الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التحولات القادمة في بنية النظام الجيوسياسي العالمي

محمد بن سعيد الفطيسي

2008 / 3 / 26
التربية والتعليم والبحث العلمي


في الفضاء , الكل يدور حول الشمس , فهي المحور الكوني الذي تدور حوله الأفلاك السيارة , فيما يعرف بالنظام الشمسي , بداية من أقربها الى ذلك المحور – أي – عطارد , الى أبعدها عنه – أي - زينا " Xena " , أما على الأرض , فقد عرف العالم أكثر من نظام محوري دولي او بدائل للاستقطاب كما يحلو للبعض تسميتها , منها ما كان أحادي القطب كما هو الحال مع الولايات المتحدة الاميركية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي على سبيل المثال , والآخر ثنائي القطب كما حصل ذلك أثناء تقاسم الهيمنة والسيادة الدولية بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الاميركية , ومنها ما أطلق عليه بالتعددية القطبية , كما حدث ذلك على سبيل المثال لا الحصر خلال حكم لويس الرابع عشر , حيث تمخض الخوف من هيمنة فرنسا في ذلك الوقت , الى نشوء تحالفات احتواء مناوئ لها ضم كلا من بريطانيا وهولندا واسبانيا , وأخيرا نظام حكم الكثرة او البولياركي " Polyarchy " , وهو النظام الذي نتوقع أن يبرز كسمة رئيسية تتحكم في بناء المنظومة الجيوبوليتيكية والجيواستراتيجية للقرن الحادي والعشرين 0
وحتى نقرب الصورة المعنية بشكل أوضح , سنحاول طرح هذا السؤال , وهو ماذا سيحدث للمنظومة الشمسية في حال قلت او زادت جاذبية " المحور " – أي - الشمس في يوم من الأيام ؟ والجواب الذي حصلنا عليه من خلال نموذج الأرض , هو كالتالي :- أن الأرض تقع على مسافة محكمة وبحسابات ربانية دقيقة , وهو ما يلعب دورا مهما في ضبط كمية الطاقة الشمسية الواصلة إلى كل جزء من أجزاءها , وهذا على وجه التحديد ما يجعلها صالحة للحياة , وبالطبع فان هذا النظام ناتج ( الاتزان الدقيق بين كل من القوة الطاردة‏ " ‏النابذة‏ ‏" المركزية التي دفعت بالأرض إلى خارج نطاق الشمس وشدة جاذبية الشمس لها‏، ولو أختل هذا الاتزان بأقل قدر ممكن فإنه سيعرض الأرض إما للابتلاع بواسطة الشمس حيث درجة حرارة قلبها تزيد عن خمسة عشر مليونا من الدرجات المطلقة‏ ،‏ أو تعرضها للانفلات من عقال جاذبية الشمس فتضيع في فسحة الكون المترامية , فتتجمد بمن عليها وما عليها ‏،‏ أو تحرق بواسطة الأشعة الكونية‏ ،‏ أو تصطدم بجرم آخر‏،‏ أو تبتلع بواسطة نجم من النجوم ) , وهو الحال نفسه مع بقية المنظومة 0
وهذا بصورة تقريبية , ما يجب أن تتسم به الأنظمة المحورية الدولية في نظامنا الأرضي , فهي من الضروري أن تملك ذلك الاتزان الدقيق بين كل من القوة الطاردة المركزية المتمثلة في السياسة الصلبة , او القوة العسكرية والسياسية , وشدة الجذب المتمثل في السياسة الطرية الناعمة , ولنتصور على سبيل التشبيه التقريبي أن الولايات المتحدة الاميركية هي كالشمس التي تدور في فلك هيمنتها جل دول العالم اليوم , أكان ذلك بشكل مباشر او غير مباشر , ماذا لو اختل ذلك التوازن المطلوب ما بين القوتين ؟ ( فالقوتين الصلبة والناعمة مترابطتان لأنهما معا من جوانب قدرة المرء على تحقيق أغراضه بالتأثير على سلوك الآخرين , وما يميز بينهما هو الدرجة في طبيعة السلوك , وفي كون الموارد ملموسة , فالقوة الآمرة , - أي القدرة على تغيير ما يفعله الآخرون – يمكن أن تتركز على الإرغام او على الإغراء , أما قوة التعاون الطوعي – أي القدرة على تشكيل ما يريده الآخرون – فيمكن أن ترتكز على جاذبية ثقافة المرء وقيمه او مقدرته على التلاعب بجدول أعمال الخيارات السياسية بطريقة تجعل الآخرين يعجزون عن التعبير عن بعض التفضيلات : لأنها تبدو بعيدة عن الواقع أكثر من اللازم ) 0
والحقيقة أن الولايات المتحدة الاميركية قد بدأت تفقد بطريقة او بأخرى تلك القدرة على التوازن ما بين قوتها الناعمة الطرية وسياساتها الصلبة , - وللأسف – فان ذلك الخلل في نظام الجاذبية المحورية للقطب المهيمن – أي – الولايات المتحدة الاميركية , لم يكن على حساب القوة الصلبة , ولصالح القوة الطرية الناعمة , بل على العكس من ذلك , مما اضعف هذه الأخيرة لحساب قوتها الطاردة المركزية , ومكن من حولها من الأجرام من الإفلات من عقال جاذبيتها لأسباب مختلفة , والدليل واضح بشكل لافت للعيان على ذلك في عدد من الأمثلة , أبرزها على الإطلاق من الناحية الجيواستراتيجية , عودة روسيا والصين من جديد الى الواجهة الدولية كقوة منافسة بعد سنوات من الترهل والتبعية الغير مباشرة للقطب الاميركي , هذا بالإضافة الى ظهور بعض جيوب التمرد والتنمر وإعلان حالة العصيان السياسي , من قبل بعض دول العالم كما هو حاصل اليوم مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وكوريا الشمالية وبعض دول أميركيا الجنوبية على سبيل المثال لا الحصر , أما من الناحية الاقتصادية فقد آن للاقتصاد الاميركي أن يتراجع أمام بعض الاقتصاديات الدولية النامية كالصين واليابان , هذا من جهة , أما من جهة أخرى , فقد بدا العالم يشاهد بعض مظاهر الشيخوخة المبكرة على هيكلية البناء الجيوبوليتيكي للولايات المتحدة الاميركية , وذلك من خلال صور التسرع وضعف السيطرة على قراراتها الدولية , وغيرها من صور التراجع الجيوبوليتيكي الاميركي 0
وبناء على ذلك التصور , فان الجغرافية السياسية للقرن الحادي والعشرون ستشهد حالة فريدة جدا من نوعها , ستتشكل من خلال تراجع دور السيادة الاميركية ولكن ليس نهايتها , وبروز الصين وروسيا كقوى موازنة لتلك الهيمنة , وتشكل تحالفات دولية " عسكرية واقتصادية " جديدة على وجه التحديد في مختلف أنحاء العالم , وخصوصا تلك المعنية بالروابط والمصالح الخاصة العابرة للحدود القومية , - وبمعنى آخر – ستتلاشى دور المحورية او المركزية القطبية خلال القرن الحادي والعشرون , وذلك على حساب نظام حكم الكثرة او البولياركي " Polyarchy " , وهو نظام يمثل ( طيفا واسعا متباين الألوان من التحالفات وعلاقات الخصومة المتشكلة حول مئات القضايا والمشكلات : التشريعية منها والإقليمية , وعلى مختلف الأصعدة الاقتصادية والبيئية والثقافية والأخلاقية , ويبقى مفتقرا الى نوع من محور التعاون والصراع المهيمن مع امتلاكه لعدد من جيوب النظام العالمية والإقليمية والمتخصصة وظيفيا , بعضها مفروض عنوة وبعضها الآخر طوعي ) بحسب تعريف أستاذ التعاون الدولي في قسم العلوم السياسية بجامعة برانديز , سيوم براون , ولمزيد من الاطلاع : انظر مقالنا " الوحوش الرقمية ونشوء نظرية اللامركزية الكونية والحتمية التاريخية للصراع الجيواستراتيجي على العالم والفوضى القادمة في السياسات العسكرية "0
وختاما فان التحولات القادمة في بنية النظام الجيوسياسي العالمي خلال القرن الحادي والعشرون , ستتشكل بطريقة متسارعة جدا , بحيث أن العالم سيشهد إرهاصاتها خلال السنوات الأولى من العقد القادم , وسيغلب عليها في كثير الأحيان طابع الفوضى والانفلات وتبعثر السلطة على مختلف الأصعدة والجوانب السياسية منها والاقتصادية والعسكرية 000 الخ , كما ستبرز من جديد ظاهرة التحالفات المقنعة , وقد بدا ذلك بالفعل في التشكل مع انهيار برجي التجارة العالميين بالولايات المتحدة الاميريكية بتاريخ 11 / 9 / 2001 م , وربما قبل ذلك , وها نحن اليوم لا نزال بعد لم نعبر العقد الأول منه , ونلاحظ تلك العوامل سالفة الذكر قد بدأت بالبروز والتشكل بطريقة تؤكد ذلك المسار , بداية من ارتفاع أسعار النفط الى درجة لم يشهدها العالم من قبل , وانتشار ظاهرة الإرهاب والعنف والفوضى العسكرية والتسلح العالمي بطريقة خطيرة ومخيفة , وتراجع دور الهيمنة الاميركية ومكانتها في العالم , مما ينبأ بانفلات النظام العالمي من عقال المركزية الاميركية , وتبعثره بين القوى الناشئة , وما أكثرها خلال هذا القرن , وهذا ما سيجعل من القرن الحادي والعشرون القرن الذي ستشهد البشرية من خلاله أشرس الحروب الكونية , والصراعات الدولية , التي لا مفر من استخدام الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية فيها 0

الأستاذ - محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية – سلطنة عمان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وزارة الدفاع الروسية تعلن إحباط هجوم جوي أوكراني كان يستهدف


.. قنابل دخان واشتباكات.. الشرطة تقتحم جامعة كاليفورنيا لفض اعت




.. مراسل الجزيرة: الشرطة تقتحم جامعة كاليفورنيا وتعتقل عددا من


.. شاحنات المساعدات تدخل غزة عبر معبر إيرز للمرة الأولى منذ الـ




.. مراسل الجزيرة: اشتباكات بين الشرطة وطلاب معتصمين في جامعة كا