الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القوة الخلاقة للرعب و التمرد في كتابة هنري ميلر

محمد سمير عبد السلام

2008 / 6 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في دراسة هنري ميلر عن رامبو ، و المعنونة ب The Time Of The Assassins و قد ترجمها للعربية الشاعر سعدي يوسف بعنوان رامبو و زمن القتلة – هيئة قصور الثقافة المصرية – تذوب الحدود بين دراسة الأدب و التأويل الإبداعي للتاريخ ، و اللحظة الحضارية ، و السيرة الشخصية بوصفها نصا في حالة صيرورة لا يمكن اكتمالها أبدا .
إن كلا من التاريخ و الثقافة و النص علامات مرنة ، قيد التشكل في وعي ، و لاوعي الناقد ، بل في وجوده الواقعي الذي يقع في إغواء النص .
تحتفي كتابة ميلر – إذا – بالحرية في الوقت الذي ترتكز فيه على بؤس الجحيم ، و عبثيته التي صارت نقطة بداية للإحساس بالوجود في العالم .
و مثلما يلج العصر الحاضر مملكة الجحيم بين النص ، و ما بعد النص عند هنري ميلر ، فإن الجحيم النصي عند رامبو يمتد من خلال محاكاة الواقع نفسه لعمليات التكرار ، و الاستبدال في الكتابة ، فقد تقاطعت كتابة ميلر الإبداعية – النقدية مع سيرة رامبو و نصه ، و الواقع الذي صار تشبيها انتشاريا لرموز الشر التي انفلتت دون كابح من الكتابة ، و تاريخها الخاص ؛ فنستطيع الآن أن نسمع صوت ميلر في تبشيره بالرعب الهائل ، و تواصل حالة التشرذم أو الانقسام الذاتي التي رصدها منذ نهاية القرن التاسع عشر عند دوستوفسكي و نيتشه ، و رامبو ، فضلا عن ذلك فقد تجاوزت كتابة ميلر الحدود بين النقد ، و الإبداع ، و التأويل الثقافي . هذه الكتابة التي نجد لها صورا مختلفة عند نيتشه ، و هيدجر ، و باشلار ، و بارت ثم جاك دريدا ، و هارولد بلوم .
الكتابة النقدية هنا هي نوع من الحدوث الفريد ، يتجاوز عمليات الإدراك ، و التحديد ، و القولبة النصية ، إذ تظل تداعياته مختلطة بالواقع الثقافي ، و تجدد مآسي التمرد الشعري ، و الاحتراق المتكرر في الجحيم النصي ، أو الحضاري .
و نستطيع أن نميز أهم ملامح هذه الكتابة الإبداعية في بعض النقاط ؛
أولا : حساسية تاريخية ، و نصية :
يعيد هنري ميلر اكتشاف صور رامبو ، و أخيلته ، و تناقضاته النصية من خلال التحول الحضاري المعاصر باتجاه مملكة الشر ، التي تقوم على الانقسام الذري المستمر ، و المتواصل للقوة البشرية ، فقد انتقل من جحيم رامبو إلى جحيم واقعي ، و ثقافي نقف على أبوابه بقوة تتجاوز آلهة العالم القديم . لقد امتصت قوة الانقسام في وعي و لا وعي هنري ميلر كل الإشارات التاريخية ، و السيرية ، و الأدبية في بروزها الإبداعي الفريد في المشهد ، و في هذا الانقسام الشرير المتواصل تزول الحدود بين الإنتاجية الإبداعية ، و صيرورة التأويل التاريخي ، و الأحلام المرتبطة بتجدد الموت في اللاوعي .
ثانيا : التحول الخيالي في أنا الناقد :
تتحول سمات مثل اليأس ، و التمرد ، و الرفض في حياة رامبو ، إلى طاقات متجددة في عالم ميلر الداخلي ، و يحاول من خلالها أن يكمل حياة رامبو من خلال الكتابة التداخلية بين الناقد ، و طاقات المبدع المتحولة فيه بقوة ، و يعترف ميلر بوجود تناظرات بين حياته ، و مسار رامبو في اتجاهين يكمل أحدهما الآخر ، و يزدوج فيهما النص بالتطور الروحي ؛ هما :
الأول : كتابة مسار رامبو الآخر ، الذي لم يحدث ، و يفترضه ميلر ، حيث يؤكد أن الموت لو لم يأت لرامبو في هذا الموعد ، لعاش حياة تأملية صوفية ، هذه الحياة التي تتفق مع توجه ميلر الفكري نفسه ، و كأنه يعيد كتابة رامبو من خلال تطور طاقات الرفض و الانقسام بداخله ، و نزوعها إلى تأكيد السخرية الممزوجة بصمت عبثي .
الثاني : معايشة ميلر للمصير الفعلي لرامبو ، فقد افترض أنه مات في نفس عمره ، و أنه صار نموذجا للإخفاق ، و اليأس ، و القذف .
لقد صار فعل القراءة هنا أدائيا ، و مقاوما للنزعة الشمولية باتجاه ديناميكية التخيل ، و استبداله للنماذج الأصلية ، و كأنه يتجاوز حدث الانسحاق من خلال دائرة التمرد التي ولدت الانسحاق نفسه في المبدع ، و الناقد .
هل يستشرف ميلر حياة افتراضية تتجاوز الجحيم ؟
أعتقد أنه يفعل ذلك ، فالتمرد عنده يملك قوة خلاقة تتجاوز الشخص ، بل يمكنها أن تبعثه في الآخر .
ثالثا : دلالات ثقافية متنوعة :
قرأ ميلر تناقض رامبو بين التمرد ، و الاستسلام التأملي للموت من خلال الإشارات الثقافية المتنوعة لكريشنا ، و الشيطان في قصة الخلق ، و صورة الهيدرا في التراث اليوناني ، فحالة الانفصال عند كريشنا تتفق مع تأملية رامبو ، و استسلامه لغريزة الموت كما يرى ميلر ، و يرتبط كريشنا في التراث الجمعي بالاستسلام الأخير للعنة ، و غموضه ، و قوته الروحية ، و تمرده الممزوج باللا عنف ، و يتفق مع الشيطان في قبوله السري لقوة الموت في كبريائه ، أما الهيدرا ، و هي وحش ذو تسعة رؤوس لا يمكن قتله ، فهي القوة السلبية التي يرصدها ميلر ، و قد تركت رامبو في حالة تحد ، و عجز .
إن ميلر يعيد إبداع حالة السلب عن طريق تجددها الثقافي ، و تنوعها ، و انتشارها كطاقة خلاقة للعقاب ، و الجحيم ، و تجدد الوعي بالهلاك في أكثر من ثقافة ، و تتجدد إشارات ميلر الثقافية عن طريق التحامها الأول بطاقة النبذ الكامنة في رامبو مثلما التحمت بعالمه الداخلي من قبل .
رابعا : استباق و تأجيل :
يرى ميلر أن جحيم رامبو لم يتعمق بالقدر اللازم فشوي في المدخل ، و من ثم فقد انتصر من خلال الإخفاق ، ثم يؤكد أن الروح المتعطشة بداخله هي التي انتصرت .
لقد استبق ميلر الموت ، و الجحيم ، و الحياة ، و رامبو نفسه ، لكي يظل كل شيء في حالة تأجيل متضمنة في لذة الاحتراق بوصفها موتا أو وجودا شبحيا ، أو وهجا للغياب حين يشكل الهوية النصية الزائفة بوصفها أصلا خفيا للتكوين .
خامسا : رامبو الآخر :
على طول الكتاب يرصد ميلر جحيم الانقسام عند رامبو ، و ارتباطه بحالة الانفجار الحضاري باتجاه الشر ، ثم يقوم بعملية توحد سري بمستقبل رامبو في هذه الكتابة التي تطمح أن تبعث تمرده ، و رعبه من جديد .
و تظل حالة الانسحاق الإنساني في وعي ميلر مجددة للعبث ، و التمرد ، و العقاب ليس كحل نهائي ، و إنما كطاقة واقعية ، و نصية معا ، يقول عن الإنسان المعاصر :
" إن الرعب الذي يعرفه يتجاوز كل رعب عرفه أهل العصور السابقة ؛ ذلك لأنه يعيش في عالم غير حقيقي ، محاطا بالأشباح ، و ليست لديه حتى إمكانات الفرح التي كانت لعبيد العالم القديم " . ( راجع – ميلر – رامبو و زمن القتلة – ترجمة سعدي يوسف – هيئة قصور الثقافة بمصر ص 100 ) .
لقد انفتحت الهوية على الفراغ ، و انتشر رامبو في الآخر ، و صار الجحيم ذريا لا يمكن السيطرة عليه ، و ذلك لأنه اتخذ في وعي ميلر بعدا تاريخيا حضاريا ، و انفجر خارج النص ، و كتابة الناقد معا .
محمد سمير عبد السلام – مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟


.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على




.. شهداء جراء قصف إسرائيلي استهدف منزل عائلة الجزار في مدينة غز


.. قوات الاحتلال تقتحم طولكرم ومخيم نور شمس بالضفة الغربية




.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية