الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأنا الحاضرة

عبدالجليل الكناني

2008 / 3 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لو أن واحدا ، واحدا فقط يقرأ ما كتبت فان رسالتي قد وصلت .

حين استيقظت صباحا رحت استرجع أحداث الأمس فـأنا قد ارتكبت حماقة كبيرة بانحيازي الأعمى لأفكار هيمنت على عقلي منذ سنين حتى صارت دستورا لا أحيد عنه وقد تجلى ذلك بالنقاش الحامي الذي دار بيني وبين صديقي ولكنني في هذه اللحظة ، لحظة استيقاظي ، وجدتني هادئا مسترخيا مستعدا للمهادنة ، ولكم شعرت ، دون انزعاج ، أنني بالأمس قد كنت بعيدا عما أنا عليه الآن وما يجب أن أكون عليه . وضحكت من صورتي وأنا أذود بحماس عن أفكار لم تكن لتستحق ذلك العناء بل كان حريا بي أن أستمع إلى آراء صديقي ولا أقاطعه كل تلك المقاطعة ومع أنني لا أشعر بالخجل من سلوكي ذاك إلا أنني على استعداد تام حين التقي به مساء اليوم أن أسخر معه مما كنت عليه وقد نضحك كلينا من التعليقات التي سنوردها .
تركت الفراش وقد مررت يدي خلال شعري فمن المؤكد كما اخاله الآن وكما في كل صباح مبعثرا باتجاهات تنحتها مخدتي طيلة الليل كما أن وجهي سيبدو أكثر انتشاءا بتفاصيله المعتادة لأتأمل الغضون التي جعلت تحفر فيه . إلا أنني لما رفعت رأسي أطل علي من خلل المرآة رجل آخر لم أره من قبل مع أنني قد عرفته فهذا الرجل هو (أنا) ولا يمكن أن يكون غيري .
أدركت أن من ارتكب حماقات الأمس لم يكن أنا ولو دار بيني وبينه اليوم نقاش حول المواضيع التي تحدث عنها لأوقفته عند حده ولأريته كم هو غبي متعصب .
ولكن كيف سالتقيه اليوم ؟ فهو لم يعد موجودا سوى في ذاكرتي ؟ .
فهل هو أنا ؟ طالما أنني لست كذلك ؟

هل هو حقيقة ؟ . هل يمكنني أن أثبت وجوده ؟ أو أنه ،على ما هو عليه وبكل ما فيه ، قد كان موجودا في الواقع ؟ .
ربما أستطيع الكذب على الآخرين وأتحدث عنه وقد أضيف إلى شخصيته من مخيلتي . ولكن ما أقوله لن يكون كلاما مثبتا بالبرهان القاطع لأنني ببساطة لا أستطيع استحضاره. ومن حقي إنكاره فهو لا يشبهني كما لا يفكر مثلي. ولو كان كذلك يشبهني ويفكر مثلي فلعله ليس أنا إنما مجرد وهم زُرع في ذاكرتي خلال نومي.
وحين التقيت صديقي أدهشني أنه لم يلتقيني أمس. ولعلي كنت أقرأ أحدى الروايات وأصابني النعاس فاختلطت علي الأحداث. قلت :- لا ، كنت أكتب . فهذا الذي ظننته أنا هو أحد أبطال قصتي. فقال: – أبطال الرواية هم شخوص الكاتب.
لم يكن أحد أبطال قصتي لقد كذبت على صديقي كي لا يظنني مجنونا ، ورغم أني أنكره على ذاتي لكن ذاكرتي تخبرني أنه كان أنا. أقول:- كان أنا ولم يعد كذلك.
ولصديقي رأي آخر حين يقول:- الصفات التي ذكرتها لا تطابقك بل أنها ولجت ذاكرتك بطريقة ما، ربما، بفعل فاعل.
- تذكرت، ذلك الحوار دار بيننا قبل سنتين. ولقد أصبحت غيري الآن
حاولت أن أذكِّر صديقي دون جدوى.
فقال :- كلنا نتغير تماما . فالطفل الذي كناه قد بنينا فوق أنقاضه، بل أننا حتى لم نبقي من أنقاضه شيئا.
- إذن نحن نتغير بكل شيء خلال مسيرة حياتنا ، بهيئتنا وكل مكونات بناء دواخلنا وبأفكارنا وبرغباتنا وبطموحاتنا نتغير خلال حياتنا ، فما هي اللحظة التي نكون بها غير ما كنا؟
- قال :- ليست هنالك لحظة محددة . فقلت :- ربما كل لحظة ، كل لحظة نتكلم فيها هي غير سابقتنا ، وأنا لا أكون إلاّ أنا اللحظة التي أتكلم بها وما قبلها ليس سوى رموز في الذاكرة أفسرها بما تملك ذاكرتي ذاتها على أنها أحداث واقعية أكون امتدادا حيا لها ولكنني في الواقع لا أفعل سوى قراءة كتاب منسوخ في كومبيوتر الدماغ . و لو أن هناك من يغذي دماغي بالأحداث أولا بأول، أو أنني أسير عالم افتراضي، لما أدركت ما أنا عليه.
- وما جدوى تلك الخيالات القصصية ؟
- ليست خيالات قصصية أنني أقوم بتمثيل واقعنا كما يفعل علماء الفيزياء . ومن ذلك قولهم لو أنك داخل مركبة في الفضاء وشعرت بأنك قد أخذت تلتصق بقاع المركبة بقوة جذب معينة فانك لا تعرف أن كانت المركبة قد بدأت بالتعجيل أو أن جرما سماويا مر بقربها وقام بجذبك ولا تبقى غير حقيقة واحدة ثابتة وهو انك في ذلك الوقت تنجذب إلى ارض المركبة بقوة معينة . فالحالتان تعطيان نفس النتيجة بالضبط.
وانأ أبدل المركبة بكامل جسدي والراكب فيها بالأنا في تحليلي التالي ، فان كنت قد اكتسبت ذكرياتي من خلال التجربة الفعلية وبالمعايشة ، أو أنها ذكريات وهمية منسوخة غُذِّيتُ بها، أو أنني في عالم افتراضي فالنتيجة ذاتها وليست هنالك غير حقيقة واحدة ثابتة وهو أنني أنا الذي يفكر ويتحدث في ذات اللحظة الحاضرة .
ماذا أريد ؟
وهنا قد يسأم صديقي مما يراه خيالا مرضيا وكذلك أي قارئ فيقول لي :- وما جدوى خيالاتك هذه . أقول في الواقع أن الأنا نوعان الأولى هي الأنا الكلية والتي تدخل فيها ذكرياتنا حول أنانا بارتباطها بالمكان والزمان المنسوخ في الذاكرة فتكون الروح والأرض والجسد من مكوناتها الأساسية وهي غير مثبته بكل مكوناتها. والانا الحاضرة وهي الأنا الخالصة المثبتة أنا اللحظة التي تفكر فيها وتتفاعل بها مع العالم الخارجي بغض النظر عن الحقائق الأخرى غير المثبتة وغير الحاضرة في تلك اللحظة . لابد لكيانك أن يشغل ذات الزمان وذات المكان لتكون أنت بالذات .
ولو أن أيا منا ، بعد ألف عام ، وكان حيا ، قد سؤل عن أناه لفكر انه مازال يذكر الأحداث التي مرت به قبل ألف عام ومنها أنه قد قرأ مقالة اتخذت شكل قصة ، حول الأنا الحاضرة ولم يستسغ ما جاء فيها ، إلا أنه لم يمت ، ولا يعرف كيف حصل ذلك ؟ وما علاقة بقائه كل هذه الأعوام بأناه الحاضرة ؟ فهو مازال يستيقظ كل يوم ويجد نفسه حيا وبصحة تامة وذكريات الأمس حاضرة في ذهنه .
فيقول :- لا أعرف سر بقائي حيا حتى هذه اليوم وبنفس حيويتي وشبابي ولكنني أؤكد لكم أنني أنا ولم أمت .
هل يعقل ذلك؟ غير أنه ليس هو إنما منظومة تحمل ذكريات ؟.
من نحن ؟
من أنا غير الذي يكتب الآن، والآن فقط في لحظة تدفق الافكار ، ويرى أنه أنا ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة تعتدي ضربا على مسيرة مؤيدة لفلسطين في فلوريدا


.. كيف تحايل ترمب على قرار حظر النشر في قضية شراء الصمت ؟




.. حركة نزوح عكسية للغزيين من رفح.. 30 ألفا يغادرون يوميا منذ ا


.. جذب الناخبين -غير المهتمين-.. مهمة يسعى لها كل من ترمب وبايد




.. العملات المشفرة.. سلاح جديد لترمب لجذب الناخبين -غير المهتمي