الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المدرسة...الحيز الوسيط بين الاسرة والمجتمع

انتصار الميالي

2008 / 7 / 20
التربية والتعليم والبحث العلمي


المدْرسة حيَز وسيط، مكان انتقالي بين نطاق العائلة وبين العالم الرحب. فبعدما توفرُ العائلة للطفل، قدر المستطاع، أمانا عاطفيا، تكون أحدى مهمات المدرسة جعله يكتشف مجتمع الآخرين وتعليمه" العيش المشترك". بذا تكون المدرسة المكان الأمثل للتمرس الاجتماعي " socialisation" السياسي والمواطني. المدرسة ليست العالم، وعلى التربية الطفل من العالم، حصرا بقصد أعداده للعيش في العالم.
في اليونان القديمة، كان " الُمربَي" هو العبد الذي يقود الطفل من بيت الأسرة إلى مدرسة المدينة. أن هذه الخطوة " التهذيبية" ذلك السفر" التربوي" الذي يقود الطفل إلى خارج عائلته ليُدخله في المدينة يعبر جيدا عن أن غاية التربية هي نقل القيم الأخلاقية إلى التلميذ التي ستجعل منه مواطنا صالحا.
أن النساء الفاضلات والرجال الفاضلين هم الذين يصنعون الجمهورية ولكن من الذي يربي أطفال الجمهورية على الفضيلة؟ من الذي يعلمهم المقتضيات الفلسفية والأخلاقية التي تؤسّس للمواطنة؟ أنها المدرسة أساسا. لا يمكن لمجتمع ديمقراطي إلا أن يكون علمانيا، غير إن العلمانية لا يجوز تحديدها سلبا بنبذ التأثيرات الدينية والأيديولوجية، بل يجب تصورها تصورا ايجابيا، ليس من خلال احترام القناعات الدينية لكل فرد وحسب، بل أيضا من خلال تعليم فلسفة أخلاقية وسياسية تؤسس للحقوق وللواجبات الشاملة للإنسان وللمواطن. في الأعم والأغلب، يعاني النموذج العلماني الذي يرجع أليه لتصور التربية من قُصور فلسفيّ خطير. ليست الأفكار جميعاً، بحسب التصور الديمقراطي للعلمانية، " جديرة بالاحترام" إذ يجب عدم احترام الأفكار التي تنال من القيم التي تؤسّس " الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، بل رفضها ومحاربتها.
لم يخترْ تلاميذ الصف العيش معاً، فهم ليسوا متطوعين، بل أن المصادفة هي التي جمعتهم. كذلك، لم يختاروا الخضوع لسلطة المدرسين. فالمدرسة ليست طائفة، بل مجتمع، وبالأدق، مجتمعٌ قيد البناء، يجب أذن، منذ اليوم الأول لبدء العام الدراسي، تنظيم " تعاُيش" الطلاب والمدرسّين. فما أن يعش الأفراد معا ضمن جماعة واحدة حتى يلزمهم وضع قواعد واحترامها لكي يجعلوا العيش المشترك ممكناً، من هنا فأن أحدى مهمات المدرسّين الرئيسة هي أن ينموا في المدرسة ثقافةَ للاحترام يمكن لها وحدها الحد من انتشار ثقافة العنف التي تهدد بأن تسود.
أن هذه القواعد التي تجسدّ مسبقاً قوانين المجتمع تحددّ حقوق كل فرد وواجباته تجاه الآخرين بهدف نزع الشرعية عن العنف. وتدقق القوانين شروط " عقد" يربط أعضاء مجتمع لمدرسة بعضهم لبعض، إذ يجب عليها فرض أوامر ونواه تضع للأطفال حدودا.فالطفل يحتاج إلى التصدي لقيد القانون لكي يبني نفسه.
بهذا لا" يجوز النهي" وحسب، بل" يلزم النهي". أن النهي الأول، النهي الأصلي، النهي المؤسس للثقافة وللحضارة هو النهي عن العنف الذي يحدد فريضة اللاعنف.
ما يُخشى هو أن يعيش التلميذ حياته المدرسية كـ" عنف" يكابده، كنظام يجب عليه الخضوع له. التلميذ موجود هنا لـ" يتعلم" أي لـ" يأخذ" معرفة تعطى له. وعلى الطفل، حتى يكون" تلميذا جيدا" أن " يتعلم دروسه" و " يؤدي فروضه" تفرض على التلميذ" فروضٌ لتحصيل نتائج" قلما تفرض على الراشدين.فلكي " ينجح" الطفل،يجب عليه أن " يكدح" أي أن " يبذل جهداً" و " يتكبد مشقة". وهذا يعني أن عليه أن " يشقى". وهو يعلم انه إذا لم يحصل على نتائج جيدة فسوف يعاقب. فالطفل ليس أذن " مجبراً فقط على التعلم والكدح بل مُلزم بان ينجح، ألا يريد الأساتذة أن " يلقّنوه" معارف نسميها" مواد"؟ و" التلقين" أي ( الترسيخ بالذهن" يعني" الإقحام" وبدقة اكبر " الإدخال بالدك بعقب القدم" ويعيش الطفل هذا التعلم في جزء منه لا يُختزل على شكل أكراه.
وهكذا يُعاش ضغطُ المدرسة في نظر" الطالب الضعيف" الذي يعاني حالة أخفاق مدرسي، بشكل سيء بما يقوي عنده شعورا عميقا بالظلم.فنعت طفل بـ" التلميذ الضعيف" يعني الإشارة أليه بـ" الطفل السيئ" أي أطلاق حكم قيمي عليه يحبسه في صورة سلبية عن نفسه تذله وتؤثمه. بالمثل، ينبغي تفادي أي التباس بين " الغلط" خطأ السهو، و" الخطأ" غلط العمد.لماذا، أذن يتكلمون على " خطأ إملائي" ، بينما يكون المقصود فقط غلطا فنيا لا تترتب عليه أية عاقبة؟!
أن الطفل الذي لم يعرف كتابة كلمة ما كما يريد الكبار أن تكتب ليس " خاطئاً" في شيء، هو لم يفعل شيئا سوى مخالفة قاعدة نحوية، لم ينتهك أية قاعدة أخلاقية. يمكن تصحيح الغلط، لكن يجب عدم لوم التلميذ. لئن كان هناك مكان يعترف فيه بـ" الحق في الغلط" هذا المكان هو المدرسة. التعلم هو تصحيح أغلاط المتعلم، أي " الغلط الإنساني ".
وهذا لا يعني فقط أن الغلط أنساني، ولكنه " مؤنسن" إذ انه بتصحيح اغلاطه يتأنسن الإنسان، أن فهم الغلط ينير الفطنة ويبنيها. فالمعاقبة على الغلط هي تعد على الحق وتنكر للعدالة، ولاسيما عندما تعطى العلامة السيئة القصاصية علنا، على مرأى ومسمع من جميع التلاميذ الآخرين، بالمثل، فان من حق الطفل ألا يفهم، فعدم الفهم عند التلميذ ينبه إلى وجوب تزويده بشرح أفضل، أن المدرسة، التي من المفترض فيها أن تكون مكان التمرس الاجتماعي بامتياز، تساهم هي نفسها، عبر الإخفاق المدرسي، في الإقصاء الاجتماعي، فالاصطفاء الذي يتم في المدرسة هو احد العوامل الأقوى في التصدع الاجتماعي.
أن التحدي الذي يجد المدرّس نفسه أمامه هو إفهام الطفل أن عملا بعينه " يستحق العناء" وتحريك " الرغبة في التعلم" لديه بقصد أن يحوز على ما يعطى له وان يختبر، في المحصلة،" لذة الفهم" ويشعر بالفرحة العارمة بان يصبح " فطنا". يمكن للطفل بالفعل، أن يعي جيداً أن نقل الراشد للمعارف مرحلة أساسية في بناء شخصيته، وهكذا يكون بالامكان التخفيف من حدة " العنف المؤسساتي" الذي تكبده المدرسة للتلميذ.
على التربية أن تعلّم طاعة القانون، لكن هذه الطاعة لا يجوز أن تنتج عن علاقة سيطرة/ خضوع بين الراشد والطفل. فإذا كان المعلم لا ينتظر من التلميذ سوى الخضوع، فليس للتلميذ من وسيلة أخرى للتعبير عن نفسه سوى التمرد. يجب أن تسود سلطة الراشد لكن عبر سيرورة تواصل وحوار. ويجب إتاحة الفرصة للطفل لاستملاك الحيز المدرسي كمكان يحق له فيه الكلام، مكان يكون كلامه فيه مسموعا ويؤخذ بالحسبان.
على المربّين أنفسهم أن يتعلموا كيفية أعطاء " دروس حياتية" انطلاقاً من النزاعات المحتومة التي يتواجه الأطفال فيها فيما بينهم، بهدف جعلهم يكتشفون أن على لحظات المواجهة هذه مع الآخرين أن تندرج ضمن سيرورة نموّ شخصيتهم. أن تعليم الأطفال كيف يعيشون النزاع يعني تعليمهم عدم الهروب منه وإفهامهم أن في امكانهم أن يعيشوه ويتدبّروه تدبّراً بنّاء، يمكن هنا للجوء إلى طرائق التوسط أن يفيد فائدةً جمة....










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفاوضات الهدنة: -حماس تريد التزاما مكتوبا من إسرائيل بوقف لإ


.. أردوغان: كان ممكنا تحسين العلاقة مع إسرائيل لكن نتنياهو اختا




.. سرايا الأشتر.. ذراع إيراني جديد يظهر على الساحة


.. -لتفادي القيود الإماراتية-... أميركا تنقل طائراتها الحربية إ




.. قراءة عسكرية.. القسام تقصف تجمعات للاحتلال الإسرائيلي بالقرب