الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدخل لقراءة معرفية في القرآن

مهدي النجار

2008 / 3 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لم يُفترى على كتاب مقدس، لا في الماضي ولا في الحاضر، مثلما أُفتري على القرآن الكريم من خلال قراءاته المتكررة والمتراكمة، واذا اهملنا جانباً واسعاً ومهماً من هذه القراءات السيئة التي تنتمي الى فضاءات ثقافية غير اسلامية فاننا سنواجه الالتباسات والمعضلات التي تنتمي الى قراءات اهل الاسلام انفسهم، بافتراض مُسبقاً حُسن نواياها وغيرتها الشديدة على القرآن وحرصها المتطرف على تقديسه مما جعلها تتماهى في تصورات بعيدة كل البُعد عن الجوانب الواقعية والعقلية وتشطب شطباً كاملاً على بيئته وتاريخيته، بمعنى ان هذه القراءات التقليدية اسرفت في الزهو والانبهار العاطفي واصيبت بالشرود فأخرجت النصوص من بيئتها وتاريخيتها حتى صار القرآن كأنه دون تاريخ ودون واقع ودون بيئة، وحتى دون مجتمع يخاطبه ( مجتمع له ثقافة وعادات وملامح واطر اقتصادية...). ان ما نعنيه بتاريخية القرآن هو تلازم النص مع المجتمع الذي كان يتحدث اليه الوحي من حيث لغته ومفاهيمه واعرافه واحتياجاته وامنياته ورغباته ... ولا يُحمل النص اكثر مما يحتمل ذهن و عقل ذلك المجتمع ولا يتعدى الادوات والحاجات التي كان الانسان في الزمن الغابر يستخدمها ويتعامل بها في كشوفاته وطرق حصوله على المعلومات، فآنذاك (اي منذ آلاف السنين والى وقت قريب جداً) كانت المعلومات الفلكية تعتمد على مصدر واحد وهو الضوء القادم من الاجرام السماوية وفي اكثر من 99% من هذا الزمن الطويل جداً كان الاعتماد كله على العين المجردة وبهذه الطريقة الفطرية والبدائية استطاع اجدادنا من تعيين وتسمية كل ما يسمى الآن بالابراج السماوية وقد ورد على سبيل المثال ذكر النجوم في القرآن (كما تراءت لانسان ذاك الزمن الغابر من خلال عينه المجردة) كبروج او مصابيح زينة معلقة في السماء يستفاد منها للاستدلال على الطريق، فهل يُعقل ان يتوجه الخطاب القرآني الى اولئك القوم اصحاب المعارف الشحيحة ويقول لهم مثلاً (وفق المعارف والكشوفات المعاصرة) بأن عدد النجوم في الكون يزيد على عدد حبات الرمل الموجودة على شواطئ جميع بحار الارض! ويقدر الفلكيون المعاصرون عدد النجوم حسب قدرات التكبير المعاصرة (بواسطة التلسكوبات الحديثة) بحوالي مئة الف مليون نجم في حين ان النجوم المرئية تحت احسن ظروف الرصد لا تزيد على 2,5 – 3 الف نجم في القبة الفلكية، وهل سيتعقل اسلافنا حقيقة ان النجوم كلها شموس وهي عبارة عن كرات ضخمة من الغازات الملتهبة وان قطر اقربها الينا (وهو الشمس) يبلغ (109) مرات اكبر من قطر الارض(قطر الارض حوالي 13 الف كم) وان وزنها اكثر من (330)ألف مرة من وزن الارض وحجمها يستطيع ابتلاع مليون وربع المليون كرة ارضية، وكم سيبدو لهم غريباً وخارج نطاق افقهم العقلي حين يقال لهم بأن الارض كرة مفلطحة تسبح في فضاء كوني وتدور حول نفسها(مرة واحدة كل 24 ساعة وبسرعة 1000 كم/ساعة) وتدور حول الشمس (تستغرق دورتها سنة واحدة وبسرعة 170 الف كم/ساعة)!! وكم سيقهقه اولئك الاشياخ الافاضل الذين يشتغلون بمسائل الفلك حسب مداركهم الضئيلة وادواتهم البدائية حين نخبرهم بامكانية الهبوط على سطح القمر وعلى سطح كوكب الزهرة! ، لذا فالقراءة المعرفية تستلزم عدم بعثرة العلاقة بين ذاك الزمن وفحوى النصوص بحيث تخرج من الدائرة الواقعية الى الدائرة الغيبية المطلقة فينمحي في آنٍ واحد الواقع والانسان نفسه. لاريب ان القرآن في زمن نزوله كان يواجه كتلة اجتماعية ضخمة عصية على قبوله، كتلة اجتماعية لها ثقافتها وطقوسها وتصوراتها تتكون من اصحاب كتاب (اليهود والنصارى) وحنفاء وأعمدة من الشعراء الوثنيين، وكانت الى جانب ذلك فاهمة لازماتها ومشاكلها، وما يطلق - كما هو شائع- عليها نعت "الجاهلية" انما هو حصراً جاهليتها بهذا الحدث الجديد الذي نزل عليها، جاهلة بلغته الجديدة وبثوابته التوحيدية ومنظومة تشريعاته وسننه ولوائح اخلاقه ومواعظه، حتى آل الامر الى ردة فعل عنيفة ازاء القرآن وصاحب دعوته الرسول الكريم، اهم سماتها اللامبالاة والطعن والسخرية والاستهزاء:
*" وقالوا يا أيُها الذي أُنزلَ عليه الذِكرُ إنك لمجنونٌ " [الحجر:6 ]
*" وما يأتيهم من رَسولٍ إلا كانوا به يَستهزءونَ " [الحجر:11 ]
*" أم يقولونَ افتراه ٌٌُُقُل إن أفتريتهُ فعلي إجرامي وانا برئ مما تجرمون "[هود:35 ]
*"قالوا إنما أنتَ مِن المُسحرينَ"[الشعراء:153 ]
ان اكثرالاسئلة الحاحاً التي تواجه القراءة المعرفية هي:
الى مَن كان يتوجه الخطاب القرآني؟
الى اي الاهداف الرئيسة كان يهدف؟
وللاجابة عن هذين الاستفهامين لا نواجه اية صعوبة حين نستعين بالنص القرآني نفسه لنفهم اولاً: كان القرآن يخاطب نمطين من الناس، النمط الاول والاساس هو ناسه ومجتمعه، اي عرب الجزيرة:
*"إنا أنزلناه قرآناًعربياً لعلكم تعقلون"[يوسف:2 ]
*"وكذلك أنزلناه حُكماً عربياً" [الرعد:39 ]
*"أكان عجباً أن أوحينا الى رجل منهم"[يونس:2 ]
*"وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه"[ابراهيم:4 ]
اما النمط الثاني من الناس الذي كان القرآن يخاطبهم فهم الناس اجمعين، اي كل الناس دون استثناء او حصر:
*"وما أرسلناكَ إلا كافَّةً للناسِ بشيرأً ونذيراً"[سبإ:28 ]
*"تبارك الذي نَزلَ الفُرقانَ على عبدهِ ليكونَ للعالمين نذيراً "[الفرقان:1 ]
على ذلك الاساس ينبغي استقراء تلك البيئة الاجتماعية التي كان يخاطب الوحي الناس بها والغوص في اعماقها الروحية والمادية لنرَّ ان النص لم يحلق بعيداً عن ذهنية وواقع المجتمع المتأطر بأطر الانتاج الرعوي والتجاري وعدوانية الغزو والنهب، مجتمع البداوة والقبيلة، وكان يتكلم بلغته وعباراته وامثلته وطقوسه وعاداته رغم الزخم الهائل الذي دفع بهذه المفردات لكي ينقلها وينقل معها الانسان من حالة التردي الى حالة الرقي ومن وضع التسافل الى وضع التسامي في عملية تنويرية دينية هائلة:"كتابٌ أنزلناهُ إليك لتُخرج الناسَ من الظلمات الى النورِ"[الرعد:43 ] . نلاحظ ان مفهوم "الناس" الذي توجه القرآن لمخاطبته يقع ضمن جدلية مفتوحة: ناس الجزيرة (العرب) من جهة/ والناس عموماً من جهة ثانية.الا اننا وفي كل صفحة من صفحات الكتاب الكريم نشمُّ نكهة المحلية العربية حتى انه وصفهم (اي العرب) خصوصاً بوسائل تنقلهم آنذاك كمجتمع الخيل والبغال والحمير [النحل:8 ]، نشاهد الإبل ونحس بقسوة الصحراء ونسمع حسرات العربي على الانهار والامطار والثمار وجنات عدن، ولم نقرأ عن حيوانات غير محلية مثل النمر/ الدب /التمساح... وهي ان وردت فنحسها غريبة كما الفيل الذي من جهة اخرى يرد في الديانات الهندوسية بصورة واضحة وبارزة شأنه شأن الجمل عند العرب.
ثانياً: نفهم من النصوص القرآنية ان اول الاهداف الرئيسة التي كانت تسعى هذه النصوص لترسيخها ونشرها ومن ثم تثبيتها في عقول الناس وقلوبهم هو مبدأ "التوحيد" الذي نراه واضحاً لا لبس فيه ولا غموض، فلم ينفك الخطاب القرآني من بداية سطره لآخره يؤكده ويدعو اليه، وملخص مبدأ التوحيد: "إلاهكمُ الهٌ واحدٌ" [النحل:22 ] وفق القانون الالهي الذي يحدد: "ان الله لا يغفرُ أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" [النساء:117 ]. ويستطرد القرآن في كل صفحاته لتاكيد هذه المسألة وجعلها المسألة الاولية والمُلحة في جميع امثلته وارشاداته واستفهاماته وادلته، ومن خلال ايراد الآيات المتعلقة بقدرة الخالق: خلق السماوات والارض بالحق/ خلق الانسان من نطفة/ والانعام خلقها/ هو الذي انزل من السماء ماءً ينبت به الزرع والزيتون/ وسخر لكم الليل والنهار/ وهو الذي سخر البحر/ والقى في الارض رواسىَ ان تميد بكم/ وعلامات بالنجم يهتدون/ وانا لنحنُ نُحي ونُميت...الخ.
لذا فالمدخل لقراءة القرآن معرفياً تستوجب فهم ظروفه البيئية والاجتماعية في اطرها الاقتصادية البدائية والانتاجية الهشة والابتعاد عن تأويله وفق الانماط الحياتية المعاصرة كما يفعل بعض الكاتبين، بدافع غيرتهم الشديدة على القرآن،فهم يقرأوه من اجل اقتناص شاردة من هنا او واردة من هناك، يلوّون آياته ويتلاعبون بها بحذلقات لغوية وطرق توفيقية وتلفيقية، يقوّلون النصوص بما لاتقول فيستبشرون بسذاجة بأن القرآن اكتشف علوم الذرة والضوء والكهرومغناطيس والجاذبية والهندسة الوراثية ونظرية دارون ونظرية انشتاين واقتصاديات ريكاردو... واذا اقتضى الامر ينسبون للنص القرآني مفاهيم حديثة مثل الليبرالية والديمقراطية والانتخابات...!. الاجدر بهؤلاء القوّالين (الذين يكثرون من القول دون الفعل) ان يكدوا ليل نهار، اذا كانوا من احباء الله، ليلتحقوا بركب التحضر والتمدن ويستفادوا ويفيدوا شعوبهم التي تقف جائعة،مذلولة، خائبة، خارج مسارات الالفية الثالثة، عليهم ان يكونوا فاعلين حقيقيين في الفعل الانساني الكبير ويساهموا في اعطاء ثمارأً ملموسة، لامجرد صخب وعويل وندب وثرثرة، لا ان يظلوا عالة سقيمة على الاقوام الاخرى. لا نعتقد ان القرآن بحاجة لمثل هذه المزاعم المنبهرة ليظل في اصطفائيته من بين الكتب المقدسة، وليس من القصور والعيب (او الاحراج) ان يخلو من الاختصاصات الحديثة والمعاصرة في مجالات الاقتصاد والسياسة والنفس والاجتماع والعلوم الطبيعية والتقنيات.، فهو في مهابته اولاً وقبل كل شئ كتاب دين، كتاب بلاغ وبيان وانذار وهدى " لتنذر به وذكرى للمؤمنينَ"[الاعراف:3 ] فيه موعظة وحكمة وبشرى من لدن ربِ كتب على نفسه الرحمة "نبئ عبادي اني انا الغفورُ الرحيم"[الحجر:49 ] وفي قراءته تتسامى وتنتعش ارواح الناس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان


.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_




.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال


.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس




.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال