الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القرآن والرأي الأخر

عبدالحكيم الفيتوري

2008 / 4 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لا نستغرب أن يكون أول ما نزل من سور القرآن الكريم يحمل في طياته تشريعا ملزما بطلب العلم والتفكر،ونبذ الجهل والتخلف،وتقريرا لحرية الرأي والاعتقاد،ففي الأولى جاء قوله تعالى(إقرا باسم ربك الذي خلق)وفي الثانية قوله(أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى،أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى)أمر بالقراءة والتعلم والتفكر،وأدان ممارسة الإكراه وحرمان الغير من حرية الاعتقاد والعبادة والتدين والرأي(لكم دينكم ولي دين).ثم توالت نزول الآيات تترى تقرر حق الاعتقاد،والتدين،وحرية الفكر والرأي بصورة لم يسبق لها مثيل،وذلك على كافة المستويات.

فعلى مستوى قيمة الحوار كان الحوار بين الله سبحانه وملائكته(إنى جاعل في الأرض خليفة،قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء).كذلك الحوار بين الله عز وجل وإبليس(قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك،قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)وأيضا حواره سبحانه مع إبراهيم عليه السلام(وإذا قال إبراهيم ربي أرني كيف تحيي الموتى،قال أولم تؤمن،قال بلى ولكن ليطمئن قلبي..).حوارات ومراجعات ومناقشات بحضرة الذات الإلهية تقدست اسمائها وصفاتها.

وعلى أساس قيمة الحوار هذه قامت حرية الاعتقاد والفكر والرأي،حيث سجل لنا القرآن الكريم مستويات متنوعة من هذه الحريات،فعلى مستوى الاعتقاد في ذات الخالق سبحانه،جاء قوله(لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء)،(وقالوا يد الله مغلولة)،بل قالوا إن الله خلق السموات والارض في ستة إيام،ثم استراح في اليوم السابع،فرد الله عليهم بعبارة تحمل منتهى الاحترام والاعتراف بحرية الرأي،حيث صحح لهم هذه المعلومة أو الاعتقاد المغلوط وأن ذلك لم يقع وليس بصحيح،فقال(ولقد خلقنا السموات والارض وما بينهما في ستة إيام وما مسنا من لغوب)وفي عجز الآيات وجه خطابه لرسوله الكريم-صلى الله عليه وسلم-بأن يوطن نفسه على تحمل الأذى من طعن في الذات والقيمة،ويلوذ بالصبر والتسبيح بكرة وعشية(فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب)وكل تلك التوجيهات خالية تماما من الإشارة إلى إنزال العقاب على أؤلئك المخالفين،أو تشريع عقوبة حدية ضدهم،أو ممارسة التهميش والاقصاء والإلغاء ضدهم..فاصبر..وسبح!!

ومن ثم لا يفتأ القرآن رغم كل العوائق البيئية والعرفية يقرر حرية الرأي الأخر بحيث يجعل الاختلاف والخلاف هو الاصل في الخليقة(ولذلك خلقهم)،وأن الاختفاء ورأء عنوان الحرص أو المزايدة في الدين وممارسة الإكراهات على المخالف في الرأي وإن أبعد النجعة يعد انتهاكا صارخا لحرمة القرآن والانسان(ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلك،وما أنت بتابع قبلتهم،وما بعضهم بتابع قبلة بعض).

وهكذا رفع القرآن سقف حرية الرأي بعدم تشريع عقوبة حدية على المخالف سواء أكانت هذه المخالفة مخالفة في تقديس الذات الإلهية،أو توقير الرسول،أوعدم الإيمان بآياته(ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون)،(ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن)،(ومنهم من يلمزك في الصدقات)،(وقالوا اساطير الأولين).كل ذلك رفعا لحرمة الانسان وقيمة حرية الرأي والفكر والاعتقاد،بشرط عدم إلباس هذه القيمة بوسائل التهديد والإجبار والإكراه بغية السيطرة على الناس وزعزعة آمنهم وإفساد الأرض بعد إصلاحها(إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا،أن يقتلوا أو يصلبوا،أو تقطع أيديهم،وأرجلهم من خلاف،أو ينفوا من الأرض)

وبالتالي فإن حرية الراي السلمي في القرآن مشروعة ومكفولة،بل قيمة الحرية في القرآن تعد كلية مقاصدية من كليات التنزيل يرد إليها غيرها ولها ما بعدها،فقد تضافرت الآيات في مواضع عدة،وفي سياقات متنوعة،ومستويات مختلفة في تقرير كلية الحرية.وبذلك يرتفع سقف قيمة الحرية الفكرية في القرآن إلى ما ليس له حد، فكل شيء قابل للنقاش في الأصول والفروع،إذ لا سبيل للإكراهات في ذلك وإنما الاقناع بالحجة والبرهان والمنطق والعقل،وهذا هو السبيل الوحيد الذي يقرره القرآن(أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)،(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)(لا إكراه في الدين).

وهكذا،في ضوء كلية الحرية المركزية فإن الله الخالق سبحانه،العليم بمن خلق(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)قد أورث خلقه ذوي الفطر السليمة وعيا بحقهم الانساني،ولم يؤاخذ المخالفين منهم بعقوبة استئصالية بما كسبوا من أفكار واعتقادات وأراء(ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا).لذلك كان المقصد الاساسي للرسالة والرسول تذكير الناس بهذه الحقوق دونما ممارسة الاكراهات عليهم(إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا)،(إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر).

وهكذا يعترف القرآن الكريم بالرأي الأخر،ويحترمه وإن كان لا يقر به،فهو يتفهمه ولا يؤمن به،ولكنه لا يسعى للاستئنصال أصحابه وإلغائهم من الوجود،وإنما الحوار والمحاجة والجدال بالتي هي أحسن،(وحاجه قومه قال اتحاجوني في الله وقد هدان)،(وجادلهم بالتي هي أحسن)،وكذلك كانت مجادلة الرسل مع أقوامهم بالتي هي أحسن دون إلغاء وإقصاء.


فإذا كان ذلك كذلك،فكيف تم أغتيال الرأي الأخر،ومن الذي قام بخطف هذه القيمة القرآنية(كلية الحرية)،وما هي أسباب خطفها،ومن المستفيد من هذه العملية؟!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 155-Al-Baqarah


.. 156-Al-Baqarah




.. 157-Al-Baqarah


.. 158-Al-Baqarah




.. 159-Al-Baqarah