الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوم من أيام الوطن

وليد الفضلي

2008 / 3 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لم تكن الكويت في يوم من الأيام مدينة منطوية على ذاتها؛ بل كانت على الدوام كياناً كريما حاضنا يلملم شتات الإنسان العربي، وفناء الحرية المنشود لكثير من المبدعين العرب، يوم نحرت حرياتهم، وأمانيهم على مذبح الأنظمة العربية، فكانت حلماً للإنسان العربي المكبل بقيود ضيق المعيشة، والاستبداد، ليستنشق فيها نسائم الحرية، وينعم بعيش كريم في مؤسساتها، وجامعاتها، وصحافتها الحرة.

كما وجد العربي في الشعب الكويتي نعم الأخ المواسي، والمتضامن، يتبنى قضاياه المصيرية، ويستشعر آهاته وآلامه، ويمد له يد العون والمساعدة. لتبقى الكويت حاضنة للقضية، والإنسان، ومدينة تتسع سماؤها لأطياف العرب.. كل العرب، فهي ليست مدينة معزولة عن خارطة الهموم العربية.

صور طيفية

الذين عاصروا فترات القضايا الصعبة في تاريخ الأمة العربية، يعرفون تماماً موقف الكويت تجاه نضال الشقيق العربي، وعلى الرغم من ذلك غطت سماؤها ظلمة حالكة السواد صبيحة الغزو الصدامي الهمجي، فانتفضت الأماني والأحلام الصادقة في ضمير الأحرار، وبكت ألما وحسرة على أرضها، وعلى شعبها يوم أراد المقبور أن يغيبها عن خارطة التاريخ. لكن الفجر أبى إلا أن يبزغ، ويلف نور الصباح المشرق والدافئ طرقات المدينة، فتعود من جديد مدينة ووطنا للإنسان، يوم هلت بشائر التحرير.

لي الكثير من الذكريات والصور الطيفية التي عبرت تاريخ ذاك اليوم، وتلحفت بدفء ذكرى تحرير وطن النهار، فطيف والدتي التي اختزلت عيناها جراحات الوطن المغصوب، فكانت تتمتم في الصباح دعاء لكشف الغمة، ولعودة النور للمدينة، ودعاء آخر يحفظ جميع أبناء الوطن سالمين، ورحلتها في تجهيز رغيف الخبز، وزرع سنابل الأمل في نفوس جميع أفراد أسرتها، لتستقر في مساء على سجادة الدعاء فتنثر حبات دمعها الحزينة بصمت، وتنبت الأمل في أمانيها ليوم جديد.

أما طيف والدي الذي أثقله عبء تجربة العيش في مدينة سرقت أنوارها، ومصاعب توفير لقمة العيش، والأمان المفقود لأفراد أسرته، ومازلت أتذكر تحريكه أزرار المذياع بحثاً عن صوت “هنا الكويت” لتنسكب الدموع على حال المدينة، أو عن خبر سار من هنا أو هناك، قبل أن يرابط في طوابير متراصة على أبواب السوق المركزي، فيأتي في الظهيرة حاملا علبا معدودة من الحليب لإخوتي، ومن ثم يبدأ النقاش والتحليل حول آخر التطورات مع أحد أقربائنا المطلوبين من قوات الاحتلال، ولا أنسى نبرة صوته “راحت الديرة”، ولكن عشقه للمدينة ملأ عينيه أملاً في اليوم الجديد.

أخي الصغير تحت الدرج

أما طيف أخي الصغير الذي كان كلما سمع هدير الطائرات، اتجه متعثراً إلى أسفل الدرج، لعله يجد فيه لحظات آمنة كان يعيشها قبل شهور، وسلبت منه.

أطياف كثيرة تزدحم في ذهني عن ذاك اليوم، فلا أنسى مشهد قوات التحالف عندما بزغت بشوارع المدينة، فيوقفهم الصامدون ويعانقونهم بحرارة شديدة، ويبكون من دون سابق معرفة، لم أعرف يومها سر ذلك العناق، أو فلسفة خيوط دمعنا المنهمر، لكنني أدركت الآن أننا وجدنا في عيون قوات التحرير أطياف اليوم الجديد.

ظلمة الليالي لم تمنعنا أن نعيش أحراراً، ونسجل للوطن أجمل عنوان، ونواجه قوى الجور والطغيان، وننسج المستقبل أحلاما ورديةً لمدينتنا الغالية.

ولكن هل فعلاً ذهبت تلك النفوس الذائبة عشقاً في المدينة؟ وهل صحيح حلت بدلا عنها بقايا سحب سود مختبئة لوثت يوماً المدينة؟ هل نسينا يوم تآلفت فيه إرادة قوى المجتمع، وتوحدت الأحلام في مدينة السلام، فسطرت أروع مشروع للشراكة بين تكوينات المجتمع والقيادة السياسية؟ لماذا يتلمس الفرد سيرة أيام المدينة بعد هذه السنوات من التخندق في المجتمع ضد ذاته ووحدته وانسجامه المتوارث؟ لماذا تغلبت الأصوات الشاذة على صوت العقل والحكمة في واقعنا الاجتماعي والسياسي؟ لماذا ارتفع هدير مدافع التخوين، والتشكيك، وغاب الوطن خلف أطنان من أحبار المعارك الإعلامية المشبوهة؟.

المواطنة شراكة حب

أيها السادة إن المواطنة ليست بطاقة عضوية في شركة عملاقة اسمها الوطن، بل هي شراكة حب وعمل من أجل بناء المدينة، فالسلوكيات التي شهدناها في الآونة الأخيرة تهدد أمن واستقرار المجتمع والدولة. وهذه الأصوات النشاز ذاتها اعتادت مراراً وتكراراً تسعير التوترات والاحتقانات بين الحين والآخر، وفي كل الاتجاهات من أجل هدر ثوابت الوطن، فهي لم تؤمن بالمرجعية المعيارية في المجتمع، والمتمثلة بدستور المغفور له الشيخ عبدالله السالم، طيب الله ثراه، والمؤسسين الأوائل للدولة الحديثة، إن القانون هو الحكم في أي احتقان اجتماعي، وهو الفيصل بين كل قوى المجتمع، والمنظم لحرية الرأي والتعبير على تناقضاتها في نسيج المجتمع الواحد، فيفضي إلى دروب نظيفة، ومُنارة لتجسد مشروع النماء، والاستقرار في الدولة والمجتمع.

أجمل كلمة

ونؤكد من جديد أن مشروع الشراكة في المجتمع ليس مجرد فيض لمشاعر كاتب على ورق الأماني، بل هو عمل دؤوب من أجل تغليب مصلحة الوطن ووضعها فوق أي اعتبار، وخلق لإستراتيجية وطنية للعمل الاجتماعي والسياسي على قاعدة ومبدأ الدستور والحوار كخيار يقيني لحلحة كل القضايا العالقة، في سائر المجالات وخصوصاً الحساسة منها، والتي تشكل أو يمكن أن تشكل موضعاً للخلاف والنزاع بين تكوينات المجتمع الواحد.

إن أجمل كلمة في الوجود هي الوطن، فلا معنى للوجود من دون وطن، وقافلتنا تمضي سريعاً في أسفار الدنيا، ولكن تبقى أرضه شاهدة على وحدتنا وإخلاصنا، والقمر يرقب قلوباً والهة أرقها الشوق، فغنت “يا وطن النهار”.

صغاراً كبرنا معه، وشابت رؤوسنا ولم يشب حبه فينا، ماجت الأيام فثبتنا على رسمه، نبيع العمر كله، وتبقى كلمة الوطن على شفاه أبنائنا، فهو نجمة الإرشاد للتائه في صحراء الكون، ولحظة بزوغ الفجر في صحراء الذات الإنسانية.

كاتب كويتي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا بعد سيطرة إسرائيل على معبر رفح وما موقف القاهرة ؟| المس


.. أوكرانيا تعلن إحباط مخطط لاغتيال زيلينسكي أشرفت عليه روسيا




.. انتفاضة الطلبة ضد الحرب الإسرائيلية في غزة تتمدد في أوروبا


.. ضغوط أمريكية على إسرائيل لإعادة فتح المعابر لإدخال المساعدات




.. قطع الرباط الصليبي الأمامي وعلاجه | #برنامج_التشخيص