الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خريطة الإصلاح 6

سيد القمنى

2008 / 4 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


خريطة الطريق نحو الإصلاح : ( الإسلام و القيم )
6 – قيمة الوفاء بالعهد ( أ . صحيفة المعاقل كنموذج أول ) : _
ما قرأت عملاً حديثاً صادراً في مصر عن فلسفة القيم ، إلا و ابتدأ تصديره بالقيم الإسلامية السامية ، و هو ما يعني أن قيم الآخرين ليست كذلك . و هو أمر متواتر حتى بين بين أهل الفلسفة و علمائها المتخصصين ، تجده يحيلك أولاً إلى قيم الإسلام بالضرورة ، ليعود بعد ذلك معلماً أكاديمياً يشرح القيم الإنسانية ( الإكسيولوجية )، ناسياً أنه لم يعد هناك محل لبحث جديد ، بعدما أثبت للقيم الإسلامية وحدها في تصديره ، كل الإيجابيات التامة الجامعة المانعة .
تجدهم في علم الاجتماع قد صاروا كذلك ، في الفيزياء ( سبحان الله ) و صحة القوانين العلمية ( بمشيئة الله ) ، و الجغرافيا و الفلك ، وباء و انتشر ، كتب علم النفس تتصدر باحاتها آيات و أحاديث وردت فيها كلمة النفس عرضاً . حتى الطب لم ينج من ذات المصير ، يبدأ صاحب المرجع الطبي مرجعه بالآيات " إذا مرضت فهو يشفين " ، و نقابة أطباء مصر تضعها على ( البادج / الأيقونة / الرمز ) ، و في طب الحمية مرجعاً منتشراً تتصدر صفحته الأولى : " و كلوا و اشربوا و لا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين " . و لا تفهم هنا قيمة بعد ذلك لصفحات المرجع الكبير ، مادام إذا مرضت فهو يشفين ؟ ! أسلوب يذكرني بالحانوتية الذين يعملون بمهنة دفن الموتى ، و لافتتهم المشهورة : كل نفس ذائقة الموت !! و لا أى معنى لتوقيع حكومات بلادنا على مواثيق دولية تؤسس لقيم جديدة اكتشفتها الإنسانية و توافقت عليها ، قيم لم يسبق أن وجدت لا في تراثنا الإسلامي و لا في أى دين من الأديان ، بل بعضها يتعارض بالكلية مع ما جاء في هذه الأديان ، كما في حال حقوق الإنسان مثلاً ( حقوق المرأة ، حق الإعتقاد . . . إلخ ) فإذا كانت قيم الإسلام قد جمعت فأوعبت كل القيم الإيجابية حتى نهاية الأزمان ، فلماذا لا تعرض حكوماتنا قيمنا هذه على الامم المتحدة أثناء المناقشة في الهيئة الأممية ، خاصة أنه عالم حر يناقش و يستمع و يقبل و يرفض عن بينة و قرار ديمقراطي ، و هو لن يرفض قيمنا إن رأها أرقى من قيمه ، فقيم المواثيق الدولية شاركت فيها كل الإنسانية و قالت تجربتها و كلمتها حتى تم وجوبها وثيقة دولية ، و بنيت لها نصوص قانونية لحماية هذه القيم وصونها .
أم أن حكوماتنا تعلم سلفاً أن في قيمنا ما يعتورها بمقاييس اليوم الأخلاقية ؟ يبدو أن حكوماتنا توقع الاتفاقات الدولية ( تقية ) أى كذباً و مداراة خوفاً و خزياً و عاراً، أى تعلن عكس ما تبطن ، و يبدو أن تلك هي الحقيقة الصادقة الصادمة . وخير نماذج التقية الورعة ، استقبال شيخ الأزهرالدكتور سيد طنطاوي للجنة الحريات الدينية ، و توقيع الدكتور فوزي الزفزاف على العهد الدولي للحقوق الدينية ، بإشراف د . سيد طنطاوي الشيخ الأكبر و بحضور وفد الاتفاقية ، ثم إعلان الشيخ الأكبر فيما بعد أنه لا سمع بهذه الوثيقة و لا يعلم عنها شيئاً. رغم أن الحدث موثق بالصور التذكارية لحفل التوقيع بمكتب الشيخ الأكبر ، و رغم احتساب الفقهاء أن قيمة الوفاء بالعهد اختراع إسلامي قح .
شيخ أكبر آخر هو مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة أجاب بالإيجاب القاطع في أمريكا عن سؤال ، حول حق المسلم ترك الإسلام ، و بمجرد عودته قامت دار الإفتاء كلها تؤكد أن كلام المفتى ثم تحريفه عن معناه كعادة الضالين و المغضوب عليهم في التحريف ، لأن الإسلام لا يسمح بخروج المسلم من دينه بالمطلق .
هذه مشاكل فضائحية تحدث علناً دون أى تحرج ، فأى حديث هذا عن القيم الأخلاقية ؟ و أى قيمة في التوقيع حرجاً أو جبناً ثم الرجوع الكاذب و المخالف ؟
المشكلة تصبح أعوص مع تسليمنا أن القيم الموجبة كلها جاءت في إسلامنا ، لأن هذا التسليم يعني ضمنياً و يقيناً رفض قيم الحداثة و القيم الحقوقية الإنسانية و قيم العلوم الغربية كلها ، مما يعني خروجنا برغبتنا من التاريخ و من المستقبل ، لأن ما عندهم هناك هو الباقيات الصالحات و ليست هنا . رؤيتنا تجعل كل ما حققه العالم الحر هو أدنى قيمياً و خلقياً و علمياً ، ألا ترونهم يعضون علينا الأنامل حسداً لما نحن فيه من سعادة و نعيم مقيم ؟ ! إنهم يحسدوننا على إسلامنا و مع ذلك يكتفون بالحسد و المؤامرات و لا يدخلون إلى سعادته و لا يختارون نعيمه و جنته و قيمه ، نكاية فيه ! ! إن الاعتقاد بكلانية القيم إيمانياً يعنى ضمن ما يعني ، أن الاعتقاد برقي المجتمع الغربي هو إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة ! ! و هو ما يترتب عليه عدم رؤية ما بيد هذه المجتمعات من وسائل رقي و تقدم و الاكتفاء بالذات المريضة .
سنضطر باستمرار إلى الرجوع إلى القطب المرجعي الفقهي الشيخ قرضاوي عافاه الله مما هو فيه ، و هي دعوة صادقة مخلصة ، باعتباره معتمداً من الحكومات و الجماعات الإسلامية بكافة أطيافها ، و من الإخوان ، و من الأزهر ، و من قاطعى الرقاب ، و هو من يركز حديثه الدائم حول الفارق الأساسي بين المسلم و غير المسلم ، المتمثل في القيم الأخلاقية التي هي السمة و العلامة العظمي لرقي الإسلام و سماويته . و يقيم الشيخ هذه المسلمة على آيات قرآنية و أحاديث نبوية و أحداث وقعت إبان الدعوة الإسلامية و بعدها ، بادئاً بأهم تلك القيم و هي ( الوفاء بالعهد ) ، و أوفوا بالعهود إن العهد كان مسؤولا . ليورد النص القرآني الذي يؤكد هذه القيمة " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب ، و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين ، و أتى المال على حبه ذوي القربي و اليتامي و المساكين و أبن السبيل ، و السائلين و في الرقاب ، و أقام الصلاة و آتى الزكاة ، و الموفون بعهودهم إذا عاهدوا ، و الصابرين في الضراء و حين البأس ، أولئك الذين صدقوا ، و أولئك هم المتقون / 77 / البقرة " .
ثم يعقب الشيخ بأن الله ارتقى بقيمة الوفاء بالعهد إلى درجة وضعها وضع بقية العبادات المفروضة كالصلاة و الزكاة .
في التاريخ الإسلامي و خاصة زمن التأسيس ( زمن الدعوة ) أحداث جسام متتالية ، يمكن البحث فيها عن قيمة ( الوفاء بالعهد ) ، و هي واحدة من القيم التي أولدها بين العرب العصر الجاهلي الثاني قبل الدعوة ، و المتوسط بينها و بين الجاهلية الأولى ، و هو العصر الذي تعود إليه مكرمات و مفاخر العرب القيمية الأخلاقية ، و هو التوليد الذي وقفت وراءه مجموعة من الأسباب الموضوعية على الأرض حينذاك .
تعد قيمة ( الوفاء بالعهد ) إحدى المظاهر المتعددة التي تتجلي من خلالها قيمة أعظم ، هي قيمة ( الأمانة ) . و كلاهما ( الأمانة ) و تجليها في ( الوفاء بالعهد ) ، لم تكن شيئاً معلوماً في الجاهلية الأولى التي كانت قسوة و شظف و تركت أثرها أخاديداً و بثوراً أبدية في وجه العربي القيمي . كانت البيئة شحيحة ، بيئة ندرة و جوع كافر ، و مناخ أشد كفراً ، لذلك كان القتال حتى الفناء أو الإفناء في صراع صفري دائب على مواطن الماء و الكلأ حتى ينضب ، فتتحرك القبائل إلى موطن غيرة في عيالة و طفيلية شديدة على الطبيعة و منتجها الشحيح . في مثل هذه البيئة تكون معانى القيم شديدة الاختلاف عما نفهمة منها اليوم ، لأن القيم الأخلاقية التى يجب أن تسود هي ما يضمن الحياة في بيئة لا ترحم ، لذلك يكون الحديث عن الرحمة بمفاهيم أى زمان أو مكان آخر مختلفاً بالكلية عن مكان و زمان الجاهلية الأولى .
و لا يكون هناك معنى لكلمة ( أمانة ) و ما يترتب عليها ، فالأمانة في العربية أصلاً من الأمن و الأمان ، و هما لا يتوفران بالأمانة بل القوة القتالية البحت المجردة التى تحقق الأمن .
و تحدث أحداث عالمية ذات تأثير واسع ، ستؤدي سريعاً إلى تغير وجه التاريخ و الجغرافيا معاً ، عندما تدخل الإمبراطوريتان الرومية و الكسروية حربهما السبعونية ، لتطارد كل منهما الأخرى في أقاصي الأرض ، عدا مكان واحد لم يرغب فيه أياً منهما ، هو فيافي جزيرة العرب . مما هيأ للجزيرة فرصة القيام بأعباء تجارة العالم بعد قطعها في البحار ، من سواحل اليمن إلى سواحل الشام و بالعكس في رحلتي الشتاء و الصيف . و هي التجارة التى قامت عليها قبيلة قريش محولة مكة من مجرد استراحة على الطريق إلى مدينة و حاضرة ذات أسواق كبري ، و شارك كل عرب الجزيرة في القوافل التجارية بأموالهم ، و حرسوا طرق التجارة حرصاً على أموالهم و منافعهم ، فكان أن نشأت قيماً هي فرز زمنها و ظروفه ، و أصبحت ( الأمانة ) القيمة الأولى الواجب احترامها حفاظاً على سيولة الطريق التجاري و ضمنها الوفاء بالعهد ، فكتبت قريش عهود الإيلاف للقبائل و الملوك برعاية الطريق ، و جعل مكة لمن دخلها مكان أمن و عبادة و فرح و عربدة و سعادة و تجارة و لهو و جنس يأمن فيه الجميع من الجميع في أشهر حرم معلومات توافقوا عليها هى شهور السفر والتجارة . و تم التأكيد على الوفاء بالعهود التى كتبتها قريش مع القبائل الضاربة علي الطريق لتضمن عدم اعتدائها على القوافل التجارية ، نظير عهد مقابل هو دفع جعالات من دخل القوافل لهذه القبائل المتناثرة بطول الطريق التجاري ، كان عهداً تجارياً بحتاً ، حتى القيمة مدفوعة الثمن . لذلك كان التأخير في دفع تلك الجعالات يقابل مباشرة بقطع الطريق حتى تفي قريش و كبار التجار بالتزاماتهم . و كان أن يرأس أحدهم قافلة فيتلاعب بأسهم الناس فيها ، فهو ما كان يعني دمار و بوار و خراب تلك التجارة ، لذلك حرص التجار من قواد القوافل الكبرى على حيازة لقب ( الصادق الأمين ) ، ليأمن الناس على أموالهم و تسيل التجارة و تفيض على الجميع بنفعها .
لكن العقائد الدينية لم تتمكن من التخلص من بدائية العبادة ، التي كان يتم فيها التقرب إلى الألهة بالقرابين البشرية من الأطفال الإناث ( في ظاهرة الوأد ) و الذكور ( كما في حال عبد الله أب النبي محمد - ص - الذي افتداه أبوه عبد المطلب من الألهة بمائة من النياق ) ، حتى جاء الإسلام و نقل العرب نقلة دينية ألغت و جرمت و أنهت القربان البشري في الطفولة ، و جعلته قرباناً يحدث عن قناعة عاقلة للشخص الراشد في عقيدة الجهاد .
و قد علمنا أن الإسلام قد عاد بالعرب إلى بعض الجاهلية الأولى مضطراً لحسابات ظروف موضوعية ستأتي بمكانها من هذا البحث ، عندما عاد إلى شرعية الغزو و السلب و النهب و الغنم ، ( و كلها مصطلحات إسلامية بالكتب الأمهات في إشارتها للفعل العسكري الجهادي زمن الدعوة )، و هو ما حاصر قريشا اقتصادياً و أصابها في مقتل حتى سقطت ثمرة ناضجة بيد القوة الإسلامية الطالعة ، كانت الغاية بحاجة إلى تلك الوسيلة ، لذلك جعلها الإسلام وسيلة مشروعة ، بل و مطلوبة بل و مأجورة و مثابة أعظم الثواب ، و قال النبي بوضوح شديد " أُحلت لنا الغنائم و لم تحل لأحد من قبلنا ، و ذلك أن الله تعالى رأى عجزنا و ضعفنا فوهبها لنا / متفق عليه بكل الصحاح " ، بل و كان للنبى خمس ما يغنم المسلمون في معاركهم " إنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه و للرسول / قرآن كريم " ، و كان القرآن شديد الدقة و الوضوح في العودة إلى زمن الغزو و السلب و النهب و الغنم بقول الله تعالى للمسلمين : " فكلوا مما غنمتم طيباً حلالاً " .
و هو الأمر الذي يترتب عليه إعادة السؤال حول قيمة الوفاء بالعهد ، و هل أستمرت في الواقع الفعلي للمسلمين بعد ظهور الإسلام ، أم تراجعت مع ما تراجع من قيم الجاهلية الثانية إلى قيم الجاهلية الأولى ؟ نطرح هنا نماذج ثلاث حدثت إبان وجود النبي ( ص ) في يثرب .
النوذج الأول : _
نقض عهد صحيفة المعاقل : _
أول نقض رسمي لعقد اجتماعي و عهد سياسي مكتوب : _
يقول البيهقي : " و أذل الله بوقعة بدر رقاب المشركين و المنافقين ، فلم يبق في المدينة منافق و لا يهودي إلا و هو خاضع عنقه ، لوقعة بدر / الدلائل / ج 3 / ص 117 " .
بعد النصر البدري المؤزر و حصول المسلمين على غنائم عظيمة خاصة السلاح ، استرسل الوحي يقول : " و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم و آخرين من دونهم لا تعلمونهم ، الله يعلمهم / 60 / الأنفال ".
و عدو الله و عدو المسلمين معروف هم ملأ مكة ، أما الآخرين الذين لا يعلمهم المسلمون ، فهو ما أوضحته الأحداث التالية ابتداء بنداء النبي ( ص ) لرجاله : " من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه / السهيلي / الروض الأنف / مج 3 / ص 164 " ، في منعطف تاريخي مفصلي جاءت مفاصله في آيات تنسخ حرية الاعتقاد ، لتنهي العمل بآيات من قبيل " لكم دينكم و لي دين / 6 الكافرون " ، و تم نسخ الصفح الجميل و الصبر الأجمل ، بقانون جديد حاسم هو " إن الدين عند الله الإسلام / 19 / آل عمران " ( أنظر نواسخ القرآن بأى مصدر للنواسخ / متفق عليه ) .
و تتالى الأحداث سراعاً ، فيروي الزهري عن عروة " نزل جبريل على رسول الله ( ص ) بهذه الآية : و إما تخافن من قوم خيانة ، فأنبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ، فقال رسول الله ( ص ) : أنا أخاف من بني قينقاع ( أحد القبائل اليهودية الثلاث بيثرب ) ، فسار إليهم و لوائه بيد حمزة / ابن سيد الناس ، عيون الأثر ، ج 1 ، ص 353 " . و انجلت غزوة قينقاع عن طردهم من يثرب كأول قبائل يهود يتم إجلاؤها ، بعد أن استولى المسلمون على كراعهم و أسلحتهم و أرضهم ، مما زاد في قوة المسلمين العسكرية و راحتهم الإقتصادية .
و عندما رأت قريش نفسها محاصرة في رزقها بعد أن قطع المسلمون عليها طريق الإيلاف الشامي ، أجمعت على قتال محمداً و ذلك في الوقعة المعروفة بوقعة أحد التى انهزم فيها المسلمون هزيمة مريرة ، أدت بالبيهقي لتصوير حال يثرب بعد الهزيمة بقوله : " و فارت المدينة بالنفاق فور المرجل / البيهقي / دلائل النبوة / ج 3 / ص 216 " .
و ترنحت الدولة الطالعة ، فتم اتخاذ إجراءات سريعة حاسمة عنيفة متتالية لا تهدأ لإصلاح ما أفسدته أحد ، بالقضاء على رؤوس المعارضة ( المنافقين ) فتدحرجت رؤوس كبار القوم ، تم اغتيالهم ليلاً مثل رأس ( سلام بن أبي الحقيق ) المعروف بأبي رافع ، و ( أبي عفك عمرو بن عوف ) ، و ( عصماء بنت مروان ) عقيلة بني خطمة ، و ( خالد بن سفيان ) سيد هذيل ، و ( فاطمة بنت ربيعة ) زعيمة فزارة و محل شرفها ( أنظر ابن حبيب في محبره ص 117 ، و ابن كثير في البداية ج 4 ص 39 أو 142 ، و ابن سيد الناس في عيون الأثر ج 2 ص 145 ، السهيلي / شرح السيره / مج 4 / ص 244 ، 245 ، و الطبري في تاريخه ج 3 في ص 156 ) ، إعلانا ً عن أن السيف المحمدي و إن كسرت منه الذؤابة في أحد ، فإنه مازال قوياً مقتدراً و عنيفاً ، إعلاناً عن الإصرار على استدامة الدولة الناشئة مهما كلف ذلك من أرواح .
و يحكي ابن كثير أحداث العام الثاني للهجرة بقوله : إن فيها " حولت القبلة . . و فرض صيام رمضان . . و زكاة النصب و زكاة الفطر ، و فيها خضع المشركون من أهل يثرب و اليهود . . صانعوا المسلمين و أظهروا الإسلام و هم في الباطن منافقون . . قال ابن جرير : و فيها كتب الرسول ( ص ) صحيفة المعاقل ، و كانت معلقة بسيفه " .
و ابن كثير إذ يوقت الصحيفة بنهاية العام الثاني للهجرة ، فهو بذلك يختلف عن رواة آخرين قالوا أنها كانت أول عمل للنبي عند وصوله يثرب مهاجراً من مكة . هذا علماً أن ابن كثير نفسه يثير التناقض بذلك مع ما سبق له أن ذهب إليه مع الجمهرة ، بأن صحيفة المعاقل قد تمت كتابتها بين أهل يثرب جميعاً و بين المسلمين المهاجرين عند وصول النبي يثرب ، حيث تبدو يثرب جميعاً قد عمها الإيمان ، و يظهر فيها النبي سيداً مقبولاً من الجميع عن رضى غير واضح الأسباب بما فيهم اليهود ، فكتبوا معه صحيفة المعاقل التي ترد كل أمر في يثرب إلى النبي وحده . و هو كله ما يخالف و يناقض واقع الأحداث ، ذلك الواقع الذي يحيلنا إلى النبي و أتباعه المكيين مهاجريين ضعاف متخفين هاربين من بلادهم ، و من بين أهله بالعصب ( أعمامه ) إلى حمى ( رحمة ) أخواله اليثاربة من بني النجار الخزرجيين ، و هو ما يحيط الصورة التي رسمتها كتب الأخبار و السير للاستقبال الهائل ، و طلع البدر علينا ، و الطاعة الكاملة من الجميع لسيدهم الغريب المكي ، بكثير من الشك و عدم المصداقية ، حيث ذات المصادر تؤكد أن غالب أهل يثرب كانوا يهوداً أو وثنيين ، و إن كثيرا ممن دخل منهم حلف المسلمين كان منافقاً أو دسيسة ، لذلك رجع ابن كثير عما قال في بداية الفصل ليؤخر زمن صحيفة المعاقل إلى السنة الثانية للهجرة ، بحيث تبدو الأحداث أكثر منطقية مع مقدماتها ، فاختار الزمن الذي تحول فيه المسلمون إلى قوة قادرة على فرض هيمنتها .
و لمزيد من التدقيق نجد غزوة قينقاع لم يرد فيها أية إشارة لتعاقد المسلمين مع اليهود ، و لم نقرأ فيها ما يشير إلى منابذة قينقاع للنبي بنقضه للعهود ، كما حدث في الوقائع التالية مع قبيلتي النضير و قريظة ، و هو ما يشير إلى أنه حتى غزوة قينقاع لم تكن هناك عهود ولم تكن صحيفة المعاقل قد وجدت بعد .
و إن هذا الإختلاف و التناقض يدفع الباحث إلى محاولة جديدة للتزمين الأوفق لصحيفة المعاقل ، حيث نعتقد أن تلك الصحيفة قد كتبت ضمن مجموعة الإجراءات الحاسمة مع تراجعات محسوبة ، و التي تمت بعد هزيمة المسلمين في أحد .
معلوم أن هزيمة أحد هزت معنويات المسلمين بعنف حتى نادي المهاجرون بالعودة إلى قريش و نفض أيديهم من الموضوع كله ( البيهقي / الدلائل ج 3 ص 21 ) بينما قال صحابة آخرون من الأنصار اليثاربة : " لو كان من الأمر شئ ما قتلنا ها هنا / 154 / آل عمران " و هو ما يعني إنكارهم الوحي و الدين معاً . لكن أحد لم تقض على مخزون السلاح البدري الذي تم استخدامه في حملة المسلمين الأولى على اليهود ( قينقاع ) و انتهت بمزيد من قوة المسلمين بعد استيلائهم على ممتلكات قينقاع ، ثم في حملتهم الثانية على اليهود ، و كانت على بني النضير ، و تؤكد كتبنا " أنها قد حدثت بعد وقعة سبقتها هي وقعة بئر معونة / ابن كثير / البداية / ج 4 / ص 76 " . و نحن نعلم من ذات الكتب أن بئر معونة قد وقعت بعد أُحد بزمن ، و بعد غزوة أخرى أسبق هي وقعة الرجيع التي وقتها الواقدي في صفر سنة أربع للهجرة . و نعلم أيضاً أن بني النضير قد نابذوا النبي في تلك الوقعة بنقضه للعهود و المواثيق ، مما يشير إلى أن صحيفة المعاقل كانت قد عقدت قبل غزوة النضير المشهورة ، حتى نفهم منابذتهم له بنقض العهود ، و أنها تمت في الزمن الواقع بين غزوتي أُحد و النضير ، و هو ما يمكن الكشف عنه في قراءة البيهقي للحكاية إذ يقول : " اجتمعت بنو النضير بالغدر ، فأرسلوا إلى النبي ص : أن أخرج إلينا في ثلاثين من أصحابك ، و ليخرج منا ثلاثون حبراً ، حتى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك ، فإن صدقوا و آمنوا بك آمنا بك ، فلما كان الغد ، غدا عليهم رسول الله بالكتائب فحصرهم فقال لهم : إنكم و الله لا تأمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه ، فأبوا أن يعطوه عهداً ، فقاتلهم يومهم هذا ، فعاهدوه ، ثم غدا على بني قريظة بالكتائب و دعاهم إلى أن يعاهدوه ، فعاهدوه فانصرف عنهم / دلائل النبوة / ج 3 / ص 179 ".
و من الخبر نفهم أن يهود النضير أرادت وضع حد لمشكلة علاقتهم بالمسلمين ، إما بالدخول في الإسلام بعد جدل و حوار يثبت فيه الإسلام جدارته عن اليهودية بالدليل و البرهان ، أو بعدم الدخول فيه إذا لم يقتنعوا به مع إيجاد صيغة سلامية للتعايش و تهدئة للموقف المتوتر بعد قطع الرؤوس من أشراف اليهود . و أن يتم ذلك بالجدل و الحوار و المناظرة ، لكن النبي رأي أن يتعامل معهم بمنطق آخر فجرد عليهم الكتائب حتى نزلت النضير على عهد مكتوب ، ثم رضت قريظة بالعهد دون قتال ، و لا نعلم عهوداً تمت مع اليهود سوى صحيفة المعاقل .
و عليه فإن المعاقل قد تمت فيما نذهب إليه ( عن محاولة اجتهادية لا قطعية ) ، ضمن سلسلة الإجراءات السريعة الحاسمة ، لإصلاح ما أفسدت أحد و علاج آثارها لرفع روح المسلمين المعنوية ، و بداية اهتمام واضح بالجبهة الداخلية لتأمينها اولاً قبل معارك الغزو ، و ضمن هذا التأمين قدم النبي تنازلاً تراجعياً وضح في النص " لليهود دينهم و للمسلمين دينهم / مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي ، 1985 / ص 61 " .
لكن ما حققته الصحيفة من إيجابيات هو أنها حولت المسلمين من لاجئين إلى مواطنين على ذات درجة أهل يثرب ، ثم إعادة الأمر كله لسيد المدينة الجديد الذي غدا بلا منافس بعد قطع رؤوس سراة القوم و سادتهم . و لعل في تعليق الرسول ( ص ) للصحيفة بسيفه رمزاً واضحاً يحمل معنى السلام القائم على القوة و الإقتدار . أما أهم بنود الصحيفة فهي تلك التي تقول في مفتتحها : " هذا كتاب من محمد النبي الأمي " و المقصود نبي الأميين ( جمع أمم ) أى نبي الأمم أى ( الجوييم ) أى غير اليهود . و المفتتح يشير إلى المعاقل كفرمان صادر من سلطة النبي السيادية ، فأطراف الصحيفة لم تكن متكافئة ، فهو سلام مفروض فرضاً ، أو هي بمثابة كتاب أمان من النبي ، أو عقد اجتماعي مفروض ، مع فرض صفة النبوة للنبي في الوثيقة الرسمية ، لتعني اعترافهم بذلك راغمين و لو لم يؤمنوا ، و هو ما يعني عند العربي الإذلال بإحناء الرأس لأمر لا يعتقد فيه قهراً ، لذلك كثيراً ما كان الإسلام يفرق بين المسلم و المؤمن ، فالمؤمن هو صادق اليقين بعكس من أسلم خوفاً أو رشوة بتأليف قلبه ، و قد جاءت الصحيفة متجاوبة مع رغبة اليهود و بقية مشركي يثرب في الأمان بعدما اجتز السيف الإسلامي رؤوس سادتهم .
أن ابرز المفاصل في الصحيفة فهي : " و إنكم مهما اختلفتم في شئ ، فإن مرده إلى الله عز و جل ، و إلى محمد ( ص ) " ، هي خطاب من سيد لمسود " إنكم " ، و ليست ( نحن الموقعون ) ، و الأمر الأشد دلالة قانون بالصحيفة يقول : " و إن بطانة اليهود كأنفسهم ، و إنه لا يخرج أحد منهم إلا بإذن محمد . . ، و إن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ، و أنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده ، فإن مرده إلى الله و إلى محمد رسول الله / ابن كثير / البداية / ج 3 / ص 223 ، 224 " .
و بين الأفخاذ القبلية التي تم تعدادها كأطراف للمعاقل ، تم وضع المهاجرين كأبناء البلد ، و كفخذ من الأفخاذ البشرية الأصيلة فيها ، بل أن الصحيفة أكسبت المهاجرين ليس الوجود الشرعي فقط و لا المواطنة عوضاً عن اللجؤ فقط ، بل غدا الأنصار أنفسهم إزاء المهاجرين تابعين لا مجيرين و متبوعين .
الأهم من كل هذا أنه لابد من افتراض حدوث وقعتين ضد بني النضير لا وقعة واحدة هي المشهورة ، وقعة أولى حاصرهم فيها المسلمون و فرضوا عليهم صحيفة المعاقل ، تلاها بعد ذلك الوقعة المشهورة في تاريخنا و التي تم بموجبها إجلائهم عن يثرب و الاستيلاء على ممتلكاتهم .
و تتالى الأحداث ، فيقتل المسلمون بعض الأعراب الوثنيين من بني عامر عرضاًو خطأ حيث كان بينهم و بين النبي عهد خضوع مقابل السلام ، فقاموا يطلبون من النبي دية القتلي إلتزاماً بالسلام و عدم إعلان الحرب .
هنا يحكي لنا الطبري أن النبي ذهب إلى بني النضير يطلب منهم مساعدته في أداء دية القتيلين العامريين ؟ ! ، يقول الطبري : " فانطلق رسول الله ( ص ) إلى قباء ، ثم مال إلى بني النضير مستعيناً بهما في ديتهما ، و معه نفر من المهاجرين و الأنصار و فيهم أبو بكر و عمر و علي و أسيد بن حضير ، فلما أتاهم الرسول يستعينهم في دية ذلك القتيلين ، قالوا : نعم يا أبا لقاسم نعينك على ما أحببت ، مما استعنت بنا عليه / الطبرى / التاريخ / ج 2 / ص 551 " .
و هكذا لم تسوف النضير و لم تماطل ، و يبدو أنها قدرت الأمر بعمق ، فمازال خروج قينقاع المهين ماثلاً ، و هناك صحيفة معاقل تضمن لهم قدراً من سلام لا يرغبون غيره ، مع مسلسل اغتيال رجالها المقدمين ، ناهيك عن معرفتها أن المسلمين قد غدوا مقتدرين مالياً على أداء مثل تلك الديات بعد الإستيلاء على ممتلكات قينقاع و أموال فك أسرى بدر من المكيين ، و من ثم كانت الحكمة تقتضي تلك الإجابة العاقلة بحيث لا يعطون أى فرصة لنقض صحيفة المعاقل التى لم يمض على عقدها سوى ستة أشهر .
و يتابع الطبرى يقول : " أن يهود النضير عندما أجابوا النبي ( ص )إلى ما طلب . . قام النبي و قال لأصحابه : لا تبرحوا حتى آتيكم ، و خرج راجعاً إلى المدينة ، فلما استلبث رسول الله ( ص ) اصحابه ، قاموا في طلبه ، فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة ، فسألوه عنه ، فقال : رأيته داخلاً المدينة ، فأقبل أصحاب رسول الله ( ص ) حتى انتهوا إليه . . فقالوا : يا رسول الله انتظرناك و مضيت ، فقال : يهود همت بقتلي و أخبرنيه الله عز و جل / الطبري / التاريخ / ج 2 / ص 551 ، 552 " .
و يشرح ابن إسحاق في سيرته : " فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم ، فقام و خرج عائداً إلى المدينة " .
و لم يكن هناك سوى رد واحد على خبر السماء ، فقد هموا بارتكاب الخيانة ، و أن الله قد علم ذلك ، فأرسل النبي لهم : أخرجوا من بلدي ؟ ! فلا تساكنونى بها و قد هممتم بما هممتم به من الغدر ، و قد أجلتكم عشراً ، فمن رُئي بعد ذلك ضربت عنقه / ابن سعد / الطبقات / مج 2 / ج 1 / ص 41 " .
كانت اليهود تعتقد أن يثرب مدينتها منذ قرون مضت ، فإذ بها قد أصبحت مدينة رسول الله ، و زاد النكاية في اختيار حامل هذه الرسالة للنضير ، كان حليف النضير الأوسي ( محمد بن مسلمة ) ، حتى تساءلت النضير عن حلفها مع الأوس و عقدها المتين قبل دخول الأوس في الإسلام ، قائلة لمحمد بن مسلمة : " يا محمد ما كنا نرى أن يأتى بهذا رجل من الأوس ، فقال محمد : تغيرت القلوب / البيهقي / الدلائل / ج 3 / ص 360 " ، أو بقوله في الطبري : " تغيرت القلوب ، و محا الإسلام العهود / التاريخ ، ج 2 / ص 552 " ، فكان ردهم محمولاً إلى النبي مع محمد ابن مسلمة : "إنا لا نخرج من ديارنا فأصنع ما بدالك " . و يقول ابن كثير " و حمى حييي ابن أخطب ( زعيم النضير ) ، و بعثوا إلى رسول الله ( ص ) أنهم لا يخرجون ، و نابذوه بنقض العهود / ج 4 / ص 77 " . هذا بينما فهمت القبيلة اليهودية اليثربية الثالثة و الأخيرة قريظة ما يحدث ، فالتزمت بنود صحيفة المعاقل ، و هو ما يقول بن سعد في تقرير واضح : " و اعتزلتهم قريظة فلم تعنهم / نفس الموضع " ، و أعلن زعيم قريظة ( كعب بن أسد ) : " لا ينقض العهد رجل من بني قريظة و أنا حي " . و يحكى أن رأساً من رؤوس النضير هو سلام بن شكم قال لرفيقه حييي بن أخطب : " يا حييي إقبل هذا الذي قال محمد قبل أن تقبل ما هو شر منه ، قال : و ما هو شر منه ؟ قال : أخذ الأموال و سبي الذرية و قتل المقاتلة ، فأبي حييي و أرسل إلى رسول الله ( ص) : إننا لا نريم دارنا فأصنع ما بدا لك ، فكبر رسول الله ( ص ) و كبر المسلمون معه و قال : حاربت يهود " ، أى أعلنت اليهود نقض الصحيفة بإعلانها الحرب على المسلمين.
و انتهى حصار النضير بأن " صالحوه على أن يحقن دماءهم و له الأموال و الحلقة / أى السلاح / الطبرى / ج 2 / ص 553 " . و وافق النبي ( ص ) ، و أمر بتهجيرهم و أعطى لكل ثلاثة منهم بعيراً واحداً يركبونه حتى لا يمكنهم حمل المتاع . لتختم الآيات الأحداث بقولها : " سبح لله ما في السماوات و ما في الأرض و هو العزيز الحكيم ، هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم . . و قذف في قلوبهم الرعب . . و ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله ، و من يشاق الله فإن الله شديد العقاب / 1 : 4 الحشر " .
لاشك سيطرح السؤال نفسه هنا حول قيمة الوفاء بالعهد ؟ و من الذي نقض العهد حقاً ؟ ومن أطاح بهذه القيمة ؟. لاشك نحن كمسلمين نؤمن و نصدق خبر السماء الذي أنبأ نبينا بما كاد اليهود يهمون به لقتله ، و نحن لم نسمع خبر السماء ، لكننا عن يقين كامل نصدقه لأن ناقله هو خير البرية الصادق الأمين ، لكن غير المسلم سيقرأ الأحداث قراءة أخرى خاصة أن قيمة الوفاء بالعهد قيمة إنسانية لا تخص المسلمين وحدهم ، فهم لن يصدقوا خبر السماء مثلنا بعد أن ختم الله على قلوبهم أكنة و لم يفتح بصيرتهم ، سيقرأون الوقائع كما سردتها أمهات كتبنا الإسلامية المعتمدة ، وسيعلنون مع الصحابي محمد بن مسلمة : أن الإسلام يجب العهود ، بمعنى أن الإسلام يجب غيره ، و التسليم له و الاعتقاد في سلامته وحده ، يترتب عليه نقض كل ما يخالفه ، و كم حفل تاريخنا ببطولات لم تقف عند حد نقض العهود بل تمزيق عهد الأسرة تمزيقاً ، يقتل فيها المسلم أخيه ، بل و أبيه ، و كم يتغني بمن كان مثل أبا عبيدة بن الجراح الذي دفعه إخلاصه لدينه إلى ذبح رحمه و عصبه ، قتل أبيه ، و قال له و هو يذبحه : خذها في سبيل الله / أحمد شلبي / السيرة العطرة / ط 12 / ج 1 / ص 375 : 377 " ، و هو ما أفصح عنه رد المسلمين على نداء النبي بعدم قتل عمه العباس إذا لقوه في بدر الكبرى ، قال أبو حذيفة بن عتبه : " أنقتل آباءنا و إخواننا و عشيرتنا و نترك العباس ؟ و الله لئن لقيته لألحمنه السيف / ابن سيد الناس / عيون الأثر / ج 1 / ص 310 " .
ليس هناك عقد في التاريخ كله أعلى درجة في القيمة من كل العهود كعهد الأسرة الذي أسس لقيام المجتمع الإنساني ، لكن الإسلام جب حتى هذا العهد فقتل الإبن أبيه في سبيل الله ، و قتل إخوانه و عشيرته في سبيل الله . كل هذه المعاني تكتسب قيمتها من قدسية الدين لا من مشهد الوقائع على الأرض ، فمشهد الوقائع ينفي عن كل تلك الأحداث أى معنى للقيم بمعناها الإيجابي الذي نفهمه منها اليوم بعد مرور أربعة عشر قرناً تغيرت فيها المفاهيم و اكتسبت القيم دلالات جديدة ، لكنا كمسلمين نصدق و نسلم بضمير مستريح كامل اليقين، و نرى أن لله حكمته في ذلك و التى تخفى علينا ، لكن مثل هذا المأثور سيثير في الضمير المسلم الكثير من المشاكل لو تصورناها صالحة لكل زمان و مكان ، لأن كسر القيم الموضوعية لصالح الربانية ، كان له هدفاً يتعلق بعرب الحجاز و تاريخهم وحدهم ، عندما كان الإسلام يقيم لهم دولة كونفودرالية في حالة خاصة جداً بهم و بزمنهم و بيئتهم و نظمهم ، و لا يتعلق بنا و لا بأوطاننا و لا بتاريخنا الوطنى لا في مصر و لا أفريقيا و لا الشام و لا فارس، لذلك فإن القول بالصلاحية لكل زمان و مكان لابد أن يفضى إلى تناقض صارخ بين ما وصل إليه الإنسان اليوم من قيم ، و بين قيم كانت تناسب بيئتها البدوية القاسية و عاداتها الجافية ، و ظروفها السياسية التي استدعت بتصريح النبي للمسلمين بـ " المكر و الخديعة " ، و إلا ما قامت دولة القبائل الاتحادية الإسلامية لعرب الجزيرة و لا توحدت قبائلها تحت رئاسة قريش .
كانت قيماً ضرورية لزمانها ، لكنها في زماننا ستكون خللاً فادحاً في القيم ، و من يستدعها مؤمناً بقدرتها على الفعل الأخلاقي اليوم ، يخرج نفسه عن الإنسانية جميعاً و ما تواضعت عليه من قيم هي الأرقى موضوعياً . و ما قطع رؤوس الأبرياء أمام الكاميرات مع التكبيرات الإسلامية بيد مشايخ الجهاد الزرقاويين ببعيد ، هو عودة قاصرة إلى ظاهر الدين لا محتواة ، و دون معرفة صادقة بظروف الوحي التاريخية ، بل و رفض لهذه التاريخية أصلاً ، و هو ما شكل صورة المسلم القبيحة أمام العالمين ، و هو بالتأكيد ما لا نريد لأنفسنا و لا لديننا ، و لا يبقى سوى أن نؤمن ثم للصلح مع زماننا نسلم أن مثل تلك القيم إنما كانت تخص زمانها و مكانها وحدهما ، و سحبها لزماننا لم يؤد إلا لما نراه من خراب الضمائر ، و دمار الديار ، و فساد و إفساد هائل لم تعرفه بلادنا أبداً قبل صحوتنا . . لا بارك الله فيها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زاوية جديدة للاشتباكات المسلحة في محيط الكنيس اليهودي في داغ


.. اشتعال النيران في مبنى بعد الهجوم على كنيس يهودي في داغستان




.. إطلاق نار وحرق كنيس يهودي في جمهوريتين اتحاديتين بروسيا


.. صور لاستمرار المعارك في محيط الكنيسة بمحج قلعة بداغستان




.. زاوية جديدة للاشتباكات المسلحة في محيط الكنيس اليهودي في داغ