الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خريطة الطريق نحو الإصلاح ( تشخيص الحالة : إنقاذ الإسلام من براثن المسلمين) ( 2 ) سقف المعرفة غاية مستحيلة

سيد القمنى

2008 / 3 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لازلنا نرصد مظاهر الحالة الإسلامية كأعراض لمرض عضال بحاجة ماسة إلى علاج ، و لعل أهم الأعراض المستعصية هي الاعتقاد السائد بين معظم المشتغلين بالشأن الإسلامي ، و هو الاعتقاد الذي عمموه بين المسلمين بامتلاك الحقائق النهائية و المطلقة ، عبر امتلاك الحكومات المسلمة لوسائل التثقيف العام من إذاعة و تلفاز و مسجد و مدرسة ، و هي أقوى عوامل تشكيل الرأى العام اليوم . هذا العرض المستعصي يقوم على اعتقاد أن السلف لم يتركوا شيئاً للخلف ليبحثوا فيه ، و أن الأمة قد عقمت من بعد خصوبة ، رغم أنها كانت خصبة إلى حد تعاصر فقهاء المذهب السني الأربعة خلال أربعين سنة فقط . و لكن لأن الزمان لم و لن يجود بمثلهم ، كما توافق علي ذلك الفقهاء من بعدهم ، فقد أصبحوا خاتمة البحث و نهاية الأزمان ، بعد أن وضعوا كل علم ممكن و انتهوا منه ، باختصار ، بلغوا نهاية العلم و سقفه الأخير . هذا رغم قصور البشرية جميعاً عن بلوغ هذا السقف ، و معرفتها أنها قاصرة عن بلوغه ، و أن هذا هو السبب الأساسي في التطور العلمي ، و الفكري النظري ، و التقنى ، و الفنى ، و الحقوقي ، و الاقتصادي ، و الاجتماعي ، و السياسي . بينما عندما يقول قوم أنهم قد بلغوا سقف العلم ، فهو ما يعني أنه لا مجال لكلام آخر ، و لا مجال لقول جديد ، و لا مساحة لقبول أي تغير . هذا كله في واد ، و الواقع قد تغير تغيرات هائلة بلغت فيه ما تحققه البشرية كل عام منذ عام 2005 ، ما يعادل ما حققته منذ وجود الإنسان على الأرض . و نصيب المسلمين من بلادهم في هذه الكشوف الهائلة كماً و كيفاً هو صفر عظيم .
إن عدم قدرة بلوغ نهاية العلم و المعرفة ، هو أس جوهرى في عملية التطور اللازمة للبشرية ، و زاد البشر على التطور الفيزيائي البيولوجي الميكانيكي الدائب و المستمر للكائنات ، أنهم تمكنوا من إعمال عقلهم في الطبيعة مما سرع بعملية التطور الإنساني بدرجات هائلة ما خطرت على قلب بشر . و من هنا فإن الاعتقاد بكمال المعرفة عند المسلمين هو عرض واضح و جلي لتردي أحوالهم هذا التردي المثير للشعور بالخزي و العار .
يعتقد المسلمون أنهم قد امتلكوا نواصي العلم كله ، وأنهم مكلفون بتعميم معارفهم على العالمين ، بل و فرضها على الكوكب الأرضي فرضاً ، و يحيلون كل النقائص إلى العالم المتقدم الذي سبقنا حقاً و صدقاً بما يقاس بالسنين الضوئية ، و يخلطون بين كراهيتنا التاريخية لهذا الغرب ، و بين مناهج هذا الغرب في التقدم و أساليبه في المعرفة و سبله للرقى و الغنى و الرفاة والسعادة .
و المشكلة التقنية و الاعتقادية في مثل هذا الاعتقاد ، هي أن المسلم ( حسبما يعتقد ) هو من سيُسأل عن أعماله وحده في نهاية الأمر ، و هو بإسناد أعماله إلى اعتقاد بكمال و تمام فقه و شريعة ، هي من علم و إنتاج بشر مثلنا يصيبون و يخطئون ، بعدما فارقت المبادئ الشرعية الأولى بساطتها إلى منطقة شديدة التعقيد بإضافات أهل الفقه و زياداتهم في دين الله . فبينما وضع القرآن ما لا يزيد عن سبع قوانين ( شرائع ) للمجتمع ، و بضع عشرات أخرى تأسيساً على الحديث ، فإن المذهب الشافعي مثلاً لديه ما ينوف علي ستة آلاف تشريع ، و مثلها في خزائن المذهب الحنفي و تتزايد في بقية المذاهب ، و هذه الآلاف من التشريعات جاءت كلها زيادة في دين الله ، و إذا كانت خاصية الإسلام هي التوحيد المطلق ، فمن غير المفهوم كيف يمكن للمسلم الجمع بين هذه العقيدة و بين خمس مجموعات مذهبية للتشريع تتضارب وتتناقض مع بعضها البعض . إن هذا الركون لأحكام وفق رؤية فقهية أو مذهب بعينه ، يجعل المسلم يعرض نفسه للمساءلة و العقوبة ، بل و ربما للتهلكة ، بل و ربما إلى الانقراض من البشرية ، و هي العقوبة التي لا يعفيه جهله بها منها .
هذا بينما المصري القديم ، كان يعرف منذ خمسة آلاف عام أن اكتمال المعرفة نقص و مرض ، أنظر ما قاله على لسان بتاح حوتب : " أنظر كيف يمكن أن تتعرض لمناوأة الخبراء في المجلس ، إنه لمن الحمق أن تتحدث في كل ضروب المعرفة / ول ديورانت / مقدمة موسوعة قصة الحضارة / ص ح " .
و اليوم نري المصري المسلم و قد ارتكس خلفاً إلى ما وراء زمن بتاح حوتب ، عندما قام يفسر : " و ما فرطنا في الكتاب من شئ " بأن القرآن قد حوى علوم الآولين و الآخرين فامتلك الحقيقة المطلقة ، و صار بإمكانه أن يتعرض لمناوأة الخبراء في المجلس ، و يظن أنه خبير يمكنه الحديث في كل ضروب المعرفة . بينما كل ما تحمله الآيات الكريمة خبراً مفاده أن القرآن الكريم لم يفرط في شئون التعبد و الدين من شئ ، و ليس التفريط في علوم الأركيولوجيا و البيولوجياو الجينولوجيا و الكيمياء و الرياضيات و إدارة الدول و نظم الحكم و أساليب الاقتصاد و حقوق الإنسان و الديمقراطية ، لأن القرآن كتاب في الدين ، كتاب في الإيمان فقط ، و حسبه ذلك شرفاً و رفعة و فخراً و مجداً و سؤدداً أزلياً أبدياً .
و قد زاد المسترزقون من كهنة على حساب المواطنين من استفحال العرض وعوص هذه المشكلة ، و تجذيرهم الاعتقاد في امتلاك المسلمين للمعرفة التمامية ، و هؤلاء المسترزقون هم من قاموا يتاجرون بمأساة المسلمين ، ليحققوا ثروات خيالية من حكاية وهمية اسمها العلم و الإيمان ، كلها عبارة عن شعر فخر و هجاء و أحاديث سمر عربية حول نيران القبيلة و بعيرها في الليالي القمرية ، أحاديث فخر ليس أكثر ، لأنها موجهة لنا و لا يعرفها أحد غيرنا ، هي سمر رتيب ممل تفخر بربنا الذي يتم وضعه وفق هذا التصور في موقع شيخ القبيلة المسلمة ( حاشاه و هو الكمال المطلق ) ، و هو شيخنا هذا الذي عرف كل العلوم القديمة والحديثة و المعاصرة التي اكتشفت و التي لم تكتشف بعد ، قبل كل العالمين ، و أعلمنا بها و وضعها لنا في كتابنا المقدس ، و لا تعلم اذا كان ذلك صحيحاً ، فلماذا لم ينتج لنا أصحاب العلم و الإيمان اكتشاف واحداً إسلامياً أصيلاً من نصوص القرآن أو الحديث ؟ كي نسبق به العالم و نفيد به بلادنا المعتوهة لكثرة ما تعاطت من مأثور تخديري أصابها ببلهنية بلهاء ، حتى كادت تصل حالة الموت التخشبي . الكارثة أن عملية التهجين للمقدس بالعلم الإنساني كرست اعتقاد المسلم أنه بغنى عن معارف العالمين ، و عن العلوم كلها دفعة واحدة ، لأنه يعتقد أن بيديه أسرار الدنيا و مفاتيح الآخرة ، ما ذهب منها ، و ما لم يأت بعد ، و دون أن يجد المسلمون بعد كل تلك الأبحاث في العلم و الإيمان أي شئ ذي قيمة بين أيديهم .
و لأن الإسلام و علومة ليسا حكراً على طائفة بعينها دون المسلمين ، فإن الرهاب المكرس لعدم تجاوز فقهاء الأمة ، لم يوقف هؤلاء الفقهاء أنفسهم عن نقد سابقيهم و نقضهم ، و هو ما تجلى في رد أبي حنيفة النعمان على هذا المبدأ الباطل : " هم رجال و نحن رجال " ، فليس بين المسلمين آلهة و لا أنبياء بعد أن ختم محمد ( ص ) تواصل السماء مع الأرض . و من ثم فإن أول مطلب في روشتة العلاج هو الاعتراف بالمرض ، و أن التراث الإسلامي قد أصبح يحمل أوراماً سرطانية و اثقالاً كسحته عن مسايرة حركة التطور ، و أنه يجب أن يخضع لعمليات جراحية عاجلة مع تقويم و مراجعة و نقد قاسي ما أمكن ، لكن بشرط التزام العلمية الصارمة دوماً ، مع الفحص و التعديل و الإلغاء و الإضافة و الحذف ، مداً لحبل حكمة النسخ في الوحي ، و هي حكمة التدرج في الأحكام إلى مداها الطبيعي ، و هو التدرج الذي يقوم على مقاصد الشرع الكلية .
و لو صح أن اجتهاد فقهاء السنة الأربعة ، و بقية المذاهب بما فيها الجعفري ( الشيعي الإثنا عشرى ) ، أنها قد وصلت إلى سقف المعرفة ، و أنها أصبحت صالحة لكل زمان و مكان ( و هي آفة فكرية لا يقول بها عاقل ، فلا شئ صالح لكل زمان و مكان بالمطلق ، و قولاً واحداً ، و لا يقول بذلك إلا من جهل أنه جاهل ) ، و لو صح أن ما صلح لزمنهم صالح لزماننا ، فلماذا نحن أمة الله المتخلفة دون العالمين ؟
و مع اعتقاد المسلمين بصحة هذا المبدأ الباطل ، تم إغلاق باب الاجتهاد دون إصدار أى أوامر بإقفاله ،لأن إغلاقه قد أصبح من مستلزمات الشريعة و خصائصها دون صدور قرار بذلك ، بعد أن أصبح غير ممكن تجاوز من وصلوا سقف المعرفة . و بدلاً من أن يعتبر المسلمون رجالات مأثورهم بداية لطريق تطورى اجتهادي طويل ، اعتبروهم نهاية الطريق ، فضرب الشلل كل مراكز التفكير في العقل المسلم . ماذا يمكن أن يقول المسلم لمن يقولون له : قال ابن تيمية ، و قال البخاري ، و قال عمر بن الخطاب ؟ هل سيخطر على بال مسلم أنه مطلوب منه أن يقول شيئاً بعد ما قال هؤلاء المقدسين ، ناهيك عن مخالفتهم أو إعمال العقل في نقدهم ؟ وفق هذا المعنى لابد أن يصاب اللسان بالخرس ، و يموت السؤال ، و يضرب الذهان مراكز التفكير، فلا يعود المسلم يميز بين الممكن و المستحيل ، فيضرب بإرهابه العالم متصوراً أنه سيسود العالم و يقيم دولة الله في أرضه ، و هو من بين أشد شعوب هذا العالم ضعفاً و جهلاً و تخلفاً !!
و بدلاً من أن يعتبر المسلمون أن تدرج التشريع درس لهم ليمدوا طرف الخيط على استقامته فيتدرجون بل و ربما ينسخون كثير من التشاريع مع المتغيرات ، حتى يبقى تشريعهم حياً فاعلاً ، فقد اعتقدوا أن هذا التدرج خاصية قرآنية ربانية لها علاقة بتواصل السماء مع الأرض عبر الملاك جبريل إلى نبيه ( ص ) ، و أن هذه الخاصية قد توقفت بتوقف الوحى بوفاة صاحب الدعوة ، و من ثم قرروا الوقوف عند آخر أحكام تطورت إليها نصوص الوحى ، و جعلوها أحكاماً نهائية ، قدسوها و جعلوها حكم السماء الأخير القاطع ، الذي لا يجوز تجاوزه على تغير الأحوال و اختلاف الأماكن و تبدل الأزمان ، هذا بينما ( الفقه ) نفسه يقوم على أسس نظرية لم يقم هؤلاء العارفون بالمطلق بتفعيلها فيما يبدو عن قصد و نية مبيتة للمسلمين ، فالفقه الإسلامي " لا ينكر و لا يستنكر تبدل الأحكام و تغيرها بتبدل المكان و اختلاف الزمان " ، و هو ما استند إليه الإمام الشافعي عندما غير من فتاواه في زمن واحد ، ما بين وجوده في العراق و بين وجودة في مصر . و من أبرز الأسس النظرية المعيارية المفترض أنها حاكمة ، الأساس الذي يجعل " الحكم يدور مع العلة وجوداً و عدماً "، و لا تفهم كيف يتم التجاوز عن هذه الأصول من فقهاء يركزون على ظاهر اللفظ و حرفية النص ، و يظلون فقهاء ؟ لا تعلم كيف ؟ ثم لا تعلم كيف أمكن لهم تضليل المسلمين كل هذا التضليل لمنافع و مكاسب دنيوية بحت ، و مكانة اجتماعية مرموقة ، و سلطة سيادية برغبة الرعية ، بدليل استكانة المسلمين إلى هذه المفاهيم التي تبدو ديناً جديداً غير ما نعرفه عن الإسلام في بكارته الأولى ، و عدم احتجاجهم على مشايخهم بل و تقديس هؤلاء الفقهاء ، فأى نازلة نزلت بنا أيها الناس ؟ !!
ضمن و بين هذه الأسس فلسفات في الإسلام و التشريع سبقت زمنها فتم قبرها لأنها كانت أكثر حرية من ممكنات احتمال الفقهاء الآخرين حينذاك ، فلسفات فقهية اعتبرت الانسان هو غرض الله و غرض الرسالة ، و ليس الغرض مجرد العبودية لله ، فالله أكمل من ذلك و أرفع من ذلك و ليس بحاجة لعبيد ليتأله عليهم و يستعبدهم فيعبدون ، وأن الكتب المقدسة جاءت إلينا من أجلنا و ليس من أجل السماء ، لتيسير معاشنا لا لتعقيده ، و لجعل الدنيا أكثر راحة و طمأنينة و يسر، إسعاداً للبشر لا إثارة لكآبتهم و حزنهم رعباً من مكر الله و جهنماته المتنوعة ألواناً و أصنافاً من العذاب . فلسفة تعبتر الإيمان نعمة و سعادة لا اختباراً و امتحاناًُ عسيراً و مشقة و عنت و نقمة متربصة تقف من ورائها فكرة المكر الإلهي ، الذي كان يخشاه أعدل الخلفاء ( عمر بن الخطاب ) ، مع الفزع من جهنم و زبانيتها .
نظرة قامت على التفلسف أكثر مما خضعت لشروط الشافعي المستحيلة الواجب توافرها في المجتهد ، اعتمدت أكثر علوم الفلسفة جدلاً و حرية ، علم الكلام ، لتقيم عليه نظريتها الفلسفية الفقهية .
من بين هؤلاء الفقيه اللمعة الثاقب (نجم الدين الطوفي الحنبلي) ، الذي تجرأ على كسر أهم القواعد الفقهية ( لا اجتهاد مع النص ) فأباح الاجتهاد حتى مع النصوص الواضحة القاطعة المجمع بين الفقهاء على قطعيتها الثبوتية : النصية و الدلالية ، استناداً لاجتهادات الخليفة عمر مع نصوص قرآنية و حدود تشريعية ربانية قاطعة ، بالتعطيل و بالمخالفة و بالإلغاء ( كما في إلغائه فريضة متعة الحج و فريضة متعة النساء و فريضة المؤلفة قلوبهم ). لإختلاف المصالح بدوران الأزمان ، و من ثم قدر الطوفي أن رعاية مصالح الناس تعلو على النص و الإجماع و تقدم عليهما ، استناداً لقول النبي ( ص ) : " لا ضرر و لا ضرار " ، ثم لدينا نجم عظيم آخر من فقهاء اليسر و البهجة الذين أوسعوا من صفحات الاجتهاد نحو مزيد من الحرية هو ( الباقلاني ) ، الذي قلما يعرج إليه رجالات أزهرنا المبارك الشريف ، اشترط هذا الرجل للاجتهاد الصحيح التضلع في الفلسفة أو بالذات ( علم الكلام ) ، و اعتمد علم المنطق الأرسطي معياراً للاستنتاج الصحيح ، و لم ير في ألوف المباحث الفقهية العجييبة المتكاثرة و شروطها الأعجب المتناثرة أى ضرورة ، كل ما طلبه للمجتهد هو أن يعرف القواعد العامة لأصول الفقه و المعروفة بالمقاصد الكلية للشريعة و ما أيسرها ، لأنها تتلخص جميعاً في جملة واحدة هي : مصلحة العباد .
و ما أبكر مثل تلك المحاولات العبقرية التى تم إهالة الإهمال عليها ، حتى كادت لا تجد لنفسها مكاناً في أحاديث مشايخنا رغم ركوبهم إعلامنا ليل نهار، فهذا الإمام ( الجويني ) في القرن الثاني عشر ميلادي ، يؤكد أن المعرفة بمقاصد الشريعة كافية وحدها كأساس في الاجتهاد ، بتنزيلها على واقع الزمان و مستجداته و مشكلاته التي لم تكن معلومة من قبل ، و الغرض من هذا التنزيل هو مصلحة الناس أولاً و أخيراً ، و هو كله ما يقوم على مدركات عقلية بالأساس و ليست نقلية و لا نصية .
من هنا ساغ للجويني الثاقب اللماع بين الفقهاء و( إمام الحرمين ) أن يرنو للمستقبل ليراه و هو يتطور في قفزات هائلة ، حتى يأتي زمن على الناس لن يعملوا فيه بأصول الشريعة الإسلامية حتى تصبح الشريعة تاريخا غير فاعل ، و ربما غير موجودة نتيجة مفارقة الواقع لها ، لأن الواقع يتغير و يتطور بالضرورة دون أن ينال النص الديني ذات التغير و التطور . و من هذه الرؤية المستشرفة للمستقبل ينتهي الجويني بجرأة نادرة و بفرادة سبق بها زمنه إلى نتيجة غير مسبوقة ، و للأسف غير ملحوقة بين الفقهاء ، ينتهي الجويني إلى ضرورة تهيئة العقل المسلم و ترويضه حتى يمكنه التعامل مع ذلك الزمن الآتي بمنطق ذلك الزمان الآتي دون منطق الشريعة .
و منطق ذلك الزمان الآتي لاشك سيقوم على العقل ذاته و هو يمارس وظيفته ، لذلك يجب تدريب العقل المسلم على قبول الزمن الآتي ليتمكن من الحياة فيه و الفعل فيه ، و إن غابت نصوص الشريعة ، و يكفي المسلم أن يكون عالماً بالمقاصد الكلية للشريعة ، و هذه المقاصد تحديداً و تدقيقاً هي مصلحة البلاد و العباد ، و ها قد أتى ذلك الزمن الآتي الذي كان يتوقعه عن يقين و ترقب توقعه إمام الحرمين .
و بعد حوالي ثلاثة قرون احتاج الزمن المزيد من التنبيه إلى ضرورة التغير و التجديد و التحديث فظهر الإمام ( الشاطبي ) و ما أدراك ما الشاطبي ؟ ! في جمل سريعة لا تعرض من هو الشاطبي الذي سبق زمنه و تجاوز فقهاء أزهرنا مجتمعين ، هو الذي أقام اجتهاده الفلسفي عوداً إلى فكرة المقاصد الكلية للشريعة ، فقام يستخرج من الشريعة مقاصدها بنوداً واضحات ، التي هي مصالح العباد دنيا و آخرة ، و أخضع هذا الاستخراج لمقدرات و لعادات واقع زمانه طالباً التبديل و التعديل وفق متغيرات الزمان و تقاليده و بشروط زمانه و مكانه ، لذلك اشترط الشاطبي علي الفقيه في الزمن الآتي أن يكون عارف بعلوم عصره و متصلاً بواقعه ( ترى كم من فقهاء اليوم يدري شيئاً و لو يسيراً عن علوم عصرنا ؟ ) ،حتى ينزل مصلحة العباد أى المقاصد الكلية للشريعة على هذا الواقع ، ليحثه نحو مزيد من المصلحة . و ارتأى أن الفقه بحاله حتى زمانه هو لون من الإجابات المعدّة سلفاً لكل مسألة حدثت أو قابلة للحدوث أو متخيلة ، و الفقه بهذه الإجابات المسبقة لا يقف بهذا المعنى نداً للزمان الذي جاء بأسئلة جديدة لم تخطر على خيال فقهائنا القدامي ، و ليس لديهم إجابة عنها لأنها لم تكن قد وجدت بعد ، لذلك لابد أن يختلف الحكم بحسب ظروف الواقع ، مع مراعاة أن الأصل في الأشياء هو الإباحة و ليس التحريم . و هو ما يعني تفسيراً دقيقاً لمعنى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، فالمعروف هو ما تعارفت عليه قيم و عادات زمانه ، و المنكر هو ما أنكره العرف الاجتماعي و قيم زمانه . و من ثم لم يعد المعروف أبداً من أصول الشريعة بحسبانه يعني الدعوة إلى الإسلام و شريعته ، أو هو إقامة دولة الله علي الأرض كما يزعمون .
و علي ( الطوفي ) و كسره الجرئ لقاعدة لا اجتهاد مع النص ، و علي (الباقلاني) و براحة العقلاني ، على (الجويني) و مساحته الحرة المنطقية العقلانية الصرف ، و على (الشاطبي) و طلاقته المصلحية ، و أن الأصل في الشرع كله هو الإباحة تيسيراً على العباد الذين تشكل مصالحهم الهم الأول للفقيه ، سنكمل مشوارنا الآتي مع خريطة التشخيص و الإصلاح .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إطلاق نار وحرق كنيس يهودي في جمهوريتين اتحاديتين بروسيا


.. صور لاستمرار المعارك في محيط الكنيسة بمحج قلعة بداغستان




.. زاوية جديدة للاشتباكات المسلحة في محيط الكنيس اليهودي في داغ


.. مشاهد تظهر استيلاء مسلحين على سيارة شرطة أثناء تنفيذ هجوم عل




.. 119-An-Nisa