الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المغامرة النقدية

وليد الفضلي

2008 / 2 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



النقد رحلة في أقانيم النص والفكر، والوجود الإنساني، يمكن أن نصفها بمغامرة العقل المعرفية، فهي غور في أعماق هذه الأقانيم بحثاً عن الكنوز الجالبة للثراء المعرفي، ولاشك أن العقل البشري -جهاز الحكمة الإنسانية الأقدم- هو الوسيلة الرئيسية للعبور والتنقل في ما بين وديان، وهضاب هذي الأقانيم، وهو المنهج أو المعيار الفصل في موضوعيتها. أما سيد المغامرة فهو ذلك الناقد المسافر بين عوالمها الداخلية، والخبير بأطرها الخارجية الحاضنة لها، والذي تخلى عن نزعاته، وانتماءاته الشخصية، ولم يبرح عنه حلم اكتشاف كنز معرفي جديد، يسهم في تقدم الوعي الإنساني، لتكتمل بذلك أهم عناصر الرحلة النقدية، القادرة على الفصل والمفاضلة في ما بين أطياف الحقيقة، والكشف عن المكنون فيها، أو آخر هامشي فيها.

ومازالت هذه الرحلة النقدية مدار اهتمام وإغواء لكثير من الباحثين والكتاب الذين أدركوا أهمية هذه الترحال المعرفي، فخاض بعضهم غمار هذه التجربة حتى باتت تشغل المساحة الأكبر من مشاريعه الفكرية، وأذكر هنا الرحلة النقدية التي خاضها المفكر د. محمد عابد الجابري في رباعيته الشهيرة “نقد العقل العربي”، وكيف دوى صداها في أوساط نقاد ومثقفين آخرين؟ بل إنها شجعت الكثيرين منهم على الولوج في عالم المغامرة النقدية، فتولد إذ ذاك نقد آخر مغاير لنقد الجابري، كان من أبرزها مشروع د.جورج طرابيشي الذي عكف على نقد الجابري سنوات طويلة مفككاً خطابه، وكاشفاً تحيزه، ومضيفاً للكثير من الإضاءات الفكرية التي لا تقل أهمية عن المنقود إن لم تتجاوز مشروعه أيضا.

بيد أن المتتبع للحراك الفكري في العالم العربي بشكل خاص يستشعر الحاجة الملحة للكثير من تلك الرحلات النقدية، فغياب الاشتغال النقدي الحقيقي سواء أكان ثقافياً أم اجتماعيا أم سياسيا... أفضى إلى إحكام قبضة التقاليد او النماذج القديمة المستبدة، وجمود عمليات التحديث، فلم نستطع أن نقدم خيارات وبدائل فاعلة في مواجهة التخلف الحضاري الذي يخيم على وجودنا وأفكارنا، ناهيك عن مسألة الإسهام في صناعة الوعي الإنساني.

ولا تفوتنا هنا الإشارة إلى أن الممارسة النقدية ليست بذاتها نفق الخلاص من الأزمات التي تعصف بأحوالنا، بل إنها تشكل الأداة المعرفية الأهم، والتي يصعب الاستغناء عنها في أي من عمليات الكشف أو التحليل أو التقويم أو الاستشراف، فهي وسيلة ذاك المسافر في رحلة بحثه عن معابر الخلاص، والخروج من نفق التيه الحضاري المظلم، فقد ساهمت هذه الأداة كثيراً في المنظومات التحديثية التي تقدم بها الآخر في العالم الغربي، فكان هناك العديد من المناهج والمدارس النقدية، التي نجحت في ممارستها النقدية -ولم يترك مشرطها النقدي منطقة إلا ودخلها- كاشفاً عن عطب المجتمع والدولة، ورافدا لمعالم عصر التنوير من بعد حقب الظلام الطويلة.

سوف نحاول في هذا المقال أن نتعرف الى بعض ملامح الرحلة النقدية المنشودة والتي من أهمها:

أولا: لا تعتبر الممارسة النقدية تهويماً نظرياً يتعالى على الواقع، أو فاعلية طوباوية تتجاهل الشروط الموضوعية، أو رياضة ذهنية للعقل، بل هي قراءة ترتكز بشكل أساسي على وعي وإدراك لنظام وقوانين حركة الواقع، بالإضافة إلى معرفة القوى المؤثرة، والمتأثرة فيه، ومن خلالهما تتكون أبعاد القراءة النقدية الجادة، والقادرة على الحضور والتمثل الفاعل.

فالممارسة النقدية المنشودة هي في حقيقتها منظار لرؤية الناقد الموضوعية لبلورة وكشف أعطال المشهد وجمالياته، والذي من دون شك ينبع من رؤية استراتيجية ثاقبة ومتكاملة لكل أبعاد اللحظة.

ثانياً: إن جوهر الممارسة النقدية هو تكوين فعل توليدي، وقراءة جديدة، هي ليست مجرد ممارسة تقويضية للأبنية والكيانات من دون أن تقدم رؤية بنائية جديدة، أو تسهم في صنع الخيارات البديلة. إن الممارسة النقدية فاعلية تهدف إلى توليد قراءة مغايرة، ومحفزة للذهن في رحلته الكشفية بحثاً عن أوجه أخرى للحقيقة.

ثالثاً: أحد أبرز ملامح الممارسة النقدية هو تحرير الفهم من السائد والمستبد على الأفكار والنظم؛ فالنقد في حقيقته يستهدف تشكيل قراءة جادة خالية من الأوهام والأعطال التي تستوطن العقول والمعتقدات، وهو فعل تمردي على السائد، وتحرري من أية سلطة تستبد بأنموذجه، وتحتكر الأفكار، وتمارس طقوس الإلغاء والإقصاء، كما أنه ليس نمطاً دفاعياً عن المرجعيات والسلطات لتبرير أعطالها وخيباتها.

رابعاً: إن الممارسة النقدية مساحة للشراكة، وتراكم المعرفة، تتسع لكل محب للمعرفة، ويريد أن يستنير من كشفها أو يراكم منجزها، وليس بالضرورة أن يتماهى معها أو يتطابق . فهي شيفرة وراثية للوعي المتراكم عبر الأجيال.

خلاصة القول إننا في أمس الحاجة إلى الاشتغال النقدي الذي يعبر أقانيم الفكرة والنص والوجود إلى آفاق مشروع تحديثي ترسو فيه سفينة رحالتنا الناقد في مغامرته المعرفية، ويجد كنزه المنشود.

لكن تبقى هنالك مزالق حرفت الممارسة النقدية عن مسارها ودورها التنويري، خصوصاً في عالمنا العربي، تحتاج إلى أن نسلط الضوء عليها، وهذا ما سوف نتطرق له في مقالات مقبلة.

كاتب كويتي

[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب إسرائيليون يهاجمون داعمين لفلسطين بالألعاب النارية في ج


.. -قرار بايدن- يغضب إسرائيل.. مفاوضات الرهائن في خطر




.. هل الميناء العائم للمساعدات الإنسانية سيسكت جوع سكان غزة؟


.. اتحاد القبائل العربية في سيناء برئاسة العرجاني يثير جدلاً في




.. مراسل الجزيرة: استشهاد ثمانية فلسطينيين نصفهم أطفال في قصف ع