الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بُدع وزوغان العقيدة الألفية

ناظم الديراوي
(Nazim Al-Deirawy)

2008 / 3 / 23
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


وفرت الأحداث السياسية والعسكرية والتصادمات العرقية العنيفة التي شهدتها إنجلترا وأوروبا الغربية،قُبيل وإبَّان حكم البيوريتانيين بزعامة أوليفر كرومويل،أجواءً مواتية لظهور حركات سلفية في أوروبا،متزمتة في رؤيتها الدينية مُخادعة في تصوراتها العرقية وقناعتها السياسية تميل في إيمانها الضّال إلى(العقيدة الألفية)،التي ينسب دُعاتها(المتطهرين الإنجليز وغلاة يهود)أصولها اللاهوتية إلى نصوص في التوراة والتلمود.تُشيع مزاعم بعث المسيح ليلم شمل اليهود في الأرض المقدسة.هذه الدعوات والرؤى والمزاعم الزائغة عن صراط الحق،خلقت أوهاماً وتوقعات زائفة رست على مذاهب جامدة عمادها بغضاء العرقية و(التفوقية)العدوانية الراسخة في جشع عقلية استعلائية عقيدتها(السيادة التي لا حدود لها..!)،لاقت حظوة ودعم من قادة دول ورؤساء كنائس مسيحية.ما أبعد معظمهم عن إدراك ماهية تلك الدعوات المقيتة التي تُربي في نفوس أتباعها تعقب مصالحها العنصرية بقسوة ووحشية ودون ما اكتراث بقيم ومصالح ومعتقدات المجتمعات الأُخرى،وإن كانت من تلك الأقوام التي عاشرت ومدت يد العون ولقرون طويلة إلى طوائف ينتسب لها من فرخوا مذاهب وتصورات عنصرية هزت العلاقة الإنسانية بين المجتمعات البشرية وخلقت فضاءً مملوءً بالريبة وعدم الثقة وكراهية ثقافات وقيم الآخر،إن لم نقل مزدحماً بالنزاعات الدينية العنصرية والقومية الزائفة..!
ترهات تلك المذاهب العنصرية وأقنعتها الدينية التي بدت وكأنها تخاطب مؤمنين بنص مُقدس.!وغراءها الدنيوي،لمن رام ذلك،أغوت شخصاً بعظمة السلطان العثماني سليم الثَّاني الذي أيَّدَ بل سندَ مشروع"إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين"بَشَّر به اليهودي يوسف النسيء،المُقرب من حاشية السلطان سليم الثَّاني الذي منحه كل إقليم طبرية في فلسطين ليكون ملجأً لليهود.ويُزعم أن يوسف النسيء قام بإعادة بناء المدينة واكثر من حولها المشروعات العمرانية والزراعية وغرس آلاف الأشجار وشجع أعداداً كبيرة من يهود أوروبا على الهجرة إلى فلسطين والاشتغال بإنتاج الحرير الطبيعي وتصنيعه.غير أن تفشي الأوبئة بين اليهود حال دون تنفيذ هذا المشروع الاستعماري اليهودي المبكر على أرض فلسطين(1).
هذه البدع الدينية والافتراءات التاريخية واصلها(عام1647)اليهودي الألماني شبتاي صبي*الذي أعلن نفسه المسيح المنتظر وادّعى أن سنة خلاص اليهود من حالة الشتات هي سنة(1647)،وتبعه في ضلالته زمرة من تلاميذه.إلا أن زعماء اليهود المعتدلين رفضوا هذه الدعوة الواهية وأعلنوا كُفرهُ ومَن معهُ.فهرب إلى مدينة سالونيك وهناك أشاع أيضاً،بأنه(المسيح المنتظر)فثار عليه اليهود واستصدروا من المحكمة حكماً بكفره واستحقاقه القتل.ففر عام(1658)إلى أثينا ومنها عاد إلى القسطنطينية وزار الإسكندرية والقاهرة والقدس وفيها عاود الكَرَّة،عام(1664)،وأعلن نفسه المسيح المنتظر..ويُذكر أنه،في وقت لاحق،اعتنق الإسلام أمام السلطان العثماني محمد الرابع(2).
مغانم وغراء(العقيدة الألفية)وجدت لها تربة خصبة في حركة سياسية يهودية،ظهرت في إنجلترا عام(1650)،تزعمها اللاهوتي(منشه بن إسرائيل/1603-1657)،أو كما تذكره مصادر أُخرى(مناسح بن إسرائيل).دعت إلى توطين اليهود في الجزر البريطانية توطئة لإعادتهم إلى فلسطين.ويُذكر أن زعيم الحركة(مناسح بن إسرائيل)طلب من حكومة المتطهرين الإنجليز،عام(1650)،أن تعمل على(توسيع نطاق تشتت اليهود داخل إنجلترا،وذلك حتى يستكمل نطاق تشتتهم في كل أنحاء العالم،تمهيداً لبدء تجميع المنفيين في أرض صهيون)(3).ولتسليط الضوء على خفايا هذه الحركة ومقاصدها السياسية المتشددة ومنافع كرومويل من تبني مزاعمها وميولها الدينية المتطرفة ينبغي أن نشير إلى علاقة زعيم الحركة(مناسح بن إسرائيل)بالسياسي البيوريتاني كرومويل قبل أن يستولي الأخير على الحكم.إذ كان عضوا بارزاً في البرلمان الإنجليزي وقائداً لقوات البرلمان(ومعظمها من أصحاب الرؤوس المستديرة)التي أسقطت النظام الملكي وأعلنت الجمهورية.
في كتابه القيم(أحجار على رقعة الشطرنج)كشف الباحث وليام غاي كار الغطاء عن طبيعة وتاريخ علاقة البرلماني أوليفر كرومويل واليهودي مناسح بن إسرائيل قائلاً:لما وقع الخلاف بين ملك إنجلترا شارل الأول وبين البرلمان الإنجليزي،اتصل عملاء أحد زعماء المرابين العالميين اليهود في هولندا المدعو(مناسح بن إسرائيل)بالقائد الإنجليزي المعارض كرومويل وعرضوا عليه مبالغ طائلة من المال إذا استطاع تنفيذ مشروعهم الخفي الرامي إلى الإطاحة بالعرش البريطاني.ويضيف غاي كار:وكان يعاون(مناسح بن إسرائيل)هذا في تمويل كرومويل كبار المرابين اليهود في ألمانيا وفرنسا.وكان الزعيم البرتغالي اليهودي فرنانديز كارفاجال(الذي تدعوه بعض كتب التاريخ باليهودي العظيم)يقوم بدور المخطط الرئيسي لشؤون العمليات العسكرية لقوات كرومويل،فهو الذي أعاد،كما يذكر غاي كار،تنظيم أنصار كرومويل المعروفين بأصحاب(الرؤوس المستديرة)وحولهم إلى جيش نموذجي وجهزهم بأحسن ما يمكن من الأسلحة والمعدات.وعندما كانت المؤامرة في طريق التنفيذ كان يجري تهريب المئات من المخربين المدربين إلى إنجلترا للانخراط في الشبكات الخفية التي كان يديرها المرابون اليهود(4).
ثمة انسجام وتوافق حميمي بين حركة(مناسح بن إسرائيل)ودعوة المتطهرين الإنجليز التي(طالبت حكومة كرومويل المتطرفة دينياً،بالسماح لليهود بالعودة إلى إنجلترا كخطوة أولى على طريق توطينهم في فلسطين)،في مسألة وضع حد لحالة الشتات اليهودي.هذا الانسجام والتوافق وتلك العلاقة المُريبة بين شخصيتي(مناسح بن إسرائيل)وأوليفر كرومويل توحي بأن هذه الحركة قد تشكلت بتأييد ودعم من النخبة البيوريتانية الحاكمة لتسندها في تنفيذ مشاريع استعمارية وحث الرأسمال اليهودي على دعم حكومة كرومويل،التي أهدرت أموالاً طائلة في حروبها الداخلية والأوروبية التي تركت أثراً سيئاً على مكانة إنجلترا كقوة تجارية وبحرية.هذا ووفر القناع الديني لهذه الحركة إمكانيات أوسع لنشر رسالتها بين يهود المحاجر وتجنيدهم في خدمة مطامع المتطهرين الإنجليز والمرابين اليهود،ومشروع السيطرة على طرق التجارة الدولية في بلدان الشرق الأدنى والأقصى،وقطع الطريق أمام منافسي إنجلترا من الدول الأوروبية الناهضة.ولم يفت الحلف الثنائي استثمار الأحلام البالية للمتطرفين اليهود المجسدة في أُسطورة(العودة إلى أرض الميعاد)في سياسة السطو والنزاعات الدموية غير آبهين بنتائجها المدمرة على حاضر ومستقبل عامة اليهود وشعوب المناطق التي غزاها المستعمرون الأوروبيون وخربوا بناءَها القومي والديني إن في أمريكا أو في بلدان آسيا وأفريقيا.ويبدو أن اللهاث السريع لنهب ثروات الشعوب،الأقل قدرة على المقاومة،هو عماد المذهب البيوريتاني المتشبث بعنصرية بأضاليل نصوص شوفينية جامدة سُلخت من توراة وتلمود اليهود مطعونة في أصالتها الدينية والتاريخية،واحتقار إرثها الحضاري وانتماءها الديني ومصادرة إرادتها الإنسانية ومستقبلها في الحياة الحرة هي غاية ما تربو إليه دولة(الرجل الأبيض)و(المرابي الجشع)..؟
لاشك أن اهتمام المستعمر أوليفر كرومويل،كرجل دولة،والمتطهرين الإنجليز بحركة(مناسح بن إسرائيل)نابع من دافع الربح المادي المقرون بالتبرير الديني.إذ(غلفوا أطماعهم الاستعمارية بأغلفة دينية أسطورية تعتمد على الأوهام والنبوءات...تركز على حماية المصالح البريطانية وطرق المواصلات وتمزيق الإمبراطورية العثمانية...باعتماد أسلوب حديث من الاستيطان لا يشبه استيطان العالم الجديد"أمريكا وأوستراليا"وإنما هذه المرة بعنصر جديد هو اليهود الذين لفتت هجرتهم المتزايدة وإمكانياتهم المالية والاقتصادية أنظار رجال السياسة البريطانيين إلى التخلص منهم والاستفادة منهم في آن معاً)(5).
هذه العلاقة الحميمة،بين المرابين اليهود والطغمة البيوريتانية الحاكمة،التي سادت بعد مرسوم كرومويل السماح لليهود بالعودة إلى إنجلترا كمرحلة أولى لشحنهم في السفن الإنجليزية والهولندية إلى فلسطين(لتكون ميراثاً لهم إلى الأبد)أتاحت للمرابين اليهود وبمباركة من الطبقة الحاكمة مجالاً واسعاً للمساهمة في احتكار النشاط التجاري وتأسيس البنوك ومد الحكومة البيوريتانية بالقروض المالية لمواصلة الحروب ضد هولندا وإسبانيا والبرتغال التي نافست إنجلترا في السيطرة على طرق التجارة الدولية.ونتيجة ذلك كله وقعت إنجلترا في أزمة اقتصادية شديدة وسادت البطالة والمجاعة وانتشر الطاعون الأكبر.وراح سادة المال اليهود يضيقون الخناق على البلاد بعد أن تمكنوا من السيطرة على سلطتها المالية وتوجيه قيادتها السياسية،وبهذا أتيحت لهم إمكانية تنفيذ مشاريعهم الاستعمارية..وفي الوقت الذي كانت فيه بعض بلدان أوروبا الغربية منشغلة في اضطهاد وملاحقة عامة اليهود كانت يد المرابين اليهود طليقة في تلك البلدان.!
وهكذا فان سبب اهتمام المتطرف أوليفر كرومويل بالدعوات اليهودية والبيوريتانية،وهو نفس السبب الذي أثار فيما بعد اهتمام الساسة البريطانيين بالمسألة اليهودية هو؛الدعم المالي المزعوم الذي يقدمه اليهود إلى بريطانيا عندما تكون في موقف حرج…ومنذ عهد كرومويل،ظل اهتمام بريطانيا باليهود،في رأي ريجينا الشريف،يستند إلى دوافع مزدوجة هي؛أولاً دافع الربح تجارياً كان أم عسكرياً أم إمبريالياً والدافع الديني ثانيا(6).
وأيضاً،ورغم مرور ثلاثة قرون ونصف القرن على هذه الدعوات والتصورات والعقائد البالية والمذاهب العنصرية المتعارضة مع روح العصر وقيمه الحضارية ومبادئ العلاقات الدولية ومقومات التعاون بين الشعوب والحضارات المختلفة نجد من يتبناها في حواضر أوروبا وأمريكا كعقيدة دينية-سياسية.يعتقد أنصارها الأكثر تشدداً"زمرة المحافظين الجدد"أن من واجبهم التعجيل بعودة(المسيح)إلى الأرض لتحقيق نبوءة الكتاب المقدس؛بشن حرب على المسلمين والاستيلاء على كل الأرض المقدسة.وينظرون بعين التطرف إلى الآخر ويرونه عدواً يجب استئصاله..هذه الرؤية المتعارضة مع النص الإلهي وشرائع العصر التي تكفل حق الإنسان في الحياة وتحرم قتل النفس البشرية تجد ما يسندها في الإرث المدون لحروب طغاة إنجلترا الذين احتقروا الشعوب الأُخرى وأباحوا إبادتها.ولا يتوانى شاعر كبير مثل إدموند سبنسر من أن يعلن في كتابه"رأي في الوضع الراهن في إيرلندا(1596)"؛أنه ما دام الايرلنديون سكايثيين برابرة،فأن معظمهم ينبغي أن يبادوا..!(7).
يا لحال أهل العراق وفلسطين من هذا المذهب المشين..!
الحواشي
*(ولد في إزمير عام/1626)
1- الشريف،ريجينا،الصهيونية غير اليهودية في إنجلترا،الصهيونية والعنصرية،الجزء:2،بيروت/1977،ص27-28.
2- مرار،المحامي يوسف علي،جذور الفكر الإرهابي الصهيوني وممارساته العملية.القدس/1988،ص29–30 .
3- السائح،الشيخ عبد الحميد،واجب المسلمين نحو مشكلات الاحتلال الصهيوني بعد استنفاذ الجهود السلمية.ص336.
4- وليام،غاي كار،أحجار على رقعة الشطرنج،ترجمة:سعيد جزائرلي.الطبعة العاشرة،بيروت/1988،ص63-64.
5- د.عباس،محمود،قنطرة الشر،إسرائيل طريق الإمبريالية إلى العالم الثالث،عمان/1984،ص24.
6- الشريف،ريجينا،مصدر سابق،ص21-28.
7- سعيد،إدوارد،الثقافة والإمبريالية،ترجمة:كمال أبو ديب،بيروت/1997،ص90.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حيوان راكون يقتحم ملعب كرة قدم أثناء مباراة قبل أن يتم الإمس


.. قتلى ومصابون وخسائر مادية في يوم حافل بالتصعيد بين إسرائيل و




.. عاجل | أولى شحنات المساعدات تتجه نحو شاطئ غزة عبر الرصيف الع


.. محاولة اغتيال ناشط ا?يطالي يدعم غزة




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات الميدانية في قطاع غزة