الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نعمة الشيخ فاضل(أبو سليم) لا زلت حاضرا

نجم خطاوي

2008 / 7 / 9
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


سرت رجفة ومشاعر حزن غريبة في جسدي وأنا أذرع (جادة المشروع) في مدينتي( الكوت), حاثا الخطى نحو البيت الذي ظننت بأني سوف لن أخطأ مكانه. كنت أتطلع كالغريب لكل الصور والمناظر الجديدة والغريبة التي لم تألفها العين, والتي غيرت ملامح هذه المحلة الجميلة (المشروع).
قلت سأذهب وحدي دون أن أسأل أحدا وأطرق الباب, ولكن ظني خاب, فقد عرفت المكان وتذكرته, لكني خشيت أن أطرق باب الجيران بدل الباب التي أريد طرقها, واستعنت بمن دلني, وطرقت الباب.....
هل هذا منزل الشيخ فاضل ؟
نعم.
أجابني الفتى في ارتباك.
أنا صديق قديم لعمك( نعمة), جئت للسلام عليكم...
وتركت الدار بعد أن أخبرني الصبي بأن لا أحد فيها ساعتها. وواصلت سيري وعيون أصحاب المحلات تتطلع في, تريد تحديد الهدف الذي دعاني للسؤال عن هذه الدار, خصوصا وأن شكلي ووجهي الذي لم تحرقه الشمس يقولان بأني غريب, وهو وجه لم يروه منذ خمس وعشرين عاما.
لقد تعرفت على الشيخ فاضل (الروزخون) وقارئ المنبر الحسيني, قبل أن أتعرف على ابنه الشيوعي( نعمة), والذي صار بعدها صديقي ورفيقي في الكفاح الأنصاري, وعشت معه الشهور الأخيرة بكل تفاصيلها, تلك الشهور القصيرة التي سبقت استشهاده في الأول من أيار 1983, تاركا الألم والحزن والفقدان, وسط قلوب كل الذين عايشوه وعرفوه عن قرب.
لم أبلغ العاشرة يومها, ولكني كنت مواظبا على حضور جميع أمسيات شهر رمضان الكريم في دار جارنا الفلاح (حسن رحمن) في (عكد الخطاوية), الذي لا يبعد كثيرا عن مرقد ومزار( السيد نور) سوى خطوات قليلة. وقد جرت العادة أن يكون الشيخ الطيب (فاضل) ذو العمامة الخضراء و(الصاية) الطويلة, القادم من مدينة الحي للسكن في مدينة الكوت, هو الذي يحي المراسيم. وكان يبدأها بالنعي على مقتل الأمام الحسين, ثم يعرج بشرح أبيات من بعض القصائد التي قيلت في مدح أهل البيت, ليفسر بعدها بعض الآيات القرآنية, ثم ينهي المأتم بالنعي والبكاء.
كنت أبكي مع رجال المحلة بكل صدق, وأنا أنصت لكل كلماته, وأردد أحيانا الأدعية التي كان يتلوها, ومنه حفظت أبيات قصيدة الشاعر العربي الفرزدق الشهيرة في مدح الأمام علي .
لم أعرف يومها أحدا من عائلة هذا الشيخ, لبعد الدار الذي يسكنها عن حارتنا, لكن مرافقتي لمجالس العزاء التي كانت يحيها ظلت وتوسعت. فقد كانوا يدعوه أحيانا للخطبة في يوم الجمعة, أو لقراءة المأتم الحسيني في (جامع أبو الهوى), أو في (جامع الحاج عبود), وأحيانا في (الجامع الكبير) في محلة (الشرقية).
وأقول بأن هذا الشيخ كان معلمي الأول, وإليه يعود الفضل في توسيع معارفي ومساعدتي في مواصلة القراءة والبحث والتفكير في تلك القضايا والمسائل الدينية والفكرية في كل مرة أعود فيها من مجلسه.
وبعد بداية سيري في دروب السياسة, بعدت قليلا عن تلك الأماكن والمأتم, ولكني كنت قريبا منها, أتابع أخبارها.
وأذكر مرة أني قدمت إلى بغداد من مدينة الموصل التي ادرس فيها, قاصدا زيارة أهلي في الكوت, فالتقيت صدفة بمعارف وأصدقاء من مدينتي, وكانوا قد قدموا في موكب كبير لزيارة الأمام موسى الكاظم في بغداد, واشتركت معهم في اللطم بعد خلع قميصي والدخول مع الموكب, وكانت جريدة طريق الشعب في جيب بنطلوني الخلفي.
ويوم تعرفت على (نعمة) وعرفت طيبته ونزاهته, كانت صورة الأب وطيبته لا تفارقني.
بداية سبعينات القرن الماضي, سافر الشاب الشيوعي (نعمة) إلى مدينة البصرة لدراسة الهندسة, بعد سنوات الثانوية في (إعدادية الكوت), والتي فيها بالذات بدأ مسيرته النضالية في الكفاح ضد الظلم والجور, وهو الابن لتلك العائلة الفقيرة والكبيرة.
في مدينة البصرة واصل دراسته وكفاحه الطلابي, ليصبح بعدها وجها جماهيريا وسط طلبة الجامعة في كليته (الهندسة), والذين رشحوه ليكون ممثلهم في الانتخابات الطلابية.
وبعد بضع سنوات من الدراسة في جامعة البصرة, سافر الشهيد نعمة في زمالة دراسية لإتمام دراسته في تشيكوسلوفاكيا.
قبل سفره إلى تشيكوسلوفاكيا كان يزور مدينته الكوت في أيام العطلة الصيفية, حين يعود أبناء المحافظات نحو مدنهم. وقد جرت العادة أن يساهم الطلبة القادمون من المدن التي يدرسون فيها في نشاطات وفعاليات اتحاد الطلبة العام. وكان (نعمة) كادرا ومنظما ووجها طلابيا, عرف بنزاهته وتواضعه وإخلاصه.
في نفس صباح اليوم الذي طرقت فيه بيت الشهيد, جاء من يخبرني بأن بعض المعارف والأصدقاء يودون لقاءي في المدينة.
في المساء ذهبت, وكانت مجموعة من رفاق الحزب من شباب المدينة, من الذين لم تهزمهم كل صنوف القهر والرعب. ووسطهم لمحت الطيب طعمة ( أخ الشهيد ), وكانت كل تقاسيم وجهه شبيهة بوجه صاحبي (نعمة) الذي فقدته في فاجعة( بشت ئاشان) يوما.
رغم الظلام الذي لف المدينة بسبب فقدان الكهرباء, لم يبد شارع الكورنيش مظلما تماما كباقي الشوارع المدينة, لمحاذاته نهر دجلة, الذي لا زال يعكس الضياء جميلا من سطح ماءه.
جلسنا حول طاولة كبيرة في الساحة الأمامية لبناية نقابة المعلمين, وكان (طعمة ) أخ الشهيد يتطلع نحوي منتظرا ما سأقوله. وقد كانت لحظات صعبة وقاسية بالنسبة لي.
قلت:
لقد عرفت أبو سليم ( وكان اسمه هكذا في حركة الأنصار الشيوعية البيش مركه) إنسانا طيبا وشيوعيا في كل التفاصيل, حيث ربط حياته بقضية الشعب, موقنا بأن طريق الحزب الشيوعي العراقي, هي الطريق الأفضل, الذي يمكن أن يحقق أهداف الشعب, وقد فدى حياته وسنوات شبابه من أجل الناس والحرية.
كنت أعلم بأنهم لا ينتظرون مني خطابات, رغم صدق ما عبرت لهم, وكانوا ينتظرون التفصيلات التي يريدوها, وأكملت حديثي...
في عام 1979 وبالتحديد في 14 تموز حللت رحلي في مدينة براغ هاربا من جحيم الإرهاب, وقد وصلتها في المساء. وبعد السؤال أخبروني بأن العراقيين يحيون مناسبة ثورة 14 تموز في منطقة براغ القديمة وبالتحديد في مقهى ( الأوفليكا). وهو من الأمكنة الجميلة والتاريخية في مدينة براغ القديمة. أوصلني إلى مكان الاحتفال طالب من أفريقيا.
وكانت المفاجأة حين التقيت نعمة, وكان قد قدم من مدينة براتسلافا عاصمة القسم السلوفاكي مع مجموعة من زملاءه للمشاركة في الاحتفال, وكانت يومها مدينة تشيكوسلوفاكية.
بعد العناق والسلام والسؤال أقعدني نعمة إلى جانبه, وكان ضمن الحضور زميل آخر من نفس مدينتنا الكوت, ومعه زوجته التشيكية. ولا أطول عليكم السالفة, فقد أفسدت مساءهم بما قصصت عليهم من صور الرعب والمآسي التي لفت الوطن, بعد حملات البعث الهستيرية ضد الحزب الشيوعي العراقي أواخر 1978, خصوصا وأنا القادم إليهم من حارات الحيدرخانة وعذاب ومحنة الشيوعيين الذين اتخذوها يوما مكانا للعيش والتخفي.
خيم الصمت على الوجوه التي أتعبتها الأيام وهي تستمع لحديثي ونحن نشرب الشاي, ولمحت بعض الجالسين قربنا على الطاولات الأخرى وهم ينصتون للحديث, وعلمت من رفاقي في الجلسة بأن بعضهم كان يعرف الشهيد نعمة.
ومضيت في حديثي...
كان أبو سليم يدرس الهندسة في مدينة براتسلافا, وكنت ادرس الاقتصاد في براغ, وكنا أحيانا نلتقي حين يحضر للزيارة, أو لقضاء بعض الأعمال الحزبية والطلابية, وكان من كوادر منظمة الحزب في تشيكوسلوفاكيا. وقد كلف مرات عديدة بمهمات قيادية في منظمة الحزب, وفي جمعية الطلبة العراقيين هناك. وكان أهلا لكل هذه المهمات.
في صيف عام 1982 ترك نعمة دراسته الجامعية وقرر حسب إرادته وقناعته الشخصية, الذهاب إلى كوردستان العراق, للنضال وسط أنصار الحزب الشيوعي العراقي, كما فعل العشرات من رفاقه من الدارسين خارج الوطن, والذين تركوا دراستهم الجامعية, وكان بعضهم من المتفوقين فيها, وبقناعة شخصية, ليختاروا الكفاح وسط الناس في الوطن.
كان الوصول إلى هناك (كوردستان العراق ) صعبا ومكلفا. وقد شاهد نعمة ذاته ثلاثة من رفاقه يسقطون شهداء قربه برصاص الجيش التركي ( سلمان, بهاء, نمير ) أثناء عبورهم الحدود التركية السورية ليلة21 من أيلول 1982, وقد أضاع هو نفسه الطريق ليلتها وسط الظلام والرصاص, لكنه لم يتخاذل ولم يتردد وأصر على العبور ثانية باتجاه الوطن والجبال, وبعد مدة قصيرة من تلك الليلة الدراماتيكية المفجعة.
ويتذكره الأنصار من رفاق مجموعته التي قدمت إلى كوردستان العراق شتاء 1982, وشاءت الصدفة أن تكون كمفرزة سلاح, وهو بمعطفه الطويل, وحاجاته الثقيلة, يسوق بغلا جبارا, محملا برشاشات الكلاشنكوف الثقيلة, التي حملوها لرفاقهم في قواطع الحزب الأخرى, وهو الذي لم يشاهد بغلا في حياته, ولم يجرب مرة الرمي برشاش قبل ذلك الزمن.
كنت أود أن أنهي حديثي سريعا بسبب الألم الذي مزقني وأنا أسرد قصة استشهاد ذلك الإنسان صديقي الحميم الذي كان قريبا إلى روحي وكياني رغم الزمن القصير الذي عشنا أيامه سوية.
ولكن العيون التي كانت تحدق في دامعة كانت تريد إتمام الحكاية.
وصل نعمة مع مجموعة من رفاقه إلى منطقة بشت ئاشان, وهو واد كبير يلاصق جبل قنديل, وهي المنطقة الحدودية الفاصلة بين العراق وإيران. وكانت قيادة الحزب الشيوعي العراقي وإعلامه وإذاعته والمستشفى, وغيرها, تتخذ من هذا الوادي مكانا لها.
وكما جرت العادة هناك حسب التقاليد العسكرية, فقد نسب الشهيد نعمة( أبو سليم ) إلى إحدى الفصائل (بولي ).
كان الرفاق في موقع بولي بمثابة نقطة متقدمة. إذ لم يكن المكان يبعد كثيرا عن الشارع الرئيسي الذي يمتد باتجاه ناحية( سه نكسر). وقد مكث الشهيد هناك منذ كانون الأول 1982 وحتى استشهاده. وفي هذه المنطقة بالذات تعرف الرفاق الأنصار على الشيوعي نعمة القادم من( براغ الذهبية) التي لم تمنعه من اختيار الوطن وأوجاعه, والذي ألفوه بسرعة.
كان بسيطا في كلامه, قويا في حججه, مقنعا في حواره, يجيد الاستماع أكثر من الكلام, يحاول جاهدا أن ينقل لهم جميع المعارف الفكرية والنظرية التي امتلكها, وهي كثيرة, مع تجاربه وخبرته في العمل السياسي والتنظيمي.
ويتذكر الجميع هناك مبادرته لترشيح رفيقين من هذا الموقع ( بولي ) للدراسة خارج الوطن. وقد حاول جاهدا لإقناع هيئات الحزب بأحقيتهم للترشيح.
وكانت تقام في الموقع دورات لتعلم المتفجرات, وعلى استخدام الأسلحة الأخرى. وقد رشحه الرفاق لدخول دورة عسكرية للتعلم على استخدام مدفع ( 57 ملم), كما كلف في تلك الفترة القصيرة بمهمات مختلفة كان مثالا للقدوة في جميعها.
كان يتألم كثيرا للظروف القاسية التي أجبرت الحزب اللجوء للسلاح. وقد عبر لي أكثر من مرة عن كرهه للسلاح والقتل, وهو ما يدل على جوهر هذا الإنسان الطيب, رغم أن موقفه هذا لم يثنه يوما عن الوفاء بما كان يكلف به. وكان مؤمنا بصواب موقف الحزب في اختيار الكفاح المسلح طريقا, بعد أن سد الطغاة كل الطرق الأخرى.
في نيسان 1982 كانت الأمور تتطور بشكل سريع ومأساوي. وكان الأنصار (يتحسسون) الخطر القادم. ولم يصعب على الكثيرين منهم التكهن به قبل وقوعه. وكان نعمة مثل بقية الأنصار رفاقه يتجرع الوجع للظروف القاهرة التي دفعت للتقاتل بين القوى الوطنية.
وقبل أيام من رحيله عبر لأحد رفاقه, وكانا في نوبة حراسة سوية فوق قمة احد التلال لمراقبة الشارع الرئيسي المبلط.....
: ( لماذا يذهب كل هذا الجهد هباء...! أما كان من الأجدر أن توجه البنادق باتجاه مجرمي السلطة....! . ولماذا يصدق البعض وعود النظام وحرصه الكاذب على الوطن وهو الذي قاتل الجميع....! )
تماسكت نفسي وأنا أقترب من نهاية حديثي.....
في اليوم الذي سبق الأول من أيار1983 كان الشهيد مصابا بزكام وحرارة, لم تمنعه من الذهاب صوب منطقة (بشت ئاشان) و(إشقول كه). وكانت المهمة هذه, هي الأخيرة, ليستشهد في معركة لم يكن يريدها.
لقد نجح الطغاة يومها ببراعة للإيقاع بالقوى الوطنية لتتقاتل فيما بينها, خادعا البعض بأن( الوطن في خطر), و(لابد من الوحدة لمقاتلة الأجنبي)
ولم يبق عندي ما أقوله, وقمت وقبلت( طعمة) أخ الشهيد, ولم أتمالك دموعي ووجعي.
بقينا جالسين في مقهى نقابة المعلمين. وتحدثنا ليلتها عن تلك الأيام والفواجع. وفي تلك الليلة نفسها سمعت ما خفف من حزني وألمي, حين أخبرني الرائع والطيب طعمة (أخ الشهيد) بأن منظمة الحزب الشيوعي العراقي في واسط قد وزعت عليهم رسالة فيها معلومات عن شهداء المدينة الذين استشهدوا في صفوف أنصار الحزب في كردستان , وذلك بعد أيام من رحيل الطاغية , كما أن المنظمة نفسها دعت لمهرجان تأبيني لأرواح شهداء الحزب , أقيم في حسينية المدينة الكبيرة , كما أن عائلة الشهيد قد تسلمت رسالة من منظمة الحزب , موجهة للرفاق في المنظمات المعنية في كردستان العراق من مساعدتهم فيما يخص نقل رفات الشهيد , إذا كانت العائلة ترغب في ذلك . كما عبرت المنظمة عن استعدادها لإرسال رفاق مع العائلة للمساعدة في ذلك.
لقد كانت دماء نعمة غالية جدا على رفاق حزبه وعلى الناس الذين عرفوه. وحين نتذكره اليوم فأننا نفتقد فيه الإنسان والشيوعي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا تشكل جباليا منطقة صعبة في الحرب بين الفصائل الفلسطينية


.. Socialism the podcast 131: Prepare a workers- general electi




.. لماذا طالب حزب العمال البريطاني الحكومة بوقف بيع الأسلحة لإس


.. ما خيارات جيش الاحتلال الإسرائيلي لمواجهة عمليات الفصائل الف




.. رقعة | كالينينغراد.. تخضع للسيادة الروسية لكنها لا ترتبط جغر