الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عالم الاجتماع المغربي الدكتور إدريس بنسعيد المهاجر إلى السوسيولوجيا حبا و التزاما

عبد الرحيم العطري

2008 / 2 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في تاريخ السوسيولوجيا المغربية هناك تجربة تتكرر باستمرار، مع وجود الفارق طبعا، إنها تجربة الهجرة من هذه المعرفة أو الهجرة إليها ضدا في كل صيغ الاحتواء و التهميش، و عليه فقد تواترت الهجرات من السوسيولوجيا إلى قارات و "مصالح" أخرى، مثلما استمرت الهجرة إلى براديغمها الصارم مع باحثين حسموا الاختيار مبكرا و انتصروا لسوسيولوجيا النقد و المساءلة.
عالم الاجتماع المغربي الدكتور إدريس بنسعيد واحد من أبرز المهاجرين إلى السوسيولوجيا حبا و التزاما، فقد تأكد له قويا، و منذ أول خطوه المعرفي أنه لن يجد معناه و مبناه إلا في رحاب مدرسة القلق، هناك حيث الأسئلة الكبرى و الشحذ المتواصل لأدوات التفكيك و التركيب. لهذا كانت الهجرة "إلى.." و لم تكن بصيغة ال" من..".
فقد جاءنا إدريس بنسعيد منشغلا إلى حد بعيد بالسؤال الفلسفي، راغبا في اكتشاف المعنى و تبديد الغموض الذي يكتنف الحال و المآل، لهذا لم ينقطع عن ممارسته التساؤلية مزاوجا في اشتغاله دوما بين ريشة الرسام و مبضع الجراح، فهو منضبط لروح العلم حيث الحياد الذي يضمن الجرأة، كما أنه مخلص لحديقته الأدبية السرية حيث الأحلام بحجم السماء. ففي السبعينات من القرن الفائت كان بنسعيد يلهب السؤال الفلسفي مع تلامذته بالتعليم الثانوي، كانت حصصه الدراسية شيقة للغاية تغري آخرين من فصول و شعب أخرى بتتبعها، إلى الدرجة التي يصير فيه القسم مملوءا عن آخره، ذات التجربة منحته القدرة على تطويع الأفكار و تنزيل المفاهيم و ضمان الحد الأقصى من التواصل مع طلبته/ مريديه، الذين يتعلمون منه دوما درس الانتماء إلى مدرسة القلق و السؤال.
في ذات السنوات التي كان فيها مالكو وسائل الإنتاج و الإكراه يتهيبون أكثر من المنتمين إلى هذه المدرسة، كان بنسعيد يصر على هذا الانتماء المعرفي، و يناضل دفاعا عن الفلسفة و علوم الإنسان من خلال تحمله لمسؤولية الكاتب العام للجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة، مؤكدا هذا الدفاع سوسيولوجيا من خلال المراهنة على "التطور السلطوي بالمغرب" كأفق للاشتغال في مستوى الدراسات العليا بكلية الرباط، و في وقت لم يكن فيه من السهل اختيار هكذا موضوع.
في الثمانينيات سيلتحق بالتعليم الجامعي أستاذا لعلم الاجتماع و مختصا بالضبط في تدريس سوسيولوجيا السياسة و مناهج البحث و سوسيولوجيا العالم العربي و الإسلامي و سوسيولوجيا الصحة و أخيرا الأنثروبولوجيا المطبقة، فالتعليم بالنسبة إليه أشبه ما يكون باستدماج لمبدأي اللذة و الواقع في آن، حينها سيعلن للمشهد الثقافي أنه هاجر إلى السوسيولوجيا بالفعل و بالقوة، قادما إليها من قارتي السؤال الفلسفي و الإبداع الأدبي، و هو ما جعل هجرته تكون بطعم الامتياز و البهاء.
بجامعة محمد الخامس بالرباط سيواصل الانتصار لمشروعه الفكري الذي يتوزع على الترجمة و الأبحاث و الدراسات و الأدب أيضا، حينها سنكتشفه قارئا لنتاجات زملائه، و مساهما في إنجاز أعمال مشتركة و مترجما لكثير من المتون، و في ذات الجامعة سيختار إدريس بمعية رحمة بورقية و المختار الهراس و آخرين مأسسة مشروع علمي نموذجي في إطار مجموعة الأبحاث والدراسات السوسيولوجية، التي أنجزت العديد من الأعمال لفائدة مؤسسات وطنية و دولية، و هي المجموعة التي مازال ينسق أعمالها لحد الآن.
و على طول هذه الاجتهادات فإن هذا المهاجر إلى السوسيولوجيا حبا و التزاما، سيبين عن فائق الحرفية و الإبداعية في تدبير زمن الانكتاب و البحث، فإدريس بنسعيد يمتلك قدرة بهية على تطويع الحرف و تأجيج السؤال، بلغة موليير كما بلغة الضاد، و بلغة شكسبير أيضا، إنه متعدد في قراءاته و متميز في كتاباته. و تلك مميزة أخرى لابن شرعي لمدرسة القلق السوسيولوجي.
فاللغة بما هي مسكن للكائن، فإنها تصير عند بنسعيد مسكنا دافئا يعبد مسالك المعنى و يؤسس لفكر الاختلاف، فترجمته لا تنطرح كخيانة للنص، بل كاحتفاء به و استجلاء لمغاليقه، إنه ينقل الفكرة من متن لآخر محافظا على شرط انبنائها الأولي، و تلك مهمة استثنائية لا تتأتى إلا للكبار، ممن خبروا القراءة الواعية للنصوص. فالترجمة بالنسبة إليه ليست مجرد مقاربة كسولة و مطمئنة، كما أنها ليست بنقل آلي للكلمات من لغة إلى أخرى، إنها سفر بالفكر من سجل لآخر، و هذا ما يجعلها حتى في حالة الخيانة بمفهوم رولان بارت خيانة جميلة و لذيذة.
في درس الدرس حيث المعرفة بنكهة السؤال، يحرض بنسعيد طلبته دوما على استبدال العين البيولوجية بأخرى سوسيولوجية تلتقط تفاصيل التفاصيل، و تقرأ الوقائع الاجتماعية بعيدا عن يقينيات و ينبغيات الحس المشترك، منتقلا بهم من لحظة بناء الموضوع السوسيولوجي و تجريد المفهوم إلى غاية تنزيله و استثماره في الدرس و التحليل، لكنه لا ينسى دعوتهم إلى تصفية الدين تجاه الميدان، فالسوسيولوجيا عنده لا تستوجب الحياد و الصرامة المنهجية فقط، بل تتطلب أيضا حدا أقصى من التنظيم و الإبداعية، فضلا عن جرعات أخرى من العناد و الإصرار، لحمل صفة الباحث في علم الاجتماع عن جدارة و استحقاق، و لهذا يحذر من أن يكون المنتهى عند مناقشة الأطروحة و نشر بيضة الديك، فالبحث السوسيولوجي مشروع غير مكتمل، و الانتماء لمداراته هو اختيار معرفي لقلق تساؤلي لا ينتهي إلا لينطلق مجددا على درب التفكيك و التركيب. فيوما ما كما قال لوركا " تمضي الريح.. بفكرتنا الأخيرة..برغبتنا ما قبل الأخيرة"، حينها لن يكون مجديا إلا ما تركناه من تساؤلات.
إدريس بنسعيد إنسان لم يمت الإنسان فيه، إنه يضج نبلا و صدقا، وفي لأصدقائه، ممتن لأساتذته و محفز لطلبته، إنه سباق للتحية و الاحتفاء بالآخر، يدمن صناعة الحياة و لو في عز الألم و الضياع، فقد علمته الأيام أن الصمود و الشموخ هو ما نصفع به سخرية الأقدار و دسائس "الحرس القديم" التي تمنع المرء أحيانا حتى من الحق في الحلم و نحت طريق البحث و التفكير. ففي علاقته بالدكتور محمد جسوس نكتشف ملمحا آخر من هذا الامتنان "لمن علمه حرفا"، فقد ظل يدعوه باستمرار لجمع شتات محاضراته و أفكاره بين دفتي كتاب، و هو ما كان، بعد طول إلحاح، في "رهانات الفكر السوسيولوجي" الصادر عن وزارة الثقافة الذي قدم له و أعده للنشر، مساهما بذلك في تجذير ثقافة الاعتراف ضدا في ثقافة المحو التي كثيرا ما عانت منها السوسيولوجيا هنا و الآن.
إنه يدعو طلبته، كما فعل هو، إلى الهجرة إلى السوسيولوجيا حبا و التزاما، لا خطأ و صدفة، ينادي فيهم كما صدح جاك بريفر ذات لحظة شعر "لا تنتظروا جرس الاستراحة..اعبروا خزانة ذاكرتكم..اعبروا الموت .. اعبروا اعبروا"، انتقالا من السوسيولوجيا العفوية إلى الأخرى العلمية، إنه إدريس بنسعيد المهاجر إلى قارة النقد و المساءلة، إنسان ينتصر للبحث و التحصيل، و يقدم النموذج الأنصع و الأنبل للأستاذ الجامعي، فهنيئا للسوسيولوجيا بإنسان لم يمت فيه الإنسان، هاجر إليها حبا و التزاما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السيسي يحذر من خطورة عمليات إسرائيل في رفح| #مراسلو_سكاي


.. حزب الله يسقط أكبر وأغلى مسيرة إسرائيلية جنوبي لبنان




.. أمير الكويت يعيّن وليا للعهد


.. وزير الدفاع التركي: لن نسحب قواتنا من شمال سوريا إلا بعد ضما




.. كيف ستتعامل حماس مع المقترح الذي أعلن عنه بايدن في خطابه؟