الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السلف .. والرأي الأخر

عبدالحكيم الفيتوري

2008 / 4 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لقد امتهد الكلام في المقالين السابقين؛القرآن والرأي الأخر،والرسول والرأي الأخر،بأن القرآن والهدي النبوي قد أسسا قيم الحرية واعتبار الأخر شكلا ومضمونا،كما وأنهما بسطا معاني قيم الحياة الكريمة لكل الناس؛مفهوما وسلوكا،تنظيرا وتطبيقا،وبذلك يكون(إسلام النص)قد أزاح كل العوائق التي تحول دون مبدأ التعايش وحرية الرأي واحترام الأخر على اعتبار أن وجود الأخر؛صورة ومفهوما وسلوكا،ضرورة حياتية دينية كونية وليست ضرورة سياسية(هوالذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن).(لكم دينكم ولي دين).وبهذا تجلت صورة الرأي الأخر في إسلام الوحي المنزل.

ولكن إذا ولينا وجوهنا شطر(إسلام التاريخ)لرأينا أن تلك الصورة قد تأرجحت فيه بين التعبير عن هذه القيم والمفاهيم والكليات القرآنية نظريا،وممارسة أنماط أغتيال هذه القيم،وشطبها عمليا،وذلك من خلال التمييز والاقصاء والتهميش،والعزل والاغتيال للمخالف في الرأي الأخر ولو كان موافقا للملة أو للمذهب،بل لم يسلم من ذلك حتى بعض منظري المدونات ذاتهم،كصاحب المقولة المشهورة(رأي صواب يحتمل الخطأ،ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)!!

ولعل هذا التناقض بين النظرية والتطبيق في(إسلام التاريخ)كان نتيجة حتمية لنموذج استنساخ السلطة الاستبدادية الكسروية والهرقلية واستنباتها في الأمة،حيث حاولت هذه السلطة الاستبدادية توظيف الدين ورجاله لصالح مأربها السياسية ومصالحها الدنيوية،ومن ثم فقد عاش العقل الجمعي في المجتمعات الإسلامية الأولى صراع مصالح غير معترف به،فالسلطة السياسية المستبدة تستخوذ على المصالح الحسية النفعية،والسلطة الدينية تستخوذ على المصالح المعنوية؛القيم والمفاهيم.وهذان المتصارعان هما الذان مارسا عملية أغتيال تلك القيم والمفاهيم والكليات،وحكما بشمولية مطلقة،فرجل السلطة السياسية المستبد له مطلق المصالح،ورجل الدين حليف رجل السلطة له مطلق تفسير القيم والمفاهيم والتوجيه.ومن خلال هذا الحلف غير المعلن بين السلطتين؛الأمراء والعلماء،السيف والقلم تمت بالفعل عملية الفصل بين النظرية والتطبيق،وأغتيال تلك القيم القرآنية.وفي أجواء هذا الحلف تم تدوين جل المدونات الرئيسة على أسس قوانين اللعبة السياسية في سياق توافق صراع المصالح والقيم. واللافت للنظر أن العقل التمجيدي التقديسي قد تلقى هذه المدونات بمعزل عن معرفة السياق التاريخي،ونسيج الاجتماع السياسي لها حال تدوينها،مما أوقع المتلقي لها فريسة سهلة في شراك تاريخ السلطة،وسلطة التاريخ

ولعل القوم قد أفلحوا حين قدموا تأويل القرآن للمتلقي المعاصر بأنه كتاب إقصائي يلغي الأخر ويجرمه،وقدموا سيرة الرسول في ثوب المغازي والمعارك وقتل الأخر،مما دفع بالعقل التمجيدي إلى فهم دين الله على تلك الأسس والمضامين الاقصائية المغلوطة،وهذا ما جعله يضفي جلباب القداسة والطهرية بل والملائكية على تلك المدونات وأصحابها،فلم يكن بإمكان كل هذه التقديمات المغلوطة إلا أن تترك أثرا سلبيا على عقل متلقياها، حيث صار عقلا حشويا نقليا قياسيا،فضاق ذرعا بالمخالف في الرأي؛اعتقادا،واجتهادا،وموقفا،وموقعا،فأثمر ذلك فكرا تأثيميا وفقها جنائزيا؛يؤثم الرأي الأخر فكريا،ويقيم مراسم جنازة الأخر فقهيا

والأخطر من ذلك أن أغلب تلك المدونات بقدر ما أحدثت من مناهضة الآخر وشطبه،فإنها ساهمت بقدر كبير في تعطيل عمل كليات مقاصد الوحي تأويلا وتنزيلا؛كقيمة الحياة الكريمة،وقيم الحرية والعدل والقسط والرحمة والعفو،لدرجة أن المتصفح لهذه المدونات يتراءى له من الوهلة الأولى بأنه أمام دين جديد ليس الذي نزل به القرآن وعاشه سيد الأنام.وعلى الرغم من أن هذه المدونات والمنتجات الفكرية لها وعليها،ولكن لابد من الأخذ في الاعتبار بأنها قد تشكلت في إطار الصراع بين المصالح النفعية والقيمية(=السيف والقلم)،وأنها أحيطت بمسبقات ذهنية ومذهبية،مشبعة بإكراهات ظرفية بيئية،تنفي العقلانية والتسامح عن كليات الوحي المنزل حتى أضحى وحيا مؤولا أو مبدلا وليس منزلا

ولكن قبل أن نغادر هذه الفقرة ينبغي التأكيد على أن مفاهيم القرآن في الحرية والرأي الأخر والتسامح والتعايش قد طبقت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفق سياسة أن ثمة قيم ومصالح متقابلة بين الناس،ولا سبيل لبسطها إلا بالحوار والتفاهم والجدال بالتي هي أحسن،وإيجاد منظومة من القواعد العرفية تسمح لأراء مختلفة،وقيم متنوعة،وأفكار متباينة،أن تعيش في نفس الحيز المكاني والزماني كما تجلى ذلك في نسيج الاجتماع السياسي في دولة المدينة،فقد كان هذا الاجتماع السياسي خليط من(المؤمنين،والمسلمين،والاعراب،والمنافقين،واليهود،والنصارى،والمشركين).ولا يخفى أن ذلك اعتراف بأن القيم المتعددة،والأفكار المتقابلة،والاراء المتباينة،يمكن لها العيش سويا في حيز مكاني وزماني واحد.

ما نود الإشارة إليه من خلال نسيج الاجتماع السياسي النبوي،في المواقف والاتجاهات والرؤى،بأن هذا التباين والاختلاف في حقيقته هو ظاهرة من ظواهر الاجتماع السياسي،وليس بوصفه ضرورة دينية،وبهذا المنطق يمكن فهم حقيقة الخلافات التي دارت بين الصحابة رضوان الله عليهم،وأحسب أن تلك الأراء والخلافات وتباين المواقف والاتجاهات،إنما كانت لأن وجهات النظر،والرؤى الفكرية،والموضوعية لظاهرة الإمامة السياسية،تختلف باختلاف المنهج الذي يتعاطى مع هذه الظاهرة،وبالتالي فإن تأويل الوحي،واستدعاء النصوص الدينية لحل ظاهرة اجتماعية،يأتي كذريعة في كثير من الاحيان لتسويغ وجهة نظر ما وإعطائها بعدا قطعيا ونهائيا،ومن هنا يتحول التباين في الأراء والمواقف من ظاهرة اجتماعية مشروعة إلى قضية عقدية قطعية غير مشروعة بحال!!

وبعبارة أخرى ينبغي أن نعمل على تجريد قيمة حرية الرأي عن الخلافات السياسية والمذهبية والدينية،وأن نضعها في سياق ظواهر الاجتماع السياسي،وأن نفهمها في انساقها المعرفية من خلال تمييز مضامينها ومعانيها عبر مسطرة الآيات المعيارية من غيرها،دون أن نضمنها تلك الإكراهات والمسبقات المذهبية والذهنية التي حولتها من قيمة قرآنية محمودة،إلى قيمة مذهبية مذمومة تنفي الأخر جملة وتفصيلا.والغريب أن تقع ثلة من رموز ومنظري هذه المدونات ضحية لما سطروه من إكراهات ومسبقات مذهبية ضد الرأي الأخر وقيم الحريات.ونأخذ لذلك بعض الأمثلة في المقالات القادمة،وقديما قيل:بالمثال يتضح المقال!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 155-Al-Baqarah


.. 156-Al-Baqarah




.. 157-Al-Baqarah


.. 158-Al-Baqarah




.. 159-Al-Baqarah