الوطن الخالدين، في العاشر من تموز 1980.
عمل في الصحافة العراقية، على مدى سنوات طويلة، آخرها عمله وتفرغه لصحافة الحزب الشيوعي العراقي( طريق الشعب )و حتى أواخر السبعينات. ( أبو هند)صحفي من طراز لايكتفي بنقل الحدث، بل يوظفه ليقترن بمعاناة الناس وهمومهم. كان قريباً من الناس، يلتقيهم في كل مكان، يحاورهم ويوظفُ قلمه لينقل معاناتهم،في يوميات على شكل عمود يومي، بعنوان (قالت وقال) تجد فيها الكثيرمن السخرية، والتهكم والنقد والمطالبة بحقوق المواطنين، والألتفات الى مشاكلهم الحياتية واليومية.

من بين تلك الأوراق والمقالات، التي قُدر لها أن تفلتَ من قبضة الطغاة، وترافقني في سفري الطويل ، لتبقَ شهادات حية، مكتوبة بحبر الحقيقة، هي ما كتبهُ ( أبو هند) عن الشهادة ..فكم هو عظيم أن يكتبَ شهيٌد عن الشهداءوالشهادة..
أرتأيتُ أن انشر هنا أحد الخواطر، التي كتبها الشهيد،لأبتدأ بها، و بماأنوي نشره لاحقاً من المقالات التي كتبها ونشرها في صحافة الحزب والصحافة العراقية.
من المصادفة الغريبة حقاً أن تكون الخاطرة المنشورة اليوم هي آخر ما كتبهُ ونشرهُ قبل اعتقاله وأستشهاده، وهي تحمل بين طياتها، أشارات واضحة لمعاني الأستشهاد..
المقالة بعنوان:

وبَكتْ النساء

يادموعاً أراقها الحزن والأسى.. ياملايين العيون المشحونة بالقهر والعذاب، لتصبَ مآقيكِ حتى يفيض النهران ، حتى يعلو ماؤه فوق هام الوطن.
صدقوني حتى أشجار (الدفلى) أخذت تبكي ..راحت تجهش مثل أم ثكلى.. فمن قال ان الأشجار تضحك وحسب ؟؟
كانوا ثلاثة: أ ُم، وأ ُخت، وحبيبة..
قالت الأم:
ياولداه .. لقد قتلوك الآن.. الآن غرزوا في عُنقكَ ملايين الحراب المسمومة..فمن مثلكَ يا ولدي يرفلُ بالشهادة.. يا شمسي التي أخبأها تحت عبائتي، جوهرة في ليل أحزاني..أسمك البهي ياولدي فخرٌ ، وشوكةٌ في أعينهم،أقبل السلاسل في معصميك، وأحلقُ بجناحيكَ فوق سور داري،وأطلق حنجرتي لتلك الأناشيد التي رددتها .. وأرددها .. وسأرددها..
ثم وضعت رأسها بين كفيها وأجهشت بحرقة.

قالت الأخت:
عاش الحزن في قلبي سنواتٍ طوال، قدست ُ حزني عليك، حتى أستحييتُ أن أذرفَ في عرس شهادتكَ دمعة ، لكن الآن .. الآن فقط يستفيق ُ الحزنَ في قلبي طرياً، أرفع نعشُكَ الى وجهي،كي أضئَ بقناديلهِ
ظلمتي الباردة، وأشم فيه عطر َ طفولتنا، ياصديق أيامي وذكرياتي..
وأجهشتْ باكية بحزن مثل َ طفلٍ يتيم...

قالت الحبيبة:
يوم أعادوا لي قميصك َ المخضبِ بالدم، قلت ُ: هذا ثوبُ عرسي.. وبقيت ُ أرقب ُ بلا مللٍ موعد الزفافِ..
أجلس هنا أتفيأ ُبعشقنا الوحيد..بسرِ أرواحنا..بضياء ِ بَوحنا..بالأرض التي تضيقُ لتتسع لحلمنا،أنت اليوم تهبطُ الى مملكةٍ من سفنٍ بيضاء،تحملُ بين كفيكَ أعشابُ البراري، ترهفُ السمع الى النبع،فتأتيكَ أصواتهم من بعيد، دماً سابقاً نفسهُ بأتجاه الرصاص.. دماً عابقاً فوق صلبانه.
سلاماً الى وردة الفقراء، سلاماً اخيراً الى وردة القلبِ والحب النبيل..
أرفع كفي اليك ..كي ينمو العشب على نافذتي.
تنسابُ على وجنتيها دموعٌ من نار..
يعبرُ الى ظلهِ النحيل ..يفتحُ في الريح درباً..يمضي.. يمضي .. وفي يدهِ قرنفلةحمراء.

اسماعيل خليل
صحيفة طريق الشعب19 ديسمبر1979








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تغطية خاصة | الشرطة الفرنسية تعتدي على المتظاهرين الداعمين ل


.. فلسطينيون في غزة يشكرون المتظاهرين في الجامعات الأميركية




.. لقاءات قناة الغد الاشتراكي مع المشاركين في مسيرة الاول من اي


.. بالغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه..شرطة جورجيا تفرّق المتظ




.. الفيديو مجتزأ من سياقه الصحيح.. روبرت دي نيرو بريء من توبيخ