الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف ودوره في إحداث التغيير

نجيب غلاب

2008 / 7 / 8
المجتمع المدني


المثقف عادة ما يحدد موقفاً عقلياً من الأحداث التي تدور حوله؛ بمعنى أنه يتعامل مع الحدث بطريقة إيجابية تخدم التغيير ويحكم عقله في الفهم والتفسير، والمثقف عادة ما يتحرك في ظل رؤية متكاملة واضحة يحددها مشروع فكري، وخلال تفاعله مع واقعه يعيد بناء المشروع باستمرار،
وفي حالة ضعف المشروع أو عدم وجوده فإن حركته الدائمة لمواجهة قضايا الواقع تمكنه من صياغة مشروع يناضل من خلاله، وفي هذه الحالة فإن المثقف يواجه مصاعب لا حصر لها، خصوصا إذا كان يعمل في بيئة متخلّفة وتحتاج إلى تغيير جذري وشامل على كافة المستويات. والمثقف الأصيل صانع الفكر والباحث عن التجديد والتحديث يكون أكثر قدرة على التفاعل مع الواقع، وعادة ما يعمل على توجيهه نحو مسارات التغيير كلما عانى هذا الواقع من التردي والسوء وأصبحت إشكالاته معقدة ومتراكمة ومحاطة بالشدة والضيق.
والوضع الرديء يحدث تململاً وتتولد رغبة لدى جزء من أعضاء المجتمع في تحريك الركود، وكلما كانت حركة المجتمع مستندة على العقل فإن تحولات إيجابية تحدث في بنية الواقع، ويصبح التغيير حتمياً، فالأزمة عندما تبلغ شدتها درجة فقدان الواقع قدرته على التحمل والصبر فإما أن يموت أو أن يبعث بخلق جديد.
هنا يقف المثقف في نقطة مفصلية فإن غلبته عاطفته وشعوره أو غلبته الايديولوجيا وحدد مواقفه على شعور وعاطفة غامضة وايديولوجيا متعالية وتجاوز عقله فإنه يخلق الأزمات المتلاحقة لواقعه ويعيق حركة الناس من إحداث التغيير. وهنا إما أن يتجاوز الواقع المثقف غير العقلاني ويعزله وينبذه ويتغير غير آبه به لصالح المشاريع البديلة، القادرة على الاستجابة للواقع وحاجاته، أما في حالة انعدام المشروع فإن المثقف في حالة استمراره في تجاوزه للعقل فإنه يزيد الواقع سوءًا ويدخله في أزمات متلاحقة لا تنتهي إلا بظهور مثقف بديل قادر على استخدام عقله وتوظيف الأزمة لخلق المشروع المتوائم والمستجيب للواقع.
متى يتجاوز المثقف العقل؟
عندما تسيطر عليه مقولاته التي صاغها بالاستناد إلى أيديولوجيا متعالية عن الواقع وأزماته وتحولاته، فإنه إن امتلك سلطة القسر والقهر كأن يكون حاكماً فإنه يعيق الواقع من التغير الطبيعي، وإن كان خارج الحكم ولا يملك إلا سلطته المعرفية فإنه يحول المعرفة التي يملكها إلى حجاب يزيف الواقع لصالح مقولاته وقيمه ومبادئه المؤدلجة، وهذا المثقف ليس نتاج الواقع الذي يتحرك فيه، ولكنه نتاج واقع آخر من ناحية فكرية ويحاول ان يتفاعل مع الواقع بمنتج فكري مختلف فيعمق الأزمة ويزيد من شدّتها. هذا المثقف قد يحمل فكراً حديثاً أو قديماً لا فرق فالنتيجة واحدة.
عندما تتحكم العاطفة أو المصالح الأنانية بالمثقف، حتى المثقف الأصيل قد يقع في هذه الورطة عندما يستسلم للواقع وتناقضاته ومشاكله، فإما أن يصارع بعقلية محكومة بالعاطفة ضد طرف ومتحيزاً لصالح طرف آخر، أو ان يصارع من أجل مصالحه الذاتية وتصبح العاطفة أو الأنا الفردية حاكماً لفكره وشعوره، في هذه الحالة لا ينتج المثقف مشروعاً وإنما ينتج رؤى غاضبة ومتحيزة، ومشاريع انتهازية.
المثقف الحقيقي من يكون نتاج واقعه أي نتاج تاريخ المجتمع وتحولاته، ويحمل رؤية تغييرية تحكم حركته وينتج فكراً مقاوماً للقوى المضادة للتغيير والتجديد، ولأنه كذلك فإنه في المراحل الأولى يدخل في صراع مع واقعه، ويصبح المثقف الأصيل عدو الجميع، لأنه يتحدى فكراً وسلوكاً طال أمده في المجتمع، فأصبح جزءاً من تكوينه ومن الصعوبة التخلي عنه بسهولة، وهو صديق الجميع لأنه يطرح رؤية جديدة تعبر عن طموح الناس وتطلعاتهم، خصوصاً القوى الجديدة المتعلمة، وعندما تنضج قوى التغيير يتحرك المجتمع ليحمل الجديد بسهولة ويسر.
المثقف يكون قادراً على تغيير الواقع بتفاعله معه واندماجه فيه حتى يصل إلى درجة الانسجام مع المجتمع بفهمه الفهم الصحيح، ولابد للمثقف الأصيل أن يعيش في عمق أزماته ويشعر بمشاكله وقضاياه هذا من جانب، ومن جانب آخر لا بد من المفاصلة مع الواقع في الوقت نفسه، مفاصلة تجعله قادراً على الخلق والإبداع وتجاوز السلبيات، فالمثقف التغييري مع الكل وضد الكل في الوقت ذاته، وهذا يجعله متحرراً إلى درجة الاستقلال التام عن ضغوط المجتمع وضغوط الحكم والمعارضة، وهو بالضرورة متحرر من الايديولوجيا والعاطفة السلبية.
وحتى يكون المثقف أصيلاً لا بد أن يحكم عقله ومبادئه وقيمه، لا أنانيته ومصالحه الآنية، لأن ذلك يجعله قادراً على امتلاك زمام المبادرة، ويجعله قادراً على مجاهدة نفسه لفهم حركة المجتمع من حوله بالاستناد إلى رؤية فكرية أنتجها العقل، وهذا العقل بالضرورة لا بد أن يكون عقلاً لا يتحرر من واقعه التاريخي، بل يعيد إنتاجه بصورة جديدة، بما يتوافق ومشاكل الحاضر وطبيعة المستقبل كما تبدو ملامحه في المشروع الفكري الذي يتحرك فيه المثقف، بل إن المثقف الأصيل قد يؤسس لمشروع جديد منبثق من حركة المجتمع وتحولاته.
وعادة ما يسهم المثقف في تفكيك الأزمات التي تأخذ بخناق المجتمع فتعصر المثقف وترهقه ومن مخاضاتها يخلق أزمات جديدة، لكنها أزمات إبداعية فريدة تسهم في التغيير والبناء والتعمير، ولكن مشكلة المثقف أن عذاباته تزداد مع المقاومة التي يحمل لواءها القدماء وعتاولة الفكر القديم وأصحاب المصالح الذين يرون في التغيير نهاية لمصالحهم، لكن هذه المقاومة هي التي تشعل فيه أنوار البحث عن الحقيقية.
التغيير الجذري أم الإصلاح
في المجتمعات الحية تخلق الأزمة مثقفيها وهم من يحدد مسارها إن تفاعلوا معها بالعقل والقيم الجديدة، فمثقفو الثورة اليمنية مثلاً خلقتهم الأزمة التي كان يعيشها الواقع اليمني في ظل حكم متناقض مع القيم العصرية واستعمار مستغل ومناقض لفكرة الحرية وتقرير المصير، فكان مشروع الثورة والقيم التي أسست لها ضرورة لإحداث التغيير الجذري والشامل، فالواقع أصبح من السوء بحيث أصبح الإصلاح الجزئي غير مجدٍ.
والمثقف يؤسس للتغيير الجذري عندما يصبح هناك إجماع شعبي وقوى مثقفة في المعارضة وداخل منظومة الحكم تملك مشروعاً بديلاً واضح المعالم حتى في خطوطه الرئيسية، وهذه القوى غالباً ما تكون قادرة على فهم المزاج والرغبة الشعبية وحاجتها للتغيير.
ونؤكد هنا أن محاولة المثقف إحداث التغيير الجذري في واقع بحاجة إلى إصلاح وتفعيل لمشروع أصابته الانتكاسة بفعل صراعات المصالح فإنه إنما يدمر الواقع ويؤسس لفتنة تعمق الأزمة وتصبح مزمنة وتولد قيماً مناقضة للتجاوز، وتكون النتيجة توالد أزمات مركبة ومعقدة تخلق معها من يخلق ثقافة تحميها.
والمثقف الباحث عن التغيير الخادم للواقع لا يستسلم لواقعه أبداً حتى في حالة اقترابه من المشروع الذي يحلم به، فالمثقف يسعى دائماً لتغيير الواقع، وهذا موقف عقلي وواقعي، فالمثقف الأصيل دائما محكوم بنسق فكري مثالي وغير متعال عن الواقع ولكنه يشكل للواقع حلماً ونموذجاً.. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المثقف قد لا يتجاوز الأزمة مهما بلغت أصالته، فالمثقف قد يفهم ويحلل واقعه بطريقة عقلية، ويكتشف أسرار التحولات، ولكن الواقع بإشكالاته المتراكمة يبلغ درجة التعقيد، بحيث تصبح رؤية المثقف رغم قوتها ونضجها وقدرتها على فهم الواقع، عاجزة عن إحداث التغيير، لأن الواقع يتركها بعد ان وصل الحال إلى درجة من السوء هي أقرب للموت، ولكن المثقف لا يموت بل يظل نبراسا خادما للتطور الفكري لمن يأتي بعده، ويشكل العلامة ابن خلدون خير مثل للمثقف المبدع الذي جسد أعلى مراحل تطور العقل الإسلامي في التفكير المستند على منهجية عقلية واضحة المعالم، ولكن الواقع بلغ من السوء بحيث يصبح عاجزاً عن التعامل مع المثقف.
وربما تعود المشكلة أن العلامة ابن خلدون لم يضع مشروعاً لكن التفسير الذي اتبعه في فهم التاريخ كان المقدمة لمن سيأتي لرسم معالم مشروع ناضج ومتماسك، ويمكن القول أيضا إن المنهجية العقلية في التفسير والفهم والتحليل حملت في طياتها مشروعاً عظيماً لو تم التعامل معه بشكل صحيح لكانت مشاعل الحضارة الحديثة التي يحملها الغرب بأيدي العرب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس: المرسوم 54.. تهديد لحرية التعبير ومعاقبة الصحافيين بطر


.. الجزائر وليبيا تطالبان المحكمة الجنائية الدولية باعتقال قادة




.. إعلام محلي: اعتقال مسلح أطلق النار على رئيس وزراء سلوفاكيا


.. تحقيق لـ-إندبندنت- البريطانية: بايدن متورط في المجاعة في غزة




.. مستوطنون إسرائيليون يضرمون النار في مقر وكالة الأونروا بالقد