الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشكالية الحرية وتقرير المصير

كريم الهزاع

2008 / 8 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يبدو أن الحرية -مفهوما مطلقا- لا وجود لها إلا في الذهن. أما في الواقع فلا توجد إلا حريات نسبية. لأن نقيضها -«الضرورة» مصاحبة لها دائما- من أحط حالات الجسم إلى أسمى سبحات الروح. وقديما تصور اليونان أن الضرورة (أنانكي) قانون لا يفلت من سلطانه حتى الآلهة! والانتقال إلى الحديث عن الحرية بوصفها فعلاً من الأفعال التي تعبر عن أنطولوجيا الإنسان، فالحرية ليست ظاهرة، أو واقعة، أو حالة، بل هي فعل، وهي بهذا تشترك مع الإبداع في كونها فعلاً أيضاً، ينتقل من الإمكانية إلى الوجود. وإذا كان الإبداع فعلاً للتحرر يعبر عن نفسه من خلال الصراع التركيبي بين المبدع وذاته ومجتمعه، وأداته، فهذا هو جوهر الحرية. ولذلك فإن تعريف الحرية تعريفاً نظرياً يفترض وجود انفصال بين الموجود العارف، والموضوع الذي نريد أن نعرّفه، في حين إن الحرية لا يمكن أن تدرك إلا في صميم الفعل الذي تمارس به وجودها. وهناك إحالة متبادلة بين الحرية والإبداع؛ فالحرية بمعناها العميق الأنطولوجي هي إبداع الإنسان لنفسه، وتحقيق ذاته الكلية من خلال الفعل. والإبداع هو فعل التحرر ذاته، الذي يتجسد بين الإنسان والوسائط التي يفعل من خلالها. والحرية بهذا المعنى شرط «أولي» للإبداع. كما أن الإبداع شرط لكي تصبح أفعالنا ذات طابع حر. وهذه العلاقة بين الإبداع والحرية تعبر عن نفسها في «الحداثة» المفهوم الفلسفي الذي يجاوز «صورة الحياة» السائدة التي تكرسها أدوات الاتصال في المجتمع.

ويتناول الفكر المعاصر قضية «الحرية» من خلال «التاريخ»، على أساس أن التاريخ يجسد أفعال الإنسانية في سعيها نحو التحقق. والصورة الأولى للحرية التي اقترنت بها في التاريخ، هي الحرية بالمفهوم السياسي، حيث استشعر الإنسان أنّ النظم الاقتصادية والسياسية تحدّ من أفعاله. ولو رجعنا إلى القرون الأربعة الأخيرة في الفكر الغربي، لوجدنا أن الحرية كانت نتيجة للمطالبة بالتحرر من سلطة الدولة والكنيسة، ذلك أن الدولة والكنيسة تدخلتا في كل مظهر من مظاهر الحياة؛ في العقيدة، وفي السلوك اليومي على حد سواء. وامتد نفوذهما إلى العلم والفن وأشكال الحياة المختلفة. وبدأت تثار علاقة السلطة بالحرية؛ فالسلطة تعمل على ثبات النظم الاجتماعية، بينما حرية الفرد تعمل على تغيير هذه النظم. وإذا كان الإنسان في الغرب ظفر بالتحرر من سلطان الدولة وسلطة الكنيسة، فقد بات عليه مواجهة «عقل جمعي في الدين والعلم»، يعبر عن نفسه في تنظيم أشكال السلطة المختلفة في المجتمع، هذا العقل الجمعي يرسخ ثقافة ما، تحد حرية الفرد في الانفلات من أسر هذه الثقافة التي تتجسد في صورة الحياة التي يصدرها المجتمع للفرد من خلال أدوات الاتصال. وقد ارتبط معنى الحرية -في هذا الإطار التاريخي- بالسعي نحو القوة، لامتلاك قوة العلم وللسيطرة على الطبيعة. والحرية بهذا المعنى ليست مجرد فكرة أو مبدأ مجرداً، بل قوة مؤثرة في خلق أعمال معينة، بمعنى أنها توزيع للقوى الاجتماعية، فالحرية ليست أمراً فردياً، وإنما هي مسألة اجتماعية، ولها مظاهرها السياسية والاقتصادية والتربوية والنفسية والخلقية. ولذلك كان ارتباط الحرية بالضرورة. والضرورة -هنا- تعني أن الحرية تتحرك في حدود الممكن، أي في حدود القدرة الذاتية على العمل وفقاً لمقتضيات العقل. وقد ظهر هذا واضحاً في معالجة كل من أسبينوزا (1677)، وهيغل (1831) للحرية.

أما نيتشه ودلتاي واشبنغلر، فإنهم يربطون الحرية بفكرة المصير، فالوعي بالمصير «ضرورة وجودية» لأنه مرتبط بالحرية، فالحرية لا تطابق المعقول، بل إن الوعي بالمصير يجعل الإنسان/المبدع يطمح لتحقيق ما يبدو مستحيلاً ولا معقولاً. فللحرية حدود هي بعينها شروطها. وهذه الحدود تمثل درجات مختلفة من الضرورة، فالشاعر لابد أن يعرف قوانين اللغة التي يكتب بها، ليدرك أبعاد صراعه مع الضرورة، وهذه عقبة لابد للإرادة أن تصطدم بها حتى تقف على معنى حريتها. ولكي نحقق الحرية لابد أن نعي أنّ الضرورة مرتبطة بالزمان؛ فالحرية الإنسانية ليست حرية مطلقة، بل تمر بمرحلة من الصراع والتناقض، حتى تصل إلى مرحلة الوجود الضروري، التي فيها يصبح اختيارها لذاتها مجرد تعبير زمني عن حقيقتها الأزلية.

وفكرتا الوعي بالمصير والوعي الكلي ليستا سوى تعبير فلسفي عن تلك الضرورة الوجودية في صميم الإبداع لا ينفصل عن الحرية. أما الوعي بالمصير، فهو ذلك الموقف الذي يجد الفنان نفسه فيه، فلا يمكن أن يتصور أن يوجد في عالم آخر، أو يكون موجوداً آخر، ولذلك تستحيل الإرادة إلى «مصير»، من خلال الأفعال التي تقود الفنان إلى الوجود، وتتولد لديه الضرورة الخاصة في مقابل الضرورة العامة حيث تفرض الأولى شروطها عليه، لكي يكون حراً، فالفنان يكبل نفسه بقيود هي شروطه الخاصة، لكي يقاوم الشروط العامة التي تفرض عليه من الخارج. ونجد هذه الفكرة بشكل واضح عند هيغل، إذ يقرر أن الحرية المطلقة سلبٌ محض، بمعنى أنها عدم وموت.

والحرية تعبر عن نفسها في جدل الإثبات والنفي، وهذا يعني أن الحرية في الإبداع ليست تعني التلقائية والعفوية، وإنما يقوم الوعي بدور خلاق في تقديم مقاصد الفنان. وفكرة الوعي الكلي وفكرة المصير تجعلان الفنان يتجاوز ذاته الضيقة ليعبر عن مجتمع بأن الجهل لا ينتج عن حرية. فالفنان الذي يجهل تاريخ أمته لا يتكون لديه وعي بمصيرها، وكذلك الذي يجهل قوانين المادة التي يستخدمها في الإبداع، لا يستطيع أن يسيطر ومن ثم لا يستطيع أن يكتسب حريته، وحين قال هيغل: «إن الحرية معرفة الضرورة» فإنه كان يقصد أن عملية خلق الفعل الحر تقوم على هذه المعرفة.

أما الماركسية فقد أكدّت هذا المعنى، فالحرية ليست خدمة قوانين الطبيعة، وإنما هي معرفة تلك القوانين والاستفادة منها في تحقيق أفعالنا. والحرية هي تلك الإمكانية -المتولدة عن المعرفة- التي يمكن بمقتضاها أن نجعل معرفتنا بقوانين الطبيعة فعالة ومثمرة، وبالتالي فهي مسألة اجتماعية واقعية تخص الحياة العينية للإنسان بوصفها دراما حية تنشأ بين الفرد والعالم المحيط به.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصر تحذر من أن المعاهدات لن تمنعها من الحفاظ على أمنها القوم


.. وزير الدفاع الأمريكي: يمكن شن عمليات عسكرية بفاعلية بالتزامن




.. نقل جثامين الرئيس الإيراني الراحل ومرافقيه من تبريز لطهران ا


.. استشهاد 4 وإصابة أكثر من 20 في قصف إسرائيلي لمنزل عائلة الشو




.. هل تسير مجريات محاكمة ترامب نحو التبرئة أم الإدانة؟ | #أميرك