الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طبروا كلكم إلا أنا!

نذير الماجد

2008 / 3 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قبل أن يترجل من منبره المزركش بألوان الدجل و المزخرف بنقوش القداسة و التعالي، و بعد أن أظهر براعة فائقة في تمثيل دور القديس المنزه، و ألقى ما في جعبته من وجبات ساخنة من التعاليم و التوجيهات و القصص و المعاجز و الكرامات التي غايتها الوحيدة تخدير العقول و تحفيز الانفعالات البدائية، قدمها بمهارة الماسك بزمام القلوب و الإيمان لقطيع الجياع المتعطشين للحقيقة و الخلاص، وبعد أن انتهى من حفلة التنويم و التجهيل التي ما انفك عن تنظيمها و رعايتها في المناسبات الدينية و في مجالس العزاء ضمن اشتغاله المحموم لسلب العقول و استغلال الناس في توقهم للخلاص..

قبل ذلك و بعده، بدأت تعلو شفتيه الذابلتين ابتسامة صفراء ارتسمت على وجهه و طبعت سحنته الممتلئة حيوية و نضارة بملامح التشفي و النكاية بأعداء وهميين و خصوم ينافسونه على الزعامة، ثم أعلن بكل حزم عن موعد شج الرؤوس! و أخذ يدعو الحاضرين "المؤمنين" لتلبية نداء الحسين و نصرته بشج رؤوسهم. فعل ذلك بطريقة مسرحية بارعة جدا: أشار بيده لجبينه و قال غدا الساعة الواحدة ظهرا.. لا تنسوا ذلك!

هذه المشاهد الاحتفالية التمثيلية هي البضاعة المزجاة التي يعتاش عليها مثل هذا الخبير الطقوسي اللامع، و ما أكثرهم بين ظهرانينا، إنه يقود طقوس الدجل مقابل المال و الذهب، يكفي تدفق دموع قليلة على الوجنات مع قليل من الاستعراض الكهنوتي وشيء من التقوى و اصطناع الورع لكي يقبض على حفنة من المال توفر له مؤونة عام بأكمله.

"لا ينبئك مثل خبير" فليس سواه من يمسح على رؤوس الناس و يمنحهم الطمأنينة و صكوك الغفران و يودعهم مفاتيح الجنة، لذلك لم يتوقف يوما عن إعلان نفسه سببا لاستجلاب الخير و استجابة الدعاء، إنه أحد رجال الدين الأرثوذكسيين الذين ينشطون و يمارسون دورهم كخبراء في الدين و الإيمان على محورين أساسيين، الأول: إشاعة ثقافة الكرامة و الإعجاز والتي ستؤدي تلقائيا لترسيخ الاتكالية الفكرية، والآخر: الإشراف على ممارسة الطقوس و الشعائر التي لولاها لما بقي للدين و الإسلام باقية. قلت "الإشراف" و لم أقل "العمل" لغاية لا تنقصها نباهة القارئ الكريم!

يرتكز هذا النشاط أساسا على مدى قابلية الجمهور لإعارة جماجمهم و عقولهم، و اعتبار كل ما يتعلق بالتدين و الإيمان و التقوى بمثابة مجال معرفي خاص لا يتمكن أحد من سبر غوره و لا الخوض فيه سوى الحائزين على الامتياز الكهنوتي.

حجة التخصص كافية للجم كل من سولت له نفسه بالاعتراض و التدقيق و النقد، فالممارسة الدينية هي كأي علم آخر يحتاج إلى التخصص و الإلمام و الدراية، و لست أدري أين يتموضع مبدأ الاختيار و لزوم القناعة الذي أكد عليه الدين أمام هذه المعضلة العصية على التفكيك! فأن أكون مختارا يعني ضرورة إلمامي و لو جزئيا بما أنا مطالب بممارسته. فممارسة أي مبدأ أو رؤية أخلاقية يتطلب ممارسة ضمنية للإدراك و المعرفة.. و هذا ما يتضمن بشكل ما آليةً نقديةً للمعرفة. هذه الفكرة البسيطة مغيبة عن الجمهور الذي أوكل مهمة تفسير الطقوس و الشعائر الدينية و التدين برمته للخبراء الطقوسيين، حيث" لا ينبئك مثل خبير"

الجمهور المؤمن و هو ينصت إلى هذا الخطيب المفوه المتحذلق بتقنيات لغوية قادرة على خلق مناخ من الانبهار والذهول يبدو متأرجحا بين العقل و النضج و الاستقلال الذاتي وبين الانزلاق لوهج العاطفة والمحاكاة، لكن المؤسف أن يكون الحسم للنكوص للمرحلة الطفلية بكل ما تعنيه من اتكالية و إذعان و خضوع للمربي و الأب، إنها ثقافة بطريركية أساسا، تنشأ من خلال قمع الرغبة في تجاوز المرحلة البدائية الطفلية للظفر بالتحرر و النضج و الاستقلال عن سلطة الأب!

و لا يمكن لهذا أن يتم من دون استدعاء ثقافة الرمز و توظيف دينامية الأسطورة.. فالأسطورة تمثل مفهوما مركزيا في هذا الصنف من الثقافة، من خلاله تتم السيطرة على رغبات التمرد و النقد و المسائلة و الرقابة و الأهم من ذلك كله تأجيل التفتح الذهني القائم على أساس التأمل و المراجعة إلى أجل غير مسمى! ليس هذا و حسب، فلكي تتم السيطرة أكثر ينبغي توسيع نطاق الأسطرة و الترميز ليشمل أمثال هذا الخطيب المبجل ذاته! فهو ذاته رمز يستقي جدوته و كارزميته من مقولة "العالم الديني" الذي يتمتع بسلطة إضافية تمنحه إياه الموروثات الدينية الشيعية التي تؤكد على دوره و أهميته في عصر الغيبة.

تصبح مقولة العالم الديني المعومة بطبيعتها الغطاء الذي يحجب واقع الدجل و الاتجار، الأمر الذي ينتج عنه حالة إرباك وخلط بين المتجرين بالعمامة و المستغلين لهالتها الدينية و بين من يتخذون منها وسيلة لخدمة الأهداف و المبادئ الرسالية المبجلة لديهم.

وحده الوعي و الفكر القادر على التمييز بين هذا و ذاك. وحده الوعي الذي بإمكانه التمييز بين العمامة التي تدعو لشيء و تتصدى لتطبيقه و بين تلك التي تصدر الأوامر و التوجيهات و تكتفي بعمليات الإشراف دون العمل بها و التورط بتعقيداتها و دهاليزها و مشاكلها العويصة ، لسنا هنا بصدد صياغة معيار واضح للتمييز و لا يعني أيضا توزيع شهادات حسن سيرة و سلوك لهذا دون ذاك، كل ما أعنيه هو أن هنالك من يستغل هذا الزي الديني بكل ما يعنيه من وقار و تسامي و نزاهة من أجل غايات ذاتية و حسب، حتى أن بعضهم لم يتحمل عناء ما يدعيه لنفسه من زهد و تقشف، فوقع فريسةً لنزعة الاستعراض و المظاهر الفاخرة كما هو شأن سائر الناس أو العامة بلغتهم الخاصة. لهذا فهو يستنكف التطبير رغم حثه عليه و دعوته له، دون أن يشعر بأي تناقض!

التطبير سلوك عنيف و هلوسة انفعالية و غرائزية أضرت بالحسين و المنتسبين له ضررا فادحا، و كل ذي عقل سليم لا يمكنه الوقوف بحياد تجاهه، انه عبارة عن سادية ضد الذات و تلويث بميكروب الجهل للحيز العام بأكمله، و يعتمد قبل كل شيء آخر على آلية انتشار العدوى الهستيرية، هذه العدوى لا توفر أحدا، إنها تجرف حتى الطفولة البريئة، فما إن تستشري بين جماعة حتى تستولي على الجميع، إنها تتمكن من الطفل و الرجل على حد سواء إلا هذا المعمم المبجل! فلست أدري كيف يسمح لنفسه الزج بمستمعيه في معمعة التطبير دون أن يمتشق سيفا و يشج رأسه معهم، لا أدري هل رأى أحدنا فقيها أو مرجعا أو حتى رجل دين "ختيار" بين المطبرين؟!!

صاحبنا هذا من أبرز دعاة التطبير، إنه و أمثاله يسعون باستماتة لنشر ظاهرة التطبير و تعميمها و فرضها كأمر واقع، حتى أصبح الطفل يتخذ منها وسيلة للتبجح و التفاخر، و هذا ما حدث فعلا لأحد الأصدقاء حين كان في زيارة لأحد أقربائه، كان يلاطف أطفال قريبه في مجلس الضيوف، أحدهما كان يفاخر بشجاعته حين تجرأ و شق جبينه في موكب التطبير، و كان بذلك يغمز من قناة أخيه الآخر الذي لم يشارك معهم، فما كان منه كوسيلة دفاعية إلا أن قام بحك راحة يديه بسطح زجاجي مكسور كان يغطي منضدة تقع في طرف الغرفة إلى أن أسال الدم من يديه و مسحه على حبينه و هو يردد: أنا شجاع مثلك تماما!

العتب لا يقع فقط على والد هذين الطفلين الذي يستحق المحاسبة لأنه مارس عدوانية فظيعة على نفسه و على طفليه أيضا و انتهك بذلك براءة الطفولة بل الأولى هو فك الارتباط بين هؤلاء الناس الطيبين و بين تلك العمائم و خبراء الطقوس كصاحبنا المبجل المتلون بالقداسة و المدعي للإيمان الذي لم يوفر حتى الأطفال، و السؤال المحير هو: إذا كان التطبير شعيرة دينية إلهية فعلا و تستوجب مشاركة الجميع بمن فيهم الأطفال فلماذا يستثني نفسه؟ لماذا لا يتقدم الجموع و يسفك دمه مع المطبرين؟!
سيبادر شيخنا الموقر و لسان حاله يقول: طبروا كلكم إلا أنا!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان


.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_




.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال


.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس




.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال