الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان هو الحل

نهرو عبد الصبور طنطاوي

2008 / 3 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لولا الإنسان لما وجدت الأديان، ولولا الإنسان لما وجدت الحياة ولما وجد الموت، ولولا الإنسان لما كان ثمة كتب سماوية ولا أنبياء ولا شياطين، ولا قيامة ولا حساب ولا جنة ولا نار، الإنسان هو مركز الكون ومحوره، بل هو الكائن الوحيد الذي استطاع السيطرة على الأرض والقدرة عليها بتوجيه الله له، الإنسان هو الكائن الوحيد الذي استحق وعن جدارة أن يكون سيدا للكون بلا منازع بتوجيه الله له، ليجلس في علياء هذه الحياة، ليس بمصانعه ولا بما يشيده من ترف ورفاهية، ولا بما يكدسه من قوة ودمار لاستضعاف بني جنسه وقهرهم، ولا بما يحصده ويكنزه من أموال وزخرف وزينة وطلاء، ولكن بما يبثه في الدنيا من قيم إنسانية، وفضائل ومكرمات آدمية لنفسه ولبني جنسه وللأشياء من حوله.

إلا أن (الإنسان) سيد الحياة، قد استعبدته الأهواء والأشياء وأهانته وهوت به إلى وحل العبودية الآسن، فأسقطته إما في مستنقع العبودية للظنون البشرية المصطبغة بالصبغة الإلهية، أو العبودية لهلوسات وخرف من يسمون بالمفكرين والفلاسفة، أو العبودية للدجل والتخرصات السياسية، أو العبودية لهوس الأطماع الاقتصادية، أو العبودية لشبق الأنانية الفردية الكالحة، أو العبودية لبريق المادة الزائف، أو العبودية لأوهام الرومانسية الخيالية الهلامية، أو العبودية لسفاهة الطائفية العرقية القبلية العنصرية المقيتة، أو العبودية لشهوانية الحيوان اللاهثة، فما أن يسقط في عبودية حتى تجذبه أخرى فيسقط ويسقط وتسقط معه الآدمية.

لقد فطر الله الإنسان حين فطره وليس به ثمة دين يحمله في طيات نفسه أو خلقته، وليس به ثمة إسلام ولا توحيد ولا شرك ولا إيمان ولا كفر، لقد فطره الله فقيرا من كل شيء، خاويا من كل علم، خاليا من كل دين، بعد أن سواه وجعل له سمعا وبصرا وفؤادا، وجعل له من نفسه على نفسه بصيرة يفرق بها بين الحق والباطل، بين الفجور والتقوى، بين الهدى والضلالة، بين الظلمات والنور، بين الطيب والخبيث، ثم أرسل له الرسل وأنزل عليه الكتب وعلمه ما لم يكن يعلم، كي لا يكون له حجة في فساده وانحرافه وسقوطه حتى ولو ألقى معاذيره، فلولا الله ولولا الوحي لما علم الإنسان شيئا عن نفسه ولا عن الكون من حوله، ولما وصل إلى ما وصل إليه من علم وتقدم وحضارة، ولما استطاع أن يرقى من أسفل سافلين، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، بل أكثرهم يجحدون ويستكبرون ويكفرون بنعمة الله عليهم، فالإنسان بهذه الخلقة وبهذه الصورة وبهذا التقويم يعد أكرم وأفضل المخلوقات، وبيده هو وحده أن يحافظ على هذه الكرامة وهذه الأفضلية ليرقى ويسموا إلى عليين، وبيده أن يتنازل عن كرامته وأفضليته ويهوي مرة أخرى إلى أسفل سافلين، ولا يسقط الإنسان ويهوي إلا حين تقوده حفنة من أطماعه وأهوائه وشهواته خلف الأشياء وخلف ظنون الظانين وخرص الخراصين، من دون علم منه أو نظر أو إدراك أو بصيرة.

الأديان في حقيقتها الصافية النقية جاءت لتقرير كرامة وحرية الإنسان وتثبيتهما كمقدس وحيد أوحد في هذه الدنيا، ولا كرامة للإنسان ولا حرية إلا وفق الخط الرباني المرسوم له، من دون إغراء أو إغواء أو قهر أو كبت أو إكراه، فالأديان ألقت على كاهل (الإنسان) مسئوليات جسام، منها: بث قيم الإنسانية العليا وتثبيتها كمرجعية وحيدة تركن إليها الدنيا، دون مقابل من مصلحة أو منفعة، وإلا أصبحت قيما أنانية عنصرية، وألزمه بتحصيل العلم، والمعرفة، ونشر الإصلاح، والتعارف، والحرية المسئولة، من دون رقابة أو وصاية أو رصد من أحد سوى بصيرته ونسبه الآدمي السامي إذا عمل على رقيه وسموه. الأديان جاءت لترفع عن الإنسان ما يثقل كاهله، جاءت لكسر كل قيد وكل ربقة تشده إلى الأرض، إلى الأنانية، إلى الطمع، إلى الأنا، إلى السقوط من علياء الإنسانية. الأديان جاءت للأخذ بيد الإنسان نحو السمو الإنساني خطوة خطوة، نحو المعرفة خطوة خطوة، للأخذ بيده نحو تكريم نفسه وبني جنسه خطوة خطوة، للأخذ بيده نحو الانطلاق والكشف والتخليق.

الأديان في حقيقتها جعلت من الإنسان -أي إنسان- مرجعية وحيدة للدنيا والدين والسياسة والاقتصاد والفكر والمصلحة والحقوق، وجعلت حقه مقدم على حقوق جميع الكائنات، بل حقه مقدم على حق الله إن اهتدى بهداه وسار في ظلاله، لقد أكبرت الأديان من شأن الإنسان، فجعلته أكبر من أن يخضع أو يذل أو يدين لقطعة من الحجر أو الشجر، أكبر من أن يخضع لقطعة من الأرض، الإنسان أكبر من أن يخضع لإله صنعه له إنسان مثله يفرضه عليه ويأمره باتباعه والخضوع له، أكبر من أن يخضع لحزب أو طائفة أو قبيلة أو عصبية أو عرق، أكبر من أن يخضع لأناس قد ضمتهم القبور منذ أزمان سحيقة، أكبر من أن يخضع لبضعة أفكار أو نظريات أو تخرصات أو ظنون من صنع بشر مثله يلزمونه بها إما إغراءً أو إكراهاً أو إغواء، دون اختيار منه أو إرادة، يقودونه لها كالدابة ويقيدونه بها ويربطونه إليها حتى لا يرى سواها ولا يلتفت لغيرها.

إن البشرية حين خرجت من ظلال الله انقسموا إلى فريقين، فريق آمن بالله وكفر بالإنسان، فقاموا يتقمصون الله حسب الهوى، فلبسوا ثوبه، وتحدثوا باسمه، ونابوا في الناس عنه، استضعفوه ليستقووا هم، أخفوه ليظهروا هم، أفقروه ليغتنوا هم، قيدوه ليتحكموا هم. وفريق كفروا بالله وما آمنوا بشيء، تبرؤا من الله وتعروا منه، واتخذوه وراءهم ظهريا، ونهوا ونأوا عنه، وقطعوا كل طريق توصل إليه، وأوصدوا جميع الأبواب عليه، ليصدوا الناس عن سبيله، وظنوا واهمين أنهم قد استغنوا عنه، وأن لا حاجة لهم به، وأن الأمر لهم من دونه، وأنهم أُريد بهم شرا، وأنهم سيعجزونه هربا. فخرج الملأ الذين استكبروا وطغوا وأفسدوا من الفريقين من ظلال الله وأخرجوا قطعان الناس معهم إلى رمضاء النفس والهوى والشيطان والطغيان والفرقة والضلال والحرمان، فضلت القطعان بين الفريقين وطغوا وزاغوا، وهكذا ظلت القطعان تمشي نحو المجهول في طريق صائف طويل لا ظل فيه ولا ماء، مثقلون بالجوع والفقر والعوز والحرمان، مثقلون بالآلام، ينظرون إلى الملأ من بني جنسهم قد امتلئوا بكل شيء واستحوذوا على كل شيء، على كنوز الأرض وظلال السماء.

فما لم تستيقظ القطعان من مرقدها الذي أرقدتها فيه الشياطين، وما لم تكسر قيدها، وما لم تبصر حقيقة وجودها ومنتهاها، وما لم تعد إلى ظلال الله مادة يدها إليه مرة أخرى، صالحة مصلحة آخذة بيد الناس إلى حيث يجب أن يكون الإنسان، فلا أمل حينئذ في العثور على الإنسانية ولا أمل حينئذ في الرقي إلى سمو الآدمية، وهنيئا للبشرية بحياة الغابة، وعبثا يفعل من يبحث عن حل في غير الإنسان.
الموقع الخاص: http://www.nehrosat.com








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسلمون يؤدون -رمي الجمرات- أثناء الحج


.. أمطار ورعد وبرق عقب صلاة العصر بالمسجد الحرام بمكة المكرمة و




.. 61-An-Nisa


.. 62-An-Nisa




.. 63-An-Nisa