الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
لماذا لا يفكر المثقفون ؟!
رمضان الصباغ
2008 / 4 / 21الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن المشكلة التي يعاني منها واقع الثقافة في عصرنا الحالي , وفي بلادنا بالتحديد تكن في ازدواجية المثقف , الذي تبعا لنشأته كمثقف , في ظروف اجتماعية وسياسية وتاريخية محددة , يعاني من وقوعه في أسر تراث يتجسم أمامه في كل لحظة من حياته اليومية , وفي نفس الوقت يواجه حداثة تفرض نفسها بقوة على كل مقدرات حياته 0 وهو كمثقف إما أن ينحاز إلي الماضي بشكل أو بآخر , أو يرتبط بالحاضر الذي يتجسد في كل مناحي الحياة , وفي أحيان كثيرة يضطر إلي عملية تلفيقية بين الماضي والحاضر تقوم على انتقائية تحكمها مصالحه وخبرته ومعرفته , وانحيازه الطبيعي والاجتماعي والضغوط الخارجية سواء على المستوي المحلي , أو على المستوي العالمي 0
ولذا فإننا نجد في واقعنا من المفكرين من يتخذون هذا الموقف أو ذاك , وقد يتبدل موقف الواحد منهم وفقا للتغيرات التي تحدث في المجتمع , أو تلك التي يري أنها تمس حياته أو مصالحه 0 وقد يكون تبديل المواقف في بعض الأحيان تعبيرا عن تغيرات في رؤية المفكر العقلية , ونتيجة لعملية بحث , وإبداع جعلته يتخذ موقفا مغايرا نظرا لاقتناعه بالموقف الجديد 0 أما الحالة الثانية فقد يكون الانتقال من موقف إلي آخر محكوما – بالأساس – بالمصلحة وإن كان المفكر يحاول أن يقدم تبريرا منطقيا لهذا , معلنا هدايته , أو توبته 0 ولكن الفيصل يكون في تحليل هذه المواقف في ضوء الظروف الاجتماعية والسياسية والتاريخية التي حدثت فيها هذه المواقف , وتلك التبديلات 0 كما يمكن البحث أيضاً في ذلك عن دور ما يمكن ان يطلق عليه (سيف المعزّ وذهبه) 0
وإذا كان الإنسان هو الكائن العاقل الذي يستخدم عقله في كل شيء وان العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين البشر , كما رأي (ديكارت) أبو الفلسفة الحديثة من قرون خلتْ 0 فإن استخدام العقل في الإبداع , والكشف عن الجديد , وخدمة البشرية ، وجعله الميزان الذي نزن به كافة الأمور, في إطار علاقته بالواقع , والظروف المتغيرة , أعني العقل المندمج مع الحياة والذي يغيرها ويتغير معها 0 العقل الذي يقوم بتحليل الظواهر , والوصول إلي النتائج واختبار هذه النتائج في عملية جدلية لا تتوقف 0 إن استخدام العقل في هذه الأمور يختلف كثيراً عن استخدام العقل
(أو المنطق) في التضليل والوقوف مع القضايا الفاسدة , ومع الظلم , خاصة حين يكون ذلك متعلقاً بقضية تتعلق بالسلطة السياسية 0 وذلك مثلما يقوم البعض – بطريق مباشر , أو غير مباشر 0 بالوقوف إلي جانب ذوي الجاه والسلطة على حساب الشعب 0 والحقيقة , والواقع 0
فالثقافة الحقيقية هي الثقافة التي ترتبط بموقف نظري وعملي في آن 0 والفكر الحقّ الذي يستخدم المنهج العلمي , بحثاً , وإبداعاً , انطلاقاً من الواقع المعيش , ومن أجل حلّ معضلاته , ومشكلاته , وترسيخ العقلانية , ومواجهة الخرافة والأسطورة 0
وإذا كان المفكر إنساناً يعيش في عصر محدد , وظروف اجتماعية , ومحلية وعالمية محددة , وقد نهل من منابع معينة , فإنه بالضرورة سوف يكون في حالة تتضافر كل هذه العوامل وغيرها لتجعله يتخذ موقفاً محدداً من هذه المشكلة أو تلك 0 فهو – أي الفكر – ليس محايداً , وإن كان يستخدم المنهج العلمي بشكل خالص , أو مع بعض الرواسب غير العلمية التي ما زالت تجثم على عقله نظراً لظروف عالمنا المتخلف 0 وأيضاً لأن ما يخصّ العلوم الإنسانية , وكل ما يتعلق بالإنسان والحياة الإنسانية كسلوك , وثقافة وسياسة لا يمكن الوصول فيه إلي درجة عليا من الحياد كما يحدث في العلوم الطبيعية 0
ولذا فإن المفكر , في طرحه لأي فكرة , فإنما يعبر عن مجمل حياته , وعصره, وهو بالضرورة غير محايد 0 وقد يكون رأيه هذا نتيجة عملية معقدة من العلاقة بين ذات المفكر , والواقع , بين المنهج , والحياة و وهذا هو المفكر الذي يصارع الوجود , ويحاول أن يقدّم ما يراه صوابا ومفيداً وعقلانيا0 وإذا تبدل موقفه بين آن وآن، فإن هذه العملية تكون نتيجة عملية خلق وإبداع , مهما كان الاختلاف مع نتائجها , إلا أنها تكون جديرة بالاحترام والتقدير 0
أما إذا كان ما يمكن أن نطلق عليه (مفكرا) , بشكل مجازي – ينتقل كالنحلة من موقف إلي موقف , مرتبطاً في ذلك بأوضاع سياسية محددة 0 إذا تغيرت تغير موقفه من النقيض إلي النقيض , أملاً في منصب , أو مصلحة عارضة قد تتغير بتغير آخر , وثالث ورابع 0 فإن هذا يعني أن هذا (المفكر) يفتقد المنهج , وهو بالضرورة ليس بحاجة إليه , كما أنه لا مصداقية له , على المستويين العملي والنظري 0
ونحن لا نري في التغيير والتبديل – كما هو واضح – شراً دائماً ولا نري في الجمود والتحجر خيراً بأي حال 0 ولكن نري أن دراسة هذه الحالة في الظروف والملابسات هي التي تحدّد الموقف السليم , سواء كان ذلك الموقف انتهازيا أو كان موقفاً إيجابياً 0
والجدير بالذكر أن المفكر , محكوم بما يسطّره من كلمات تعبر عن موقفه , وبالتالي لايستطيع الإفلات من الحكم لأن ما كتبه هو الشاهد الأكيد عليه , وهو الذي يمثل المستند الذي لا لبس فيه , ولا مراء 0
وإذا كنا نري أن الإسهام الحقيقي للمفكرين والكتاب وكل المشتغلين بأمور الثقافة إنما هو في تفعيل العقل , وتأكيد دوره ، واستخدام المنهج العلمي , ونبذ الخرافات , والعشوائية في (الفكر!) والحياة 0 فإننا نؤكد علي الدور الإبداعي للعقل , الإبداع الذي يتم على غير مثال و الذي يأتي بالتجديد دائماً , الجديد الذي يتفاعل مع الواقع ويؤثر فيه ويتأثر به 0 الإبداع الذي يقدم في كافة مجالات المعرفة والفن , المدهش المتحرر من أسر التخلف , والردة 0
والإبداع بالضرورة يقوم على قطيعة مع الماضي لأنه ينجز على غير مثال , سواء كان ذلك في الفن أو العلم 0 وهو لا يقع تحت طائلة التبرير السائد للحاضر من خلال سند من الماضي كما يحدث في كثير من امور حياتنا ومعارفنا , والذي أدي إلي استشراء دور (النصّ) , وأسرنا له 0 إنه – أي الإبداع – يقف في الخندق المضاد (للعنعنة) وقياس الحاضر على الماضي (الشاهد على الغائب) , وأيضاً في مواجهة الاجتهاد الذي يخص (مجال الشرعية) ويعد أحد مصادرها , ويعتمد على تأويل النص , ومحاولة تكييفه وفقا للحاضر 0 هذا الاجتهاد الذي يرى في الإبداع (ضلالا) , وكفرا , ولا يتخطى (أي الاجتهاد) حدود القياس على الماضي 0
إن القضية الاساسية ليست مجرد التماس العفو والمغفرة من (عبيد النص) وإيجاد موضع قدم للاجتهاد المَرْضي عنه لديهم , بل القضية الأساسية هي تحرير العقل من كل اشكال العبودية , والتخلف , وكسر السلاسل المكبلة له , سواء كانت هذه السلاسل مصدرها (عبيد النص) أو التقاليد التي جرت من أزمنة , وتحولت إلي سلطة تواجه الإبداع والتحرير , بأسم الثبات والاصالة (الزائفة) 0
إن الإبداع الحقيقي لا ينمو إلا إذا اتيح له المناخ الملائم , وهذا المناخ يجب أن تسود فيه حرية التعبير , بكافة الوسائل , وكل السبل , كما يجب أن تسود فيه الرؤية العقلانية , والتي تحترم الرأي الآخر , وتناقشه وتتفق معه أو تدحضه , أو تستفيد منه 0 دونما تعال أو سخرية, أو إدعاء امتلاك الحقيقة فحرية التعبير هي التي يمكن بواسطتها المساعدة على تطوير الإبداع, وتقدمه مما يقدم أسمي الخدمات للبشرية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر , بشكل آني أو لاحق0 لأن العالم, والفنان هما وليدا الحرية , الحرية بأعمق معانيها وأكثرها شمولاً واتساعاً 0
الإبداع مناهض للتشرنق والتقوقع في إسار الماضي , ذلك أن المبدع الذي يقدم الدهشة , والجدّة , يتعارض بالضرورة مع السلفيّ , أو التراثي , الذي هو أسير النّص , والذي هو في أحسن الأحوال مجتهد يقوم بقياس الحاضر على الماضي , مستأنساً بالنص والسند من التراث , سواء كان ذلك التراث دينياً أو غير ذلك 0 وهو – أي التراثي – في معظم الأحيان الأخرى , نصّي , وحرْفي , لا يقوم بالتأويل , فقد قفل باب الإجتهاد , واحتكم إلي ظاهر النصّ , وذلك بعيداً عن ملابسات الماضي والظروف التي كان النّص تعبيراً عنها 0
والسلفي هنا لا يقبل ما هو مبدع , أو مدهش , وجديد , وذلك لأنه – سواء كان مجتهداً أو حرفياً – يرى في الإبداع كفراً , وخروجاً على المألوف , والمعتاد 0 وهو بذلك يرى ان القيم ثابتة , وأن العالم انتهي عند نقطة محددة , ولا يخرج عنها أبداً وكل ما ياتي إنما هو من البدع والضلالات 0
إنه – أي السلفي – لا يرى ما هو جزئي , ونسبي في الحياة , ويرفض نسبية وتغير القيم وفقاً لتغير الظروف والعصور والبني الاجتماعية 00 الخ 0 بل هو يستريح في منطقته المهجورة , مُسلحاً باطمئنان أزلي , بعيداً عن تناقضات الحياة واضطراباتها , وكأن (ليس في الإمكان أبدع مما كان) , وكان السلف – الذين عاشوا في ظروف حضارية متدنية كثيراً , بالقياس إلي الحاضر , قد أوتو كل شيء , وليس لنا إلا نردّد أقوالهم المأثورة , رغم ما ساد الحياة من انقلابات حادة , تجعل المسافة العقلية والعلمية بيننا وبينهم شاسعة 0 إن المشكلة هي في هذا التكلّس الذي يعطي الراحة والكسل , ويصادر على الإبداع ووسائله , ويرى كل ما هو ضروري للإنسان المعاصر (حرية التعبير – المنهج العلمي – التفكير) ترفاً في أحسن الأحوال وبدعاً في أحيان أخرى 0
إن المعضلة الأساسية تكمن في ان العديد من المثقفين يستريحون لهذا التكلس , والكسل العقلي , والذي يمكن رصد أسبابه 0 في كل حالة , خاصة في بلادنا , في التقلبات المتوائمة أحيانا مع السلطة السياسية على المستوى المحلّي , ومع ما ساد حقبة النفط من متغيرات والمتغيرات على مستوى العالم , وضعف القوى المقاومة للتخلف وفي حالات كثيرة يمكن ان نجد اسباب ما يوصف بالكسل العقلي في أصل نشأة المثقف لدينا , أو إضرابه عن التفكير 0
أن امتناع العديد من المثقفين عن التفكير – إن جاز هذا التعبير – إنما يكمن في الرغبة في الملاءمة مع الأوضاع السائدة , وعدم الخروج عن المألوف , وتبرير ما هو كائن وعدم البحث فيما يجب ان يكون 0 ويأتي ذلك في الوقوف عند حدّ معين لا يتجاوزه المثقف , مع أن حرية الإبداع بلا حدود , والمثقف الحقيقي هو القلق دائماً ، والذي لا يرضي عن واقعه , ويهدف دائماً إلي تطويره , بل وتعييره , والمفكرون العظام نقّاد لعصورهم ومجتمعاتهم , أنهم يرون اكثر من اللازم , ويقفون دائماً على فوّهة بركان0
أن المثقف المنوط به القيام بدور جوهري ورئيسي في الحياة , هو الذي يبدع , ويقدم الجديد , متجاوزاً ما كان ، متفاعلاً مع أحدث إبداعات الإنسان في كل مكان في المعمورة , ومسهماً بإبداعه في إثراء مسيرة الحرية والتقدم ...
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. بشار الأسد في روسيا التي كان يزورها باستمرار وحيث يعيش نجله
.. وزير الخارجية الأيراني: الأسد -لم يطلب أبدا- مساعدة طهران ضد
.. الدبلوماسي السابق مسعود معلوف: إسرائيل هي الشريك الإقليمي ال
.. بعد طرده أمام ريال بيتيس.. برشلونة يفتقد جهود مدربه الألماني
.. أوكرانيا تدعي تدمير منصات الغاز الروسية بالقرب من شبه جزيرة