الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لعبة الذكريات !

محمد عبد القادر الفار
كاتب

(Mohammad Abdel Qader Alfar)

2008 / 3 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ألعبها بحكم طبيعتي التي لا تجيد التكيف مع متطلبات مرحلة الرشد وما يلزمها من سلك نفس الطرق الاعتيادية، وتتـبّع آثار خطوات الآخرين في الدراسة والعمل، أو تلك الكلمة المزركشة "الطموح"، أو ربما لأنني متمسك بطفولتي وبملمحها الأهم : وهو حالة الدهشة من كل ما يصبح مألوفا وعاديا في المستقبل، وهي الحالة التي تضفي رونقا على كل ما تبصره عيناي أو تسمعه أذناي أو يشمه أنفي.
هي حالة تصفها أمي بالنكوص والتسمّر عند مرحلة سابقة أرفض انتهاءها.
لهذا أجدني متعلقا بلعبة الذكريات وما تجلبه من "نشوة" العثور على صفحات مطوية من الذاكرة، ونفض الغبار عنها عبر نغمة، أو رائحة، أو منظر ارتبط َ بشيء قديم ولم تـُتـح لي فرصة مواجهته ثانية ً منذ ذلك الحين.
يمكن تشبيه اللعبة بعملية البحث عبر " الجوجل " مثلاً على ثلاث كلمات وردت متتاليةً في قصيدةٍ معينة ٍ ولم تعد تذكر غيرها من كل القصيدة، لتجدَها تأخذك إلى مقاطعَ منسيةٍ، ما ان تجدَها حتى تكتشفَ في داخلك عوالم مكتنزةً من الشعر والنثر والفكر.

لعبة التذكر هي "كاستمناء عقلي" حيث تحاول أن تستدعي - عبر محاولة استحضار مشاهد معينة من الذاكرة – تجربة َ الإحساس بنفس ما كنت تشعر به وقت تسجيل تلك الذكرى، وبنفس تفاصيل الحالة التي كنت عليها، فتجد نفسك في نشوة غريبة قد تطول مدتها أو تقصر تبعاً لموهبتك في استدعاء الماضي ونشاط ذاكرتك، وجهد " ليبيدو " مخيّـلتك في الوصول إلى نشوة التذكر.

وهي أشبه بالاستمناء منها بالممارسة لأنها أكثر حرية ً وتنوعاً، ولا تتوقف على حالة واحدة، بل تأخذك من جوٍّ إلى آخر، ومن ذكرى إلى أخرى مثلما يأخذك الاستمناء من وجه إلى وجه ومن قوام إلى آخر.

الرسوم الكرتونية القديمة مثلا، تلك التي كنا نشاهدها في سن الخامسة أو السادسة على سبيل المثال ثم انقطعنا عن مشاهدتها، لا بد أنها ارتبطت عند كل واحد منا بأجواء معينة وبأسلوب حياة معين بل ربما بتجارب حسية معينة تحصلُ إذا ما استحضرتَ أكبر قدر منها في نفس اللحظة على نشوة التذكر الغريبة.

عندما تتاح لي مشاهدة هذه الرسوم اليوم، أو الاستماع إلى موسيقى المقدمة مع المشاهد "بتفاصيل ارتباط تتابع الصور بتتابع النغمات" ، أو حتى عندما تسترعي انتباهي الإشارةُ القديمةُ للمحطة التلفزيونية التي تم تسجيل الرسوم منها، أي شيء مما يمكنه أن يعيد إليّ شيئاً من ذلك النسيج المترابط من زمان ومكان وحتى فسيولوجيا تلك المرحلة العمرية....

ما الذي يحصل عندها؟؟

لقد وجدت ضالتي في مواقع مثل "اليوتيوب" الذي أتاح للمستخدمين في كل مكان تحميل ما يشاؤون من فيديوهات، وتستطيع أن تجد الآلاف منهم من هواة لعبة التذكر، بعضهم يحمّـل لك شارات وحلقات كاملة من الرسوم الكرتونية القديمة (ومعظمها مدبلجة من اليابانية بالطبع) والتي تقودك إلى فيديوهات أخرى ذات صلة related videos ‎‏ (عادة ما تكون هذه هي الفيديوهات الأخرى التي يشاهدها معظم من يشاهدون نفس الفيديو) وهذه الفيديوهات ذات الصلة تصدمك وتفاجئك بذكريات مدفونة تستدعي حالة من السرور euphoria ‎‏ قد يفوق أثرها أثر بعض أنواع المخدرات!
إنه الوعي الإنساني المدهش الذي يجعلنا قادرين على استدعاء حالة الدهشة من كل ما هو جديد (بما في ذلك العالم والحياة نفسها) والتي كنا نشعر بها في طفولتنا. يمكننا استدعاؤها لثوان، ويمكن مع التدرب إطالة مدة النشوة، لا تحتاج لذلك إلى أي " فياغرا " عقلية، لا تحتاج أكثر من التركيز والتأمل. فثمة قدرة خارقة عندك على التذكر تفوق كل فحولة العالم، وما عليك إلا اكتشافها.
هذه اللعبة العقلية التي يمكن اعتبار "الشيء بالشيء يذكر" أهمَّ مبادئها وقواعدها تقودك أحيانا من النشوة إلى " الاكتشاف "، فتكتشف معاني بديهية وصافية اعتلاها الغبار بمرور الأيام فأصبحت مخفية ومنسية مع نمو إحساسك بأن الأشياء تصبح مألوفة ومملة.

هي الطفولة إذا

تلك التي نقترب بها من حقيقتنا، من " حيوانيتنا "، وأرجو عدم اعتبار الحيوانية هنا صفة ً دونية.
فرغم أننا نتفوق على سائر الحيوانات بوعينا المدهش الذي تحدثت عنه آنفا والذي به تصبح لعبة التذكر ممكنة، إلا أننا ننتمي إلى عالمها الواسع.
ورغم أن ذلك التفوق الذي يفترض أن تتبعه المسؤولية والرعاية والرفق لا العنجهية والتسيُّد قد جعل الإنسان يعتبر نفسه كائنا آخر يبيح لنفسه قتل الحيوانات وأكلها أو "افتراسها" ، ومع أنه حين يشاهد فيلما عن الحيوانات مثل المسلسل الكارتوني "مخلص صديق الحيوان" تجده يستمتع باستمناء الدموع عبر استحضار كل ما هو محزن ومؤثر عن معاناة الحيوانات، فهو يتناسى أن كل ما هو محزن ومؤثر هو أيضا حقيقي وواقعي، وبعد أن ينتهي من مشاهدة "مخلص صديق الحيوان" تجده يذهب للحاق غدائه المتكون من فخذة دجاجة أو ضلع خاروف! حيث يصبح التأثر والحزن ترفاً فكرياً برجوازياً ضرورياً لاكتمال الصورة المفترضة للإنسان المتحضر.
هذا بالنسبة للكبير .. الراشد
لكن الطفل بدهشته ونقائه -وبعيدا عن المؤثرات الخارجية - إذا ما تعاطف مع الحيوان فإنه قد يرفض أكله، لكن ثقته المطلقة بوالديه اللذين منحاه الحياة تصبح منافساً قوياً لحسه الكوني عندما يقدمان له طعاماً يتكون من لحوم الحيوانات، فتطغى إنسانيته على انتمائه الكوني ولعالم الحياة .. تطغى على ما ينبغي أن يتحلى به من أخوية كونية universal brotherhood ‎ مع كل ما هو حي. فتأخذ عاطفته بالاضمحلال تدريجياً بمرور الزمن وتتالي الوجبات الدسمة، ليصبح افتراس الحيوانات الأخرى مألوفا واعتياديا وغير مذموم !
بل إن الواحد منا يفلسفُ جرمه ووحشيته بقوله أن العزوف عن أكل الحيوانات هو إنكار للعلاقات الطبيعية والسلاسل الغذائية المعروفة التي تحكم الحياة، والتي هي نفسها دستور الحيوانات التي يشفق عليها، ويتناسى أنه كان يفتخر قبل قليل بالوعي الإنساني الذي لا يقارن بوعي أي حيوان آخر، وهكذا تطغى إنسانيته على كونيته.
فهو يعتبر تعدي الإنسان القوي على الإنسان الضعيف ظلماً ويرفض اعتباره علاقةً طبيعية بين القوي والضعيف، إلا إذا كان من أنصار النازية والفاشية والنيتشية الذين لا حاجة بنا إلى حوارهم أصلا!

نحن بحاجة إلى تلك الدهشة المثيرة التي كنا نتحلى بها ونحن أطفال كي نكون أهلاً لهذه الدموع التي نذرفها عندما نتأثر فلا تكون مجرد طقوس عهرية !

هل خرجتُ عن الموضوع؟ وماذا كان أصلاً؟ هل تشتّتُ وشتتكم معي؟
تمهلوا


فالشيء بالشيء يذكر

وهذا مبدأ اللعبة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رهان ماكرون بحل البرلمان وانتخاب غيره أصبح على المحك بعد نتا


.. نتنياهو: سنواصل الحرب على غزة حتى هزيمة حماس بشكل كامل وإطلا




.. تساؤلات بشأن استمرار بايدن بالسباق الرئاسي بعد أداءه الضعيف


.. نتائج أولية.. الغزواني يفوز بفترة جديدة بانتخابات موريتانيا|




.. وزير الدفاع الإسرائيلي: سنواصل الحرب حتى تعجز حماس عن إعادة