الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل العقل نعمة أم نقمة؟

محمد الفخاري

2008 / 7 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لقد خلق الله الإنسان حرا وكرمه تكريما ميزه عن الحيوان إذ حباه بالعقل حتى يتمكن من استخدامه فيما يعود عليه بالنفع من خلال التأمل والتدبر والبحث وتعمير الأرض إلى حين. هذه الميزة التي منحها له ليست عبثية كما يزعم بعض المتعليمين العرب ممن نصبوا أنفسهم أوصياء على عقول الناس ونسبوا لأنفسهم عنوة حق الإفتاء في مصائرهم على اعتبار أنهم متنورين وسائر الناس جهلة ممن يختلفون معهم في الرأي ولا يتبنون فكرهم المسموم. هؤلاء المفكرون الفطاحلة الذين أوتوا العلم المطلق أكثر من باقي العلماء وأضحوا يصفون أنفسهم بالكمال أكثر من الإله الذي يسبونه ويتهمونه بأبشع صور الظلم والسادية على حد تعبيرهم لا لشيء سوى لعجزهم عن استخدام عقولهم لإدراك كينونته ووجوده وسببيته في كل شيء ليسوا سوى جماعة من اليائسين من بلوغ المرتبة التي يصبون إليها علميا وثقافيا حيث أنهم لا يستطيعون لفت الأضواء إلا عن طريق استفزاز الناس في مشاعرهم الدينية أو النيل من مقدساتهم باسم العقل والخوف عليهم من الجهل والضياع والتخلف إلى ما دون ذلك من المبررات الواهية التي لا تقنع حتى القبائل البدائية التي ما زالت تعيش في أدغال الأمازون إلى حد الآن.
لو قرأت المقالات التي ينشرونها في بعض المواقع ذات التوجه العلماني أو المنتديات ذات الفكر الحر مع إلحاحي الكبير على كلمة الحر، ينتابك شعور غريب بالنفاق الثقافي الذي اتخذوه وسيلة لنفث سمومهم في ألباب القراء المتعطشين للحرية والديمقراطية حيث يدرك هؤلاء المتعليمين أن أسهل باب يمكن الدخول منه لعقل القارئ العربي هو باب الحرية والديمقراطية باعتباره نقطة جد حساسة في الوعي السياسي والثقافي العربي وذلك راجع أساسا لسنوات الظلم والقمع الممنهج الذي عاشته الشعوب العربية تحت ظل الأنظمة المستبدة التي تعاقبت على الحكم منذ بزوغ فجر الاستقلال في الدول العربية. أقول لهؤلاء الناس: لقد أظهرتم ذكاء خارقا في التقرب من القارئ ومحاولة استمالته لتبني الفكر الأحادي المتطرف الذي يضربه في صميم عقيدته ويدفعه للتشكيك في هويته وثقافته ولكنكم تجاهلتم عنصرا مهما في تركيبة الوعي الثقافي والديني لدى القارئ العربي ألا وهو قدرته على النقد والتحليل من خلال إعمال هذا العقل الذي تحاولون محاربته فيه وتجريده من قدرته على التمييز. ألا تعلمون أن القارئ العربي بالرغم من نعتكم إياه بالجاهل يشكك في نواياكم البغيضة أكثر مما يشكك في عقيدته؟ كيف لفكر لا يتجاوز عمره القرنين كحد أقصى أن يزرع الشك والريبة في عقيدة أزلية تعتبر الأساس في العدل والرحمة واحترام المرأة والأخذ بيد المظلوم ونصرته على الظالم؟ الإله الذي تتهمونه بالظلم واغتصاب مريم القديسة، وتعتبرون أنفسكم أكثر ألوهية وقدسية منه، أليس هو من خلقكم وكرمكم ومن عليكم بنعمة الوجود أولا والعقل ثانيا والحرية ثالثا وما أكثر ما جاد عليكم به من نعم لا تعد ولا تحصى لكن جحودكم لا حدود له؟ عجبا من هؤلاء الناس وكيف يفكرون وكأنهم لم يخلقوا أحرارا مثل سائر البشر، هل خلقوا بأغلال وسلاسل تطوقهم؟
إن الحرية الدينية والثقافية تعتبر من صميم الديمقراطية وليس لأحد الحق كيفما كان توجهه السياسي أو الإيديولوجي أن يصادر هذه الحرية تحت أي ظرف من الظروف. العالم يعيش فعلا صراعا فكريا يذكيه تضارب المصالح السياسية وتقاسم النفوذ في العالم وإذا كانت الديمقراطية كمفهوم إنساني اتخذه الغرب فكرا شاملا لا يميز بين أحد ويقدس حق الفرد في ممارسة شعائره الدينية بغض النظر عن الديانة التي ينتمي إليها، فإن من الإجحاف أن تنسب لهذا الفرد صفة التخلف والرجعية إذا كان يتمسك بما يؤمن به ويمجده. لقد أثبتت الدراسات الحديثة أن عدد الأفراد الذين يقبلون على التدين في ازدياد كبير لأن الإنسان بفطرته ينزع نحو العدل والحق كمعيارين أساسيين يحققان له توازنا طبيعيا لشخصيته ويعطيان معنى للحياة التي يعيشها بعدما يئس من الفكر المادي الجائر حيث عجز هذا الأخير عن توفير الجانب الروحي الذي يساهم بدوره في الدفع بالفرد إلى تحقيق الاستقرار النفسي والعاطفي.
لقد أظهر الفكر المادي فشله في تحقيق العدل والمساواة بين الناس بل ساهم في توسيع الهوة الواضحة بين الغني والفقير، المدير والعامل، الرجل والمرأة وبالتالي أدى إلى نشوب صراع كبير بين مكونات المجتمع وزرع مشاعر الكراهية والرفض المتبادل بين شرائح مختلفة من الناس وبين الشعوب والأمم التي أضحت أكثر حساسية في التعامل مع بعضها وتتجه إلى المواجهة المسلحة أكثر من إعمال العقل وتبني خيارات دبلوماسية تسعى إلى نبذ العنف وتحقيق التعايش السلمي الذي يكفل للإنسان الأمن على حياته وعرضه وممتلكاته والاستقرار الدائم والتنمية الاجتماعية من أجل النهوض بمجتمعه والمساهمة في التقدم والازدهار. قد يدعي البعض أن الدين والعقل لا يتقاطعان إطلاقا على اعتبار أن الأول يبشر بالغيبيات غير المرئية والثاني يركز فقط على ما هو علمي بحث يستدل عليه من خلال الملاحظة والفرضية والتجربة ثم الاستنتاج. أرأيت أن هذا المنهاج الديكارتي العلمي البحت أوصل ديكارت في آخر أيامه إلى الإيمان بوجود الذات الإلهية وعمق قناعته بأن الصدفة إنما هي ضرب من الجنون ولا يوجد لها أثر في سماء المعقولات؟ لقد بينت الكتب السماوية كلها العديد من الحقائق العلمية التي لم يكتشفها الإنسان إلى في زمن قريب ولا أستدل فقط بمثال الذرة الذي يستهزئ به البعض بالرغم من يقينهم بحقيقته ولكن بفترة الحمل والرضاعة عند المرأة والبحرين اللذين يلتقيان والعسل الذي يشفي الكثير من العلل إلى غير ذلك من الحقائق العلمية البارزة. ما أريد قوله هو أن العقل يتفق مع الدين وإذا كان الدين في نظر المتعليمين يحد من قدرة العقل على التحليل ويشجع على الخرافة فإن بفضل الدين وصل المسلمون إلى المرتبة الفكرية المنقطعة النظير في العصر العباسي وفي الأندلس ولولا أنهم فضلوا الابتعاد عن الدين والانغماس في الملذات لما طردوا من الأندلس. ألم تعتمد أوروبا على كتبهم وأبحاثهم في الطب والهندسة والرياضيات والكيمياء والفلسفة وطورتها لما يخدم صالحها؟ ألم يبن الإسبانيين تمثالا لابن رشد عرفانا منهم بما ساهم به في تنوير العقل الإنساني؟
هناك العديد من الدراسات الفكرية والفلسفية التي تناولت العقل من جهة (الفلسفة التنويرية والفكر البراغماتي والوجودي والماركسي المادي البحث الذي يمجد العقل) والدين من جهة أخرى في تبنيه كمرجع وحيد متكامل (المنهاج المثالي والميتافيزيقي) ثم الفكر المعتدل الذي جمع بينهما على اعتبار أن هناك علاقة تكامل بين الدين كمفهوم شامل يؤسس لعلاقة الإنسان الوجدانية مع الله ويرتقي بروحه إلى مرتبة الإيمان الراسخ بمحدودية الأشياء وفنائها والعقل الذي يتدخل ملازما للدين في تفسيره للظواهر الطبيعية والمفاهيم العلمية لكي يعبد الإنسان ربه عن علم وهي أسمى مراتب العبادة.
ما ينبغي التأمل فيه هو أن العقل سلاح ذو حدين بمعنى أنه لو استخدم بطريقة أحادية بحتة فسيكون نقمة على صاحبه إذ أنه يتخد المادة وجها وحيدا للحقيقة مستثنيا بذلك الجانب الوجداني الذي يقوم على التفكر والتدبر في الحياة باعتبارها فترة انتقالية إلى بداية حياة أخرى تتميز بالكمال والعدل وهو ما يشكل مركز اهتمام الدين حيث لا يستطيع الإنسان العيش على هامشه لأنه الغذاء الروحي الذي يوازن بين عقله وعقيدته ولعل أكبر مثال على ذلك هو الأخلاق التي تعتبر منظومة مهمة دعت إليها كل الديانات لما لها من دور كبير في بناء مجتمع صالح متشبع بثقافة الحب والتعايش وينبذ التمييز والإقصاء. ألم يكن غياب الأخلاق سببا رئيسيا في غياب العدل في زمن العبودية حيث أدى إلى تجريد الإنسان من إنسانيته ليصبح وحشا كاسرا عديم الرحمة. أليس التاريخ شاهدا على الفظاعات التي اقترفها الإنسان باسم العقل؟ أليست الإمبريالية وجها من وجوه العقل البحت الذي يقوم على المصلحة الفردية دون مراعاة حق الآخر في العيش الكريم وفي حياة مطمئنة خالية من الظلم والفساد؟ أليس الدين هو الذي يمجد حرية وكرامة الإنسان ويدعوه إلى المحبة والسلام والمساواة والاحترام المتبادل؟
إذن، الدين والعقل عنصرين أساسيين في حياة الإنسان. إذا ساد أحدهما على حساب الآخر، لا تتحقق شروط صناعة الإنسان السوي الذي يملأ الأرض عدلا وخيرا ويكون بذلك التطرف والعنجهية هما السمتان البارزتان في حياة الإنسان وما أتعسها حياة. وفي الختام، أقول للذين يهاجمون الناس في أديانهم، كفاكم نفاقا وديكتاتورية إذ أن الديكتاتورية الفكرية وفرض الرأي بالقوة ليس من الحرية في شيء. دعوا الناس يعبدون الله في حرية ولا تتآمروا عليهم، فإن كنتم اخترتم المادة إله تعبدونه فتلك حريتكم الواجب احترامها لكن لا تفرضوا على الناس إلهكم ولا تتهمونهم بالتخلف والرجعية فعسى أن يكونوا أكثر اعتدالا وخيرا منكم وعسى أن يكون الدين الذي يعتنقونه نبراسا يخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور الحق.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وحدة 8200 الإسرائيلية تجند العملاء وتزرع الفتنة الطائفية في


.. رفع علم حركة -حباد- اليهودية أثناء الهجوم على المعتصمين في ج




.. 101-Al-Baqarah


.. 93- Al-Baqarah




.. 94- Al-Baqarah