الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فقهاء ولكن..!

نذير الماجد

2008 / 7 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يتمتع الفقيه في الأصولية الإسلامية بسلطة مطلقة على التابع/المكلف تفرضها إلزامية الفتاوى التي يصدرها. تلك الفتاوى التي تجعل الإنسان منفعلا أمامها في علاقة قهرية تعبدية تشمل وتستوعب السلوك ضمن لوائح قانونية متشعبة، ورغم المسار الطويل للفقه الشيعي وتطور آلياته ومصادره وتشعب مدارسه إلا أنه يبدو في رأي الباحثين الذين يملكون أقل قدر ممكن من الحياد المعرفي فقها مغلقا يفتقد روح الاجتهاد والقدرة على تجاوز النص..

هذا الفقه ورغم مساره الطويل لم يتمكن من إحداث تطور ملموس كالذي أحدثته فترات الازدهار الفقهي الناتج عن توظيف التراث الإغريقي العقلاني في القرن العاشر والحادي عشر وهي الحقبة التي يصفها أكثر من مؤرخ بألمع حقب التاريخ الإسلامي في الحراك الفكري المرتكز على ترجمة التراث الدخيل، ومنذ ذلك الحين لم تحدث انزياحات معرفية ذات أثر معتد به في مسبقات الفقه وأصوله وبناه التحتية، ولكن ثمة خطوات مهمة على صعيد عقلنة الفقه كعلم الأصول والرجال والدراية تشي بتخلخل وانهاريات خطيرة في مجمل أو كل الموروث الديني وهو هاجس كانت نتيجته إفشال هذه الخطوات الرائدة بموازنة المنهج العلمي أو العلماني إن شئت بإجراءات أو ترضيات تمنع هذا الانهيار أو تحد منه.

بعد رفضٍ استمر لعقود طويلة نشأ علم الأصول على أسس ومبادئ ذات طابع عقلي وفلسفي اكتسحت الوسط الثقافي للمجتمعات الإسلامية آنذاك، لهذا كان الاجتهاد منفتحا على العقل ولم يكن متقوقعا داخل النص، وإن كان لازال يخضع لإكراهات النص إلا أن الأفق الأبستيمي آنذاك لم يكن يسمح بتجاوز تخوم النص وهيمنته لأن الفعل الاجتهادي والفقهي كان يستنبط أدوات نصية من داخل النص نفسه ويبلور شرعيته ومنطلقاته ومدياته من وحي التراث ذاته، ولم تكن للعقل مرجعية مستقلة بقدر ماكانت له مرجعية تابعة تدور في فلك الكتاب والسنة ولا تتعداهما.

والإشكالية وفق ما يحددها بعض المفكرين تكمن في الوطأة الثقيلة والحضور الطاغي للنص بسبب عامل بسيط هو امتداده الزمني الطويل الذي استمر لأكثر من قرنين هو ما يسمى في الأدبيات الشيعية بزمن الحضور أي حضور المعصوم وهو أعلى سلطة مرجعية في التشريع حسب الموقف المذهبي الشيعي، لهذا تأخرت فعاليات الاجتهاد الشيعي إلى ما بعد القرن العاشر الميلادي. وبعض الآراء تزعم بأن ثمة فعاليات اجتهادية حتى زمن النص، واستمرت مع "ابن الجنيد الإسكافي" الذي نظّر لمرجعية القياس والرأي في الممارسة الفقهية لكنه جوبه بردود فعل حادة من وجوه نافذة في التيار السائد آنذاك كالمفيد والمرتضى، ومع أن هذه الآراء تفسر ذلك بأسباب طبيعية وسياسية واجتماعية كتباعد البلدان والأوضاع السياسية الخانقة إلا أن هذه الحقيقة في حال تأكدت ستؤدي إلى نسف إحدى أهم الأساسيات التي يقوم عليها الفكر الشيعي كثوابت مذهبية لا يمكن تجاوزها، فماذا لو تساوت نصوص الأئمة في قيمتها الدينية مع نتاج معاصريهم الفقهاء من حيث دلالتها الاجتهادية؟!

أعتقد أن الأهمية لا تكمن في وجود هذه البذور الأولية للاجتهاد زمن النص، ولا إثبات حضور العقل في الفكر الديني وهو ما يعكس إصرارا أيديولوجيا لا يمكن تبريره على تحسين صورة الذات، لأن السائد حينذاك لم يتخط ما يسمى بالفقه الروائي المباشر قبل أن تقحم تعقيدات أصولية وتنظيرات مجردة وملتوية استمرت فاعلةً حتى العصر الحديث، على إثرها طرأت مفاهيم جديدة مغلقة ونهائية كمفهوم التقليد وهو رجوع المكلف للفقيه في أحكامه وأعماله، لكن هذه العلاقة بين الفقيه والمكلف تقوم على أساس ثقةٍ بهذا الفقيه أو ذاك تخوله بمباشرة مهمات الاجتهاد واستنطاق النص.

إنها في الواقع عملية إعارة من جهة وتعطيل من جهة أخرى للعقل والقناعة الذاتية، ومع ذلك فإن ثمة فكرة ضمنية راسخة في اللاوعي عند المكلف والفقيه معا تشترط صحة المباني والمدركات والمسبقات المعرفية التي يرتكز عليها الفقيه، فحينما يحسم الفقيه إشكالية الفن والغناء مثلا ليقول بحرمتها فليس على المكلف تتبع مسار الوصول لهذا الحكم لأن لديه كامل الثقة بمرجعه وبآليات الاجتهاد لديه، لهذا وبكل بساطة يهمني أنا كمطالب نظريا بالخضوع لهذه العلاقة أن تكون مسبقات الفقه صحيحة ومقبولة.... أما في حالة العكس فسوف تتهشم هذه الثقة وبالتالي تنهار هذه العلاقة ويتحول التقليد إلى تجهيل ووصايةً تعسفيةً على العقل!!

إن موضوع علم الفقه –كما يعرف الجميع- هو استنباط الأحكام من النصوص الشرعية بالدرجة الأساس لأن حضور العقل كما أشرنا حضور جزئي مهمته الأساسية المساعدة في استنطاق النص، فهو ليس أكثر من قراءة أو تفسير للنص الديني أي أنه مجرد محاولة لفهمه، ضمن قواعد محددة تجاوزتها الهرمنوطيقا المعاصرة.

هذه القواعد والأدوات التفسيرية التي تشكل القراءة التقليدية للدين تدور حول جملة مدارات حسب المفكر أحمد واعظي، فهي ترى أن لكل نص معنى محدد ونهائي وواقعي بالإمكان الوصول إليه دون الحاجة للمسبقات الذهنية والمعرفية للمفسر فالأصالة للمؤلف وليس المفسر، كما أنها لا تتمتع بحس تاريخي، ولا تؤمن بالتحول اللغوي بل ترى أصالة الثبات اللغوي وهو ما سينتج فقها مشوها ومهشما بالإسقاطات والمغالطات التاريخية واللغوية ذلك أن القراءة التقليدية لا تتموضع في السياق اللغوي والثقافي والاجتماعي للنص بل تمنح الأصالة للظهور المتبدي من النص لدى المفسر أو الفقيه إلا في حالة وجود معطيات مؤكدة تكشف حقيقة المعنى زمن الصدور.

ولأن هذه القراءة التقليدية تمقت نسبية الفهم فإنها تعتقد بشمولية الدلالة وتعاليها فوق التاريخ ، لذلك لا تعبأ كثيرا بالفاصل الزمني بين عصر الصدور وعصر المفسر وهذه أبرز الإشكاليات الهرمنوطيقية حول الفهم الدارج للنص الديني التي تجاهلتها هذه القراءة السائدة كما تجاهلت غيرها من التحديات والإشكاليات التي أثارتها الاتجاهات التأويلية والفلسفية المعاصرة.

فيما يعتقد المنهج التأويلي الحديث أن فهم النص عبارة عن حصيلة امتزاج وتلاقح بين المسبقات المعرفية للمفسر أو المتلقي و بين أفق النص، لهذا فالشرط الوجودي لحصول عملية الفهم هو إشراك ذهنية المتلقي، وهذا أمر قهري يستحيل من دونه إنجاز الفهم والقراءة، فالمخاطب في زمن الجاهلية لا يمكن أن يفهم السماء في القرآن -مثلا- كما يفهمه المخاطب المعاصر الذي منحته مسبقاته العلمية فهما أنضج للسماء أو لنقل جعلته يمنح المفهوم القرآني للسماء تأويلا أو تصورا مختلفا على الأقل. لهذا تبقى الحقيقة الدينية مفتوحة على شتى الأفهام والتصورات المتحركة، من هنا لا يرفض هذا المنهج تعدد القراءات الدينية إذ ليس هنالك قراءة نهائية يقف عندها النص ولا يمكن أبدا تحديد فهم موضوعي أو واقعي كما تزعم القراءة التقليدية الرائجة في الحوزات العلمية.

هذه التساؤلات والتحديات جديرة بأن يبحث لها الفقيه عن أجوبه حاسمة حتى لا يقع في تورطات ومطبات منهجية أو معطيات خاطئة من شأنها زعزعة ثقة التابع له، وعندها لن تجد نفعا تلك المفاهيم التي لازالت عالقة في العقل الشيعي كالأعلمية أو التقليد الذي هو ليس إلا رجوع الجاهل للعالم لرفع الجهل وليس تكريسا له أو تغطية عليه.

التعامي عن هذه التحديات والإشكالات ودس الرأس في وحل الأيديولوجيا هو الذي جعل الفقه متهافتا منكفئا على الذات بذرائع واهية كالخشية على ضياع "الدين" أو انهيار الأحكام والمدونات القانونية الملزمة التي أوجدها "السلف"، فحتى محاولات النقد على المستوى الداخلي والتي لا تتجاوز الآليات الأصولية والفقهية ذاتها التي لازالت سائدة في الحوزة يتم إبطال مفعولها بمقولات كابحة كالشهرة والاحتياط والسيرة المتشرعة والسيرة العقلائية الممضاة من قبل سلطان النص نفسه، وبهذا لن يكون الفعل الاجتهادي إلا اجترارا لمقولات موروثة و ربما متهاوية مستمدة من قداسة السلف وأطروحاتهم التي لا يمكن أن تعمم في القرن الواحد والعشرين، لهذا كله أصبح الاجتهاد تقليدا والفقيه المجتهد مقلدا تابعا يعيد إنتاج ما توافق عليه فقهاء "السلف الصالح"..

كان أحد الفقهاء القدامى يفتي بحرمة احتساء القهوة لورود رواية في حرمتها ولم يدر في خلده أن المقصود من الرواية ليس القهوة المحضرة من البن لسبب واحد فقط هو عدم وجودها أصلا في ذلك الزمن، هذا مثال بسيط يؤكد غياب الحس التاريخي عن هذا الفقيه، لكن الخشية أن تكون مجمل الفتاوى الحاضرة هي أيضا على هذا النسق، والفقهاء هم أيضا هكذا… !









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال


.. قطب الصوفية الأبرز.. جولة في رحاب السيد البدوي بطنطا




.. عدنان البرش.. وفاة الطبيب الفلسطيني الأشهر في سجن إسرائيلي


.. الآلاف يشيعون جـــــ ثمــــ ان عروس الجنة بمطوبس ضـــــ حية




.. الأقباط يفطرون على الخل اليوم ..صلوات الجمعة العظيمة من الكا