الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الأخلاق و الحريات بين المنظور الإنساني و التحريض الديني(2)
أحمد عصيد
2008 / 2 / 19العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يعكس "البيان من أجل الدفاع عن الحريات الفردية" الذي أصدره مثقفون علمانيون بالمغرب، و " نداء العفة و الكرامة " الذي أصدرته إحدى التنظيمات الإسلامية مشروعين مجتمعيين مختلفين، يقوم الأول على الدعوة إلى احترام الحياة الفردية و كل الحقوق و الحريات المتعلقة بالحياة الشخصية للمواطن، و التي لا ينتج عن التمتع بها أي إضرار بحقوق الغير و حريته، و ذلك وفق ما تنصّ عليه المواثيق و العهود الدولية لحقوق الإنسان، بينما يدعو الثاني إلى تعبئة السلطة و المجتمع ضدّ ما اعتبرته "مجاهرة بالمعصية" و انتهاكا للأسس الأخلاقية التي يقوم عليها تماسك المجتمع المغربي. و من الواضح أنّ الأمر يتعلّق بصراع حول منظومة القيم التي تطوّرت كثيرا و بالتدريج نحو النموذج الحداثي المعولم، غير أنّ التطور المذكور لم يكن يتحقق بدون ردود أفعال مرتقبة، و متفاوتة الأهمية من طرف الوعي التقليدي حارس القيم القديمة، و الذي ظل هدفه الأساس هو الحفاظ على القيم التقليدية كما هي بغض النظر عن كل التحولات التي طالت المجالات الإقتصادية و الإجتماعية و السياسية، سواء في المغرب أو في سائر بلدان العالم .
و يطرح "نداء العفة و الكرامة" مشاكل عديدة:
1) أنه يخلط ـ بسبب منظوره السطحي ـ بين الأخلاق و الدين و تقاليد المجتمع، و الحقيقة أنّ التمييز بين هذه العناصر الثلاثة أمر ضروري بحكم الواقع، فالدين يتضمن بلا شك أوامر و نواهي أخلاقية، و لكنها لا تشمل كل المجال الأخلاقي، كما أنها تقتصر على الجوانب التي نبّه إليها الشرع في مجتمع يعود إلى أربعة عشر قرنا، و إذا كانت بعض تلك الأوامر و النواهي الدينية ذات طبيعة كونية من حيث تطابقها مع مبادئ العقل الأخلاقي الإنساني في كلّ زمان و مكان كما هو الشأن بالنسبة لديانات أخرى مثل قبح الظلم و الغش و الكذب و أكل مال اليتيم، فإنّ بعض الأوامر و النواهي الأخرى تكاد تقتصر على مجتمع لم يعد قائما اليوم مثل الأخلاق المحدّدة للعلاقة بين الجنسين و التي تطابق نظام القوامة الحريمي و العديد من تقاليد بادية الحجاز القديمة، و ترتبط بمبادئ الفقه الذكوري و ثقافة "ما ملكت أيمانكم"، و مثل ما يتعلّق بالحلال و الحرام في المأكولات و المشروبات و الألبسة، ففي هذه الجوانب الكثيرة سيكون من الوهم محاولة فرض منظومة قيم جامدة و نهائية ـ كيفما كانت مرجعيتها ـ على العلاقات الإجتماعية التي تعرف بطبيعتها مرونة و تطورا كبيرين حسب السياق الحضاري و النموذج المتفوق في كلّ عصر، و هذا بالذات هو ما يجعل الأخلاق و منظومة القيم مجالا أوسع من الدين.
أما تقاليد المجتمع فهي في الغالب مزيج من التمثلات و ترسبات الوعي و السلوك و تراكم التجارب التي تكرس مجموعة من الإختيارات الجماعية التي تترسخ بحكم الزمن فتصبح ذات سلطة إكراهية على الأفراد، و هي تقاليد يتداخل فيها الديني و الإجتماعي بالمعتقد الخرافي، لكن في كثير من الأحيان يتم تبرير عدد من التقاليد اللاإنسانية تبريرا دينيا، كما يحدث في ختان البنات و تزويج الطفلات القاصرات و ضرب النساء و مقاومة المعارف العلمية و إنكارها و عبادة الأضرحة و رفض الإختلاط و إسناد أخطاء البشر إلى القضاء و القدر و رفض التربية الجنسية و كراهية اليهود و السعي إلى فرض نمط حياة معينة على الجميع كمنع تناول مشروب روحي أو الضغط على الأفراد و إرهابهم و تهديدهم لكي يؤدّوا شعائر معينة و مقاطعتهم و حرمانهم من مكاسبهم داخل الجماعة بسبب اختلافهم.. إلخ.
أما الأخلاق فهي مجموع القواعد المحدّدة للسلوك و العلاقات بين الأشخاص و المجموعات، و التي يكون هدفها فعل الخير و تحقيق الفضيلة و صون الكرامة و عدم الإضرار بالغير، و هي بذلك قواعد يمكن أن تكون دينية أو لا دينية في نفس الوقت، فمعاني الخير و الفضيلة و العفّة و الكرامة لا تقتصر على دين معيّن أو مذهب أخلاقي خصوصي، كما أنها معاني نسبية بطبيعتها شأن الثقافة الإنسانية عامة، إذ تختلف من مجموعة إلى أخرى، فسفر المرأة لوحدها لا يمسّ بعفّتها في الثقافة الإنسانية، لكن الأمر محظور لدى الإسلاميين المتشدّدين و فيه "حرج" لدى المعتدلين منهم (بينما تجاوز المجتمع ذلك في واقعه جملة و تفصيلا)، كما أنّ إهداء قنّينة خمر لصديق يسمّى عند الفقهاء المسلمين "معصية"، بينما هو عند الأساقفة و الرهبان و الأحبار دليل محبّة و إخاء و فعل خير، و كذلك الشأن عند مواطنين مسلمين يتناولون الخمر في لحظات الأنس و الصداقة الحميمية، معتبرين ذلك اختيارا شخصيا لنمط حياة ارتضوه لأنفسهم دون اكتراث بالمواعظ، رغم أنّ فيهم أحيانا من يؤدّي الشعائر الدينية، بل فيهم من هم فقهاء و علماء يتداول الناس أخبارهم في المجالس الخاصة.
إن ارتباط مفاهيم العفّة و الكرامة بالأخلاق التقليدية يجعلها أكثر التباسا و مفارقة، بل قد يجعلها تنقلب إلى ضدّها تماما كأن تصبح أداة قمعية لتكريس العبودية و الإستبداد و إشاعة الإنحلال الخلقي و الأمراض النفسية، فلا يمكن الحديث مثلا عن كرامة المواطن السعودي الذي يساق بالعصا إلى المسجد من طرف زبانية السلطة البدو، كما لا مجال للحديث عن كرامة و عفّة المرأة السعودية الملفوفة في القماش الأسود و هي لا حقّ لها في الكلام و لا التصويت في الإنتخابات و لا سياقة السيارة.
2) يتّضح من هذا أن "نداء العفّة و الكرامة" لا يرمي إلى أكثر من فرض نموذج أخلاقي معيّن هو نموذج المتشدّدين في الدين، و إلباس المجتمع ثوب المحافظة و إشاعة السلوك السكيزوفريني القائم على النفاق و إظهار التقوى و الورع مع القيام بأشياء لا إنسانية جهارا أو في ما وراء الأبواب و الأسوار، و هي أخلاق لا نقبل بأي حال العودة إليها.
3) يتحدّث أصحاب النداء باسم الشعب المغربي و باسم تقاليده العريقة، كما يتضح من نص النداء اعتمادهم بنسبة كبيرة على التقاليد و على الوعي التقليدي لتبرير استمرار أوضاع متخلّفة، و الحقيقة أن أخلاق مجتمع اليوم هي أفضل بكثير مما كنا عليه، الفرق الوحيد الموجود بين الأمس و اليوم هو أننا اليوم نناقش كل تفاصيل حياتنا بوضوح و جرأة، في الوقت الذي كان فيه أسلافنا يرتكبون كل الشرور تحت حجاب سميك من تقاليد الورع الإصطناعي و الصمت و التحريم.
5) في حديثهم عن الأسس الأخلاقية و القيم و "التقاليد العريقة" للمغاربة يتناسى محررو النداء بأن تقاليدنا المغربية لا تتضمن فقط التقاليد الدينية المحافظة و القيم الشرقية، بل تضم تقاليد في الرقص و الغناء و الإختلاط بين الجنسين تعود إلى قرون طويلة، و تقاليد زراعة العنب و صنع أجود الخمور، حيث توجد مناطق تعود فيها تلك التقاليد إلى أزيد من ثلاثين قرنا، مما يعطي لحفل تذوق الخمور بمكناس معنى لا يمكن أن يدركه الذين يستندون إلى مرجعية سعودية.
6) إن استعمال الوجدان العام و تهييج حساسية الجمهور ضدّ حق من حقوق المواطن أمر قد يكون غاية في السهولة، لكنه لا يقودنا بالضرورة نحو الأفضل، ذلك أن استعمال مظاهر التخلّف في الوعي و السلوك كحجج و كأمر واقع، و اعتبار أن ذلك هو ما يريده المغاربة، يشبه تماما ما قام به أحد المخرجين المصريين عندما اتهم بإنتاج الرداءة، حيث ردّ على منتقديه بأنّ ذلك هو ما يريده الجمهور.
7) لا ينتبه المتطرفون إلى أنّ منظومة القيم تتأثر بدرجة تطور المجتمع و انفتاحه، مما يعني الإستحالة الكلية لجمود القيم في ظل كل التحولات المفتوحة على المستقبل، يريد الإسلاميون التقدّم و التفوّق و لكن بنفس الأخلاق و الذهنيات القديمة، يريدون العلم و التكنولوجيا و لكن انطلاقا من المسجد، يريدون الفنون الجميلة و لكن بخطوط حمراء وبمعايير يحدّدها الفقيه، إنها معادلات لا يمكنهم حلها لأنها لم تحلّ في أي عصر من العصور، إلا في لحظات الإستبداد الأسود و البغيض، و التي لا يمكن لها أن تدوم و تستمر.
8) لعل أسوأ ما وقع فيه الإسلاميون هو الإستعمال المكثف لنظرية المؤامرة، فالدفاع عن الحريات هو عندهم مخطّط محكم لجهات أجنبية تريد إفساد أخلاق المغاربة و تفكيك البنى المتينة للمجتمع، و هوهذيان ببغائي لم يعد ينطلي على أحد، فالجميع يعرف بأنّ الإستعمار الأجنبي عندما داهمنا لم يجد لدينا أية بنيات متينة، بل وجدنا في أوضاع مزرية غاية في التخلّف، بأخلاق و قيم لا يمكن أن يفخر بها اليوم إلا جاهل أو معاند.
إن النقاش حول القيم و الأخلاق لن ينتهي أبدا، و لكن يمكننا في هذه المحطّة منه أن نؤكّد على ثلاثة أمور:
ـ أن الدين وسيلة و ليس غاية، و الذين جعلوا منه غاية الغايات هم الذين شيدوا به أسوأ الأنظمة و أكثر المجتمعات تخلفا.
ـ أن اعتبار الدين مرجعية شمولية غير قابلة للتجزيء تنتج عنه معضلة المطابقة بين الدين و الحقوق و الحريات بمعناها العصري، و التي أصبحت مكاسب حقيقية في المجتمع، و هو الإشكال الذي يخفيه الإسلاميون بحديثهم الفاقد للشرعية عن مجتمع مغربي إسلامي متجانس تجانسا مطلقا في الدين و المذهب و الفكر و القيم و الإيديولوجيا، فالمغاربة الذين هم في واقع الأمر مختلفون في كل ذلك، يصبحون نسخة واحدة في أطروحة الإسلاميين إرضاء لمآربهم السياسية.
ـ أن من حقّ الإسلاميين أن يمانعوا و يعاندوا في رفض المكاسب الجديدة للبشرية، وأن يتشبّثوا بنصوصهم "الثابتة"، "القطعية" و "الصريحة"، و لكن التاريخ هو الذي سيقول في النهاية كلمته وفق مبدإ : البقاء في الأفكار و القيم للأصلح.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. #شاهد بعد تدمير الاحتلال مساجد غزة.. طفل يرفع الأذان من شرفة
.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية في لبنان تفاجئ الاحتلال بعمل
.. لبنان: نازحون مسيحيون من القرى الجنوبية يأملون بالعودة سريعا
.. 124-Al-Aanaam
.. المقاومة الإسلامية في العراق: إطلاق طيران مسير باتجاه شمال ا