الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجامعة في تلك الايام

توفيق التميمي
كاتب وباحث في شؤون التاريخ والذاكرة العراقية

(Tawfiktemimy)

2008 / 4 / 29
التربية والتعليم والبحث العلمي


وزيرالتعليم العالي بلا تعليم عال
في ذكرى اليوبيل الفضي لتاسيس كلية الزراعة في جامعة بغدادفي منتصف ثمانينيات القرن السابق حضر لرعاية الاحتفال سمير الشيخلي بصفته وزيرا للتعليم العالي وكان بلا تعليم عال او واط.
تجلت المفارقة الصارخة بجلوس مجموعة من الاساتذة والعلماء من حملة الشهادات العليا في المقاعد الامامية من قاعة الاحتفالات وكنت الاحظ علامات السخط واضحة على ملامح هؤلاء الاساتذة وهم يندبون حظهم العاثر والمقادير المقلوبة التي جعلت احد شقاوات بغداد واسافلها وزيرا عليهم بلحظة تعبر عن انطفاء وهج انوار الجامعة وانحدارها المريع في وحل الادلجة ومشيئة الهمجية التسلطية.
كان ذلك المنظر المحزن والمؤلم دليلاً على ما وصلت اليه الجامعة من ازمة وفضيحة بعد ما كانت صرحا علميا عالميا بارزا عندما اثبت الاستاذ العراقي المتخرج منها حضوره العلمي المتميز ومكانته المشرفة في جامعات العالم كلها.
في تلك الحقبة كانت الجامعات العراقية تزخر بالطاقات العلمية والكفاءات التدريسية التي حملت شهادتها من ابرز الجامعات العلمية في العالم ولكنها آثرت العودة لوطنه بعد ان تركت اغراءات البقاء في تلك البلدان وراءها من جنسية وثراء واستقرار امني واقتصادي لتقايض ذلك برد الوفاء لوطن الاباء والذكريات ولما جاؤوا حالمين بتحويل طاقاتهم وشهادتهم الى واقع ينهض بالمجتمع وينجب مزيدا من الطلاب النجباء والباحثين في شتى مجالات المعرفة والعلم.ولكنهم واجهوا بخسا لقدراتهم واغماطا لشهادتهم العلمية وتجاهلا لدورهم العلمي والاخلاقي وامتهانات متواصلة وظلم فادح لحق بهم لتنتهي هذه المهزلة بتوزير احد ابرز اشقياء بغداد وزيرا للتعليم العالي .

الرعب وعسكرة المجتمع
لم تكتمل بهجة الطلاب في حلمهم بسعادة منتظرة في الجامعة التي ستفتح لهم ابواب المسرات والصداقات الجدية وحلم الحبيبة المنتظرة.
كانت تلك الاحلام تتحطم على صخرة الواقع الذي استبدل لون الزي الموحد الجميل وممر العشاق الطلابي الاخضر بلون الخاكي وفوهات البنادق التدريبية فاصبح التبعيث الاجباري والعسكرة الالزامية والتهديد بهما فصلا او اعتقالا سمة الحياة الجامعية التي استقبلتنا مع شرارات جحيم الحرب الكارثية التي شنها النظام الصدامي على ايران .
فظلت تلك الايام من سني الجامعة الاولى ملتصقة بوقائع حربية لن تزول من الذاكرة فامتدت ساحات القتال الى حدائق العشاق لتتحول الى ساحات للتدريب الجيش الشعبي الطلابي واقتحمت الوحدات المقاتلة حرم الجامعة فاطلقت صواريخها المرعبة من بين اشجار وممرات العاشقين.
وان كانت الحرب وجه من ذاكرتنا الجامعية الثمانينية فأن الرعب وهاجس الاعتقال كان الوجه الاخر لتلك الايام أذ أندس الجاسوس الامني والواشي السري بين مصاطب الطلاب وترصد اقوالهم وتعقب همساتهم في كل مكان في غرفة القسم الداخلي وممرات الجامعة وخلوة العشق السرية.
انتحل الجاسوس صفة الطالب وارتدى زيه الموحد وانتحل الشهادة العلمية وزور وثائقه برعاية الدولة ومباركة اجهزتها القمعية ليبرع في نصب الافخاخ والشراك للابرياء منهم فتحولت ايام الجامعة الوردية وفضاءاتها البنفسجية الى لوحة كالحة من الخراب ولقطة مرعبة تكاد تتكرر يوميا من الاختطاف والاعتقال السري تارة والعلني تارة اخرى.
لازلت اتذكر وجه الطالبة نازك التي فرت مهرولة في رواق القسم من قبضة زوار الليل البوليسي لتنتهي اسيرة في سياراتهم المعتمة واخر يقوده عصابات الامن معصوب العينين ببيجاما النوم الى المجهول الذي لن يعود منه مطلقا.
وكنت مصعوقا وانا اشاهد تلك الطالبة المحجبة البيضاء مكبلة ومحاصرة بين قبضات وحشية وهي تصرخ وتستغيث بركاب العبارة النهرية لينقذوها .
وبتوالي هذه الصور وتعاقبها وتكرارها اليومي ما عادت الجامعة حلماً وردياً يسعى اليها طلاب الاعدادية
ولم يعد تحصيل العلم هدفا اوغاية ولانيل المطالب بالتمني كانت الجامعة مجرد وقت هلامي تخترقه فصول من الرعب والعسكرة يقضيها الطالب مجبرا لتأجيل التحاقه في مواكب الموت المرتقب في حرب ستطول وتاكل المزيد من الطلاب الخريجين وسواهم من الفئات الاخرى.

استاذ جامعي ينتصر على (طه الجزراوي)
لايمكن ان يهمل ذلك الدرس الذي حصل في احدى القاعات الامتحانية ونحن نؤدي الامتحان النهائي للسنة الجامعية الاخيرةعندما قبض احد الاساتذة على طالب متلبس بحالة من الغش الامتحاني فلم يكن امام الاستاذ الا احالة الطالب الى لجنة تحقيقية وفصله بالمادة وفقا لما يمليه ضميره الوطني والضوابط الاخلاقية المقدسة للتعليم الجامعي التي تلقاها من وطنيته ونزاهته وتربيته اراد الاستاذ بذلك الثأر لهيبة الاستاذ والامانة العلمية في انزال اقسى العقوبات لذلك الطالب الغشاش لذا فكانت القضية قضية امانة ومسؤولية باطار عام وليست ثاراً شخصياًَ بين الطالب والاستاذ وبدلا من ان تقدر سلطة الجهل هذا الموقف للاستاذ وتكافئه على تلك الامانة ارسلت اليه التهديدات تلو التهديدات ليتنازل عن شكواه ضد الطالب الذي كان ابنا لاحد الضباط الكبار وجارا لطه الجزراوي نائب الرئيس السابق تعرض الاستاذ المذكور الى الضرب المبرح من قبل عصابة الحماية الشخصية للجزراوي ومن ثم تهديدا بالتصفية الجسدية.
لم تزد ذلك في الاستاذ الاعنادا وثباتا على موقفه الذي سيتحدث به الطلاب طويلابعد تخرجهم رمزا للاستاذ الرصين والمسؤول ازاء سلطة غاشمة بربرية.
اعتقد ان الاستاذ قد يكون غادر العراق الان بسبب حملة الاغتيالات للكفاءات العلمية اوبسبب ضغوطات اقتصادية او اجتماعية طالما تعرضت لها النخب العراقية ولكن صلابته مكثت في الذاكرة لمعركة انتصر فيها رغم الكدمات التي رسمتها قبضات الجلاوزة الوحشية على وجهه ونالت من شيبات وقاره لتفضح هوية السلطة الحاكمةورموزها البربرية الذي دخلوا لبوابات القصر الرئاسي عرفاء في الجيش وبائعو ثلج وقاطعو تذاكر مع احترامنا لهذه الشرائح المسحوقةوتلك المهن الشريفة .

درس الثقافة القومية
احد الافخاخ والمصائد المنصوبة من قبل مؤسسة التبعيث هو فرض درس ((الثقافة القومية)) على مفردات المنهج الجامعي لجميع مراحله حيث اهدت النقاشات التي كانت تثار بين الطالب والاستاذ المتخصص بالمادة اعدادا من الطلاب الى اروقة الامن العامة وعادة ما يكون استاذ الثقافة القومية اما ضابطا بوليسيا متقمصا لجبة الاستاذ الجامعي او خريج لمعاهد ابتكرتها مخيلة السلطة لتشويه حملة الشهادات العلمية الحقيقية كمعهد القائد المؤسس ومعهد التاريخ العربي وهي معاهد مستحدثة لتصدير بعض من حملة الشهادات المزورة امتيازها الوحيد الولاء للسلطة والالتزام بما تمليه عليهم من التزامات وواجبات وتمثيلها لها في درس الثقافة القومية الذي يجمع الطلاب على كراهيته والقرف من مدرسيه اصحاب الشوارب الكثة والبدلات الزيتونية.
لم تكن الثقافة القومية قومية حقا بل كانت تكريسا لثقافة عبادة الرئيس وتأليه وترسيخ ثقافة القائد الضرورة الذي ابتكره مؤلف كتاب المؤتمر القطري التاسع الذي اصبح مادة لها في جميع المراحل الجامعية والتي ينسب فيها صدام لنفسه كل منجزات الثورة وانطلاقها وتاريخ العراق الوطني وينتحل فيه مواقف ويختلق وقائعه في سبيل تمجيده وعبادته كانت الثقافة القومية في غايتها المبطنة فرصة لاكتشاف المعادين من الطلاب لخط الثورة ونهج رئيسها القائد الضرورة وايجاد الاعذار والمسوغات لاعتقال المزيد من الطلاب الرافضين للانضواء والتبعية تحت جناح وهيمنة السلطة واتحادها الطلابي ومنظماته الحزبية سواء أكانوا مستقلين أم من التيارات اليسارية او الاسلامية.
فكان ذلك الدرس هو واحد من المحطات السوداء التي شهدتها فصول الانحطاط في تاريخ الجامعة.
لاجدوى من الاسترسال بدروس انحطاط اخرى من تلك الايام والتي شملت سوقاً لبيع وتداول الاطاريح الجامعيةواقتصار البعثات لرجال الامن والعشيرة الحاكمة واستيزار وزراء متخلفين الخ.

لماذا هذا الاستذكار؟
لرب قائل يقول ما جدوى هذا الاستذكار بعد كل هذه السنوات وهل ما تشهده الجامعة اليوم من تهجير للاساتذة واستهداف لحياتهم وتدخل سافر في شؤون الجامعة من قبل احزاب وعصابات وميليشيات هو افضل من الوقائع والذكريات التي رويتها هنا والتقطنا منها نماذج وصورا وامثلة.
هل انتهى ذلك الخراب بنهاية السلطة الجاهلة والوزراء المغفلين البرابرة هل عاد ت هيبة الجامعة ومكانتها العلمية بسقوط وثن الدكتاتورية ورمزها المتخلف وهل انتهت قصةتوزير وزير تعليم عال بلا تعليم عال كان ياتي بالسابق من تزكية الدكتاتور وياتي الان بتزكية محاصصة الاحزاب الجديدة دون اعتبار للمكانة والكفاءة العلمية.
كلها اسئلة مشروعة وواردة على ضوء ما تشهده الجامعات اليوم من وقائع غرائبية ولقطات عجائبية ولكنها مجرد امنية على عتبات الاحتفال بيوم جامعة بغداد العريقة بان نسعى جميعا للتخلص من خطايا تلك الايام السوداء وجرائمها بحق الجامعة ورمزيتها وقدسيتها لتعود من جديد صرحا مستقلا يورد رسل المعرفة ويخرج بناة المجتمع الجديد وساسته وعلماءه وشعراءه ومدرسوه
وعندما نغلق فصول التبعيث الاجباري ونمسح ذاكرة الايام الخاكية ومعسكرات الجيش الشعبي من ذاكرة الجامعةونحرق تقارير الوشاة الكاذبة التي القت بالمئات من الطلاب الابرياء في دهاليز الموت والغياب الابدي فاننا نكون بصد كتابة تاريخ جديد ومغاير لتلك الايام .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر أمني: ضربة إسرائيلية أصابت مبنى تديره قوات الأمن السوري


.. طائفة -الحريديم- تغلق طريقًا احتجاجًا على قانون التجنيد قرب




.. في اليوم العالمي لحرية الصحافة.. صحفيون من غزة يتحدثون عن تج


.. جائزة -حرية الصحافة- لجميع الفلسطينيين في غزة




.. الجيش الإسرائيلي.. سلسلة تعيينات جديدة على مستوى القيادة