الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صناعة الخرافة ... خرافة العلم ، وخرافة الجهل

عبدالجليل الكناني

2008 / 3 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لقد نشأت الخرافة بفعل طبيعي نتيجة التطور الحتمي للفكر الإنساني ، وأن نشأتها وليدة الحاجة للإجابة عن ظواهر الطبيعة المبهمة وما تكتنفه من مخاطر تهدد الوجود ، وهي تأخذ طابعا مقدسا يكتسب شرعيته و قداسته من تسيده على العقل الحائر وعدم وجود حلول وإجابات بديلة . فمعارضة الصور والأفكار الخرافية المنتجة يعني تهديدا لاستقرار الوعي وتواصله مع الطبيعة ، أو تهديدا للهدنة القلقة بين الإنسان ومحيطه القاسي الجبار ، وتهديما للملاذات الهشة التي لجأ إليها لحل إشكالية التشوش والتهديد الجامح . وإن يكن ترويضا نفسيا إلا انه يأخذ صورة القناعة ومن ثم الإيمان الأعمى الذي لا بديل له ، ذلك الإيمان الذي تطور من خداع للنفس إلى يقين مبدأي راسخ . لذا فان الإنسان يذود عن تلك الرؤى والأفكار ، التي صارت عقيدة ، بقوة وبسالة ، بل أن الإجابات والحلول التي توصل إليها صبت في قناعاته حد الرسوخ وان أي دحض لها يعني تهديم بناءه النفسي المستقر وإعادته إلى حالة القلق والبحث المضني الذي لا طائل منه وفق معطياته الفكرية والعقلية ومحدودية إمكاناته المعرفية إزاء جبروت وقسوة الصراع . وكميل غريزي للاستقرار فان الحلول الجاهزة أو السهلة تكون أكثر قبولا ومبعثا للدعة والاطمئنان من تلك التي تستدعي جهدا بدنيا وذهنيا يبعث بالألم النفسي والجسدي والتي لن تكون حلولا مكفولة النجاح إنما مبعثا للقلق وتهديدا لتلك الغريزة . ومن هنا كان للخرافة طابعا مقدسا لترتبط بقوى الطبيعة الخارقة وهيمنة الآلهة كمسير لتلك القوى ومهيمن عليها فأعفى الإنسان نفسه من المهمة المستحيلة وهي السيطرة على الطبيعة ، ومن هنا أيضا أخذت الآلهة والقوى الغيبية طبيعتها المقدسة ليصير الإنسان كائنا متعبدا، عبدا لما يحكم وجوده لإحساسه بالضعف والعجز ولاستمالة أسياده من الآلهة لرعايته ، فراح يقدم لها كل ما يرضي غرورها وفق منظوره الإنساني الضعيف والذليل وليس وفق المنظور الإلهي القوي ، فاستوحى ألوان العبادات والتضحيات والطاعة بما يراه من أسباب موجبة ليقدم تضحيات كبيرة تليق بالقدرات العظيمة للإلهة فأهدى لها أعز ما يملك من قرابين طالت حتى الأبناء . والتأريخ مليء بالشواهد على ذلك ، حتى في الديانات الأكثر تطورا.
وقد مرت الصور الإلهية بتطورات لاحقة تبعا لتطور مفاهيم ورؤى الإنسان ليشذب صور الآلهة وينقيها من الصفات السيئة ، وفق منطق ما يجب أن تكون عليه ، و ليجد بدائل خرافية لقوى الشر ، يستمد منها علل الصراع الدائم بين الخير والشر حتى يومنا هذا .
ونحن حين نتحدث عن الأسطورة إنما نتحدث ، في الواقع ، عن خرافة منظمة ذات بناء عقلي يستمد منطق المعرفة والتطور الفكري للمرحلة ليحيل نصا أو مفهوما خرافيا ، أو عدة نصوص ومفاهيم خرافية ، من صور معتقديه منفردة إلى نسيج فني أكثر إقناعا مستلهما وقائع متخيلة يراد منها ترسيخ المفاهيم المبنية على تخيل غير منطقي ، وإحالتها إلى نسيج فكري ومعتقدي راسخ . وفي حين آخر ، وهو الغالب ، تكون الأسطورة وليدة الشك بعقيدة خرافات معينة مما يدفع بواضع لبناتها، إلى بنائها منطقيا، لحث الآخرين على تداول ذلك المنطق المجسَّد على هيئة أفكار ، شكيّة ، في واقعها ، و لتستحثهم على المشاركة في حمل عبئها الذي يثقل العقل. والأسطورة في الغالب تنشا تدريجيا وتتطور من عصر إلى آخر حتى تخضع للتدوين وأحيانا حتى المدونة منها تأخذ صياغات مختلفة وتنوعا في تفاصيلها. وفي رأيي أن الأسطورة تبقى في واقعها خرافة حتى تحصل على إجماع بكون أحداثها متخيلة وليست حقيقية لتخرج من دائرة الخرافة إلى دائرة الأسطورة ، وأنها تبقى في إطار الخرافة مادام هناك من يؤمن بها ، كما أن طرح الأسطورة وبنائها من وقائع خرافية ، إنما يهدف ، وان لم يكن لغاية واعية لذاتها ، لأمرين ، إما لترسيخها ودحض الشك بها ، أو تفنيد مفرداتها. وهي ، أي الأسطورة ، في واقعها ، تطور ارتقائي في طريق رفض الخرافات المرتبطة بها وإحالتها إلى نتاج فني وأدبي رمزي يعكس الصراع بين الإنسان والإنسان ، الإنسان والطبيعة ، والموت والحياة . فالأسطورة وليدة الخرافة وولادتها تشكل بداية الطريق إلى دحض الخرافة ذاتها ، لأنها تبدأ بطرح التداول المنطقي لأحداثها، ذلك المنطق الذي يتطور حتى يقضي عليها في صراع بين من يحمل لواء قدسيتها وبين أصحاب الفكر الحر الذي لا يخضع ، بسهولة ، إلى الإيحاء العقائدي ، وفي الغالب ، من الفئات القلقة المتشككة التي يصعب ترويضها ، من الذين يشكلون عماد التطور الإنساني والمعروفين بالتقصي والتحقق الدائب . ولا أعني بهم كل النخبة المثقفة والمتعلمة وكل العلماء والمفكرين والفلاسفة ، كما إنهم ليسوا جميعا من ضمن هؤلاء فثمة سند جماهيري من خارج تلك الفئات من أناس عاديين لم يُعرفوا بإبداع خارج الأطر التعليمية إلاّ أنهم يملكون الاستعداد العقلي لتقبل المتغيرات الفكرية ، ويتأثر عدد ونوع هؤلاء بالثقافات والعلوم وقوة وأحكام وعنفية الأعراف السائدة . وبما أن الخرافة ، في الغالب ، تأخذ شكلا عقائديا مقدسا لدى من يؤمن بها ، فإنها تشكل أقوى وأخطر الأسلحة التي يستغلها أصحاب الغايات الخبيثة للهيمنة على الناس وقيادتهم وفق مآرب شخصية انتهازية . فمن يؤمن بالخرافات القديمة من الذين ينقصهم التعليم أو المتعلمين الببغاويين والمنهجيين الذين يمتلكون ذاكرات جيدة لنسخ الأفكار والعلوم ويفتقرون إلى القرار الفكري والجرأة النقدية ، يمكن قيادهم وتمرير الغايات من خلالهم وبواسطتهم بالطرق البدائية وبأساليب الدجل والشعوذة التقليدية . وإما من جمح من المثقفين وازدان عقله بالعلم والمعرفة والثقافة فقياده لا يمكن إلاّ بالخرافة العلمية والأدبية التي ابتدعتها مؤسسات فكرية وعلمية متمرسة، إذ لا يمكن خداع هؤلاء بالخوارق التي تفتقد إلى المنطق العلمي ، فلا بد إذن من خرافة علمية ، علمنة الخرافة ، وأدبنه الخرافة . لتصير خرافة مقدسة لدى أصحاب المنطق العلمي والأدبي. وقبل أن أذكر نماذج منها أعود إلى الغايات. فغايات الذين ينشرون الخرافات التقليدية هي السيطرة على عقول الناس وقيادتها ، وذلك بجعلهم انقياديين واتكاليين كما أجدادنا الأوائل الذين اسلموا مقدراتهم في الصراع مع مجاهيل وأخطار الطبيعة إلى كينونات خرافية مقدسة تذود عنهم وتقرر مصائرهم فخضعوا لأحكام المجهول . ومن ثم جاء من حكمهم بصفة مقدسة كونه اله أو نصف اله حتى توالت النعوت والصفات الأخرى بقدسية لا تقل عن سابقاتها وجميعها ترسخ قدسية السلطة ، فقدسية السلطة ترتبط بقدسية الخرافة . لذا لا بد من خرافة مقدسة ليبقى الناس عبيدا للسلطة ، عبيدا للمجهول ، وليبقوا لا أدريين ، فكلما زادت المجاهيل ضعفت ثقتهم بأنفسهم وظلت الحاجة قائمة إلى مقدسات تذود عنهم ، تعلمهم وتهديهم لتكون بالنتيجة سلطة مقدسة . والخرافات التقليدية شائعة ويعرفها الجميع حتى أولئك الذين يؤمنون بها ، ولطالما يداخل ، الكثير منهم ، الشك بواقعيتها ، وهم حين يصرحون بإقرارهم بها إنما يفعلون بدافع الخوف ، سواءً من الفئات المتسلطة أو من لعنة الكائنات الخرافية فيما لو صح وجودها . ومع تطور العلوم والمعارف لم يستسلم ، المتنفذون وأصحاب المصالح الخاصة ، للثورة العقلية المدعمة بالعلوم التجريبية ، فراحوا يسخرون العقول ، المميزة ، بإغرائها ، بما لهم من سلطة وأموال وبالخداع أحيانا ،لدراسة الإِشكال الذي وقعوا فيه ، فهم من ناحية يحتاجون إلى العلوم لتزيدهم قوة ، إلاّ أنها من ناحية أخرى توجه نصل الحرية الى صدورهم . ومن قراءة ممعنة للتأريخ وجدوا أن وهم القدسية وسلطة الخرافة هما السلاح الفعال لإبقاء الهيمنة على الناس ، لذا لابد من خرافة عصرية تواكب العلوم وتتطور معها ومن هنا أُنشئت الخرافات العلمية والأدبية وخرافات الفن . وعن الخرافة العلمية، وهي الأخطر، التي تعبث بعقول الناس وتزيدهم ضياعا، والتي، وللأسف، تجد صداها قويا ومؤثرا حتى قي نفوس أكثر الناس ثقافة ووعي ، واقصد بها الدراسات التي تتحدث عن التخاطر، والقدرات الروحية والنفسية كقدرة التأثير عن بعد لدى البشر ، ما يعرف منها بعلم الباراسايكولوجي ، ظلما ، لما يمكن ، لو توفرت النوايا الحسنة ، أن يكون علما .
فالتخاطر ، مثلا ، ليس سوى خدعة إذ أن العمليات الفكرية وعمليات الدماغ تجري بواسطة تحولات كيماوية في الأعصاب وتنقل بتيارات ضعيفة جدا لا يمكن للمجالات الكهرومغناطيسية المحيطة بها أن تتجاوز جمجمة الرأس ، كما أن الدماغ ، لم يكن حتى الآن ، أقول حتى الآن ، لأنني أؤمن أن باستطاعة الإنسان أن يجري تحويرات عليه في المستقبل ، لم يكن الدماغ بمستقبل للإشارات اللاسلكية وليست فيه منظومة لذلك ، والأعصاب الناقلة لتيارات فعاليات الدماغ ليست أسلاكا معدنية ، أي أنها لايمكن أن تُحث بالمجالات الكهرومغناطيسة ، ناهيك عن كون الأجواء مشبعة بإشارات لاسلكية قوية تقوم بالتشويش على أية إشارة ضعيفة ، إن افترضنا جدلا بوجود إشارات للتخاطر ، وان كان لابد من طرح الموضوع فذلك يستوجب نقاشا مستفيضا . ولكن وكأية خرافة تكتسب بقائها ووجودها من قدسيتها فان خرافة العلم مقدسة لدى من يعتقد بها ، وازدراءها يعني له كفرا ، لذا تجد من يتبناها ، يذود عنها بعنف وبسالة من ذادوا عن الآلهة وقدموا أولادهم قربانا لها .
أصبحت العلوم المنحرفة مدمرة بكل الاتجاهات فهي تستنزف ذهنية الباحث بأوهام لا تغني ولا تشبع وتقيد الجماهير بإبهار زائف فتزيدهم ضياعا وعجزا وضعفا ومن ثم تبعية.
وفي الأدب وردت خرافات قيل عنها قصائد بتشجيع من مؤسسات اقتصادية وحاكمة مهيمنة نجحت بفصل القصيدة عن المتلقي ، عن عامة الناس ، لترتد هلاوس مبهمة يتلذذ بها ناظمها فلا هي تحرك ساكنا فتوجج مشاعر وأحاسيس فياضة ولا هي تصنع ثورة. فالشاعر انما محرض يلملم شذرات أحاسيسه الجياشة ورؤاه الإنسانية ويقدم عصارتها سهلة مستساغة تنفذ إلى وجدان الآخرين ويخلق منها صورا محرضة على الظلم واستعباد البشر مثلما ينسج منها
ألوانا باهرة تحرك عين الإحساس لتستكشف ألوان الحياة وبهائها وحسنها ، فتولد عشقا وهياما يجعل حتى من تبدلت مشاعره عاشقا نبيلا ، فالشاعر المحرض يعير أحاسيسه الجياشة إلى الآخرين ويغذيهم برؤاه .
لقد أصبح الكثير من القصائد ، وليست كلها ، محض موسيقى لعازف يخلط الإيقاعات ولا يسمع سوى صدى هلوسات شيطانية لخرافة مهيمنة . وبذلك فقد نجحت هذه المؤسسات السلطوية من إقصاء الشاعر الذي كان إلى يوم قريب يتوسط الجماهير ويضيء أرواحهم بفيض مما يختزن من ضياء .
وفي الأدب قرأت نقدا قال عنه صديق لي إنها البنيوية ، وعسى أن لا تكون هي كذلك ، أعترفُ أن الناقد ذكي ، راح يسفسط العلاقات بين الكلمات والصور كما يفعل الساحر في السيرك ، بشكل يبهرك ، ولكن ما يجري أمامك ليس منطقيا ، فمن يصدقه ساذج ومن يكذبه حائر .
وفي الفن ومنه السينما ، حيث البطولات الخارقة ومصاصوا الدماء وأصحاب القدرات الغيبية أسرت العقول وهيمنت عليها لتكون أرضا خصبة لتصديق ما لا يعقل ، لقد أُدخلت الخرافة إلى كل بيت . والغاية واحدة ، ألا وهي تهيئة عقول الناس لتقبّل ما ينافي العقل وإبقائهم في دوامة اللاأدرية ، مما يجعلهم مطيعين ، مقدِّسين ، لمفهوم السلطة وليس لقانون العقل والمنطق الرصين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. معاناة متفاقمة للفلسطينيين وتعثر التهدئة بسبب مواقف نتنياهو 


.. مصرع المئات بعد فيضانات مدمرة في أفغانستان ?




.. مشاهد لنسف الجيش الإسرائيلي بقايا مطار ياسر عرفات الدولي شرق


.. حزب الله: هاجمنا 3 أهداف إسرائيلية في مزارع شبعا المحتلة وثك




.. يوم ملتهب في غزة.. قصف إسرائيلي شمالا وجنوبا والهجمات تصل إل