الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا... وإشكالية الفهم

عبدالحكيم الفيتوري

2008 / 9 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا... وإشكالية الفهم
جاء في الحديث الصحيح:(إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب،الشهر هكذا وهكذا).(البخاري)وعلى هذا الأساس قال من قال من الأئمة في حقبة (=إسلام المؤول)أنه:( من كتب أو حسب لم يكن من هذه الآمة في هذا الحكم،بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين)(ابن تيمية)!! و(أن الشريعة موضوعة على وصف الآمية لآن أهلها كذلك...، فالشريعة إذا أمية).(الشاطبي)!! وبذلك صار التباهي بالأمية والتفاخربها بين الأمم أمر لا غبار عليه بل ممدوح إليه!!
وإذا ما أردنا تحليل متن هذا الحديث وتفكيكه وإعادة فهمه وتركيبه وتصنيفه على ضوء مقاصد الرسالة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، فلابد لنا من مناقشة الجهاز المفاهيمي لهذه الإشكالية ،أولها تحليل كلمة(الأمي والآمية)لغة واصطلاحا ،ومقابلة ذلك بمعاني المصطلح القرآني ،ثم إعادة تصنيف متن الحديث ضمن إطارالتقسيم الجديد للسنة.
النقطة الأولى :تحليل كلمة الأمي:
1-في لغة العرب: ورد في قواميس اللغة العربية معان كثيرة للفظة الأمي منها:الأمي الذي لا يعرف الكتابة والقراءة،وقيل هو منسوب إلى الأم أي هو أشبه بأمه منه بأبيه،لآن النساء في العرب ما كن يعرفن القراءة والكتابة.والأظهر أنه منسوب إلى الأمة بمعنى عامة الناس فهو يرادف العامي .وقيل الأمية الغفلة والجهالة وقلة المعرفة.إذن الأمية في اللغة(=عدم الكتابة والقراءة،والغفلة والجهالة،وقلة المعرفة والسذاجة)، فما هي معاني الأمية في القرآن الكريم ؟
2-في لغة القرآن:وردت كلمة الآمي والآميين في القرآن الكريم في مواضع كثيرة بمعاني متنوعة ،فمثلا قوله تعالى:(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة... )فكلمة الأميين هنا ؛تعنى مشركي العرب.وفي قوله(وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا)فالأميين هنا تعني غير الكتابيين.وفي قوله:(ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل)أي غير اليهود(ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني).أميون بمعنى عدم الفهم وهي التي نسميها(الآمية الفكرية).(2)
واللافت للانتباه أن جل الآيات السابقة تشير إلى أن معنى الأمية(= من ليس له كتاب سماوي ،أو من لا يحسن الفهم )علما بأن هذه المعاني من المفترض أنها واضحة لدى سامعي القرآن لأنها كانت متداولة في الكتب السماوية المتوافرة لديهم كالتوراة وغيرها حيث كانت هذه الكتب تصف من ليس له كتاب سماوي بأنه(أمي،أميين)،فكان اليهود يصفون مشركي العرب بالأميين(قالوا ليس علينا في الآميين سبيل)،ولا استبعد أن يكون القرآن الكريم قد استخدم كلمة(الأمي والأميين)بالأصل التوراتي وهذا ليس بغريب على المنهج القرآني في مخاطبة السامعين بما يعرفون كما استخدم كلمة العبد والأمة والظهار وغيرها، بل أقر أحكاما وأعرافا معهودة عن العرب في الجاهلية كإقراره للقراض،وتقدير الدية وضربها على العاقلة،والحاق الولد بالقافة وغيرها .ومن هنا يتضح لنا أن كلمة (الأمي والأميين)في الاستعمال القرآني لا علاقة لها بمن لا يكتب ولا يحسب !!
النقطة الثانية:متن الحديث والعقل التاريخي:
للاسف أن إشكالية العقل التاريخي تكمن في تعامله مع متن الحديث بمعزل عن معرفة أسباب وروده والأجواء التاريخية المحيطة به الخاصة والعامة وملابسات القول، وفي غياب هذا المنطق وحضور المنطق النصي الجزئي،يتم تأويل جمهور أيات القرآن لصالح متن الحديث في حين تتضاءل منهجية رد متن الحديث إلى كليات القرآن المقاصدية ، فيصبح التعامل مع متن الحديث (الذي قد يكون مرويا بالمعنى )من حيث الإعلاء والقداسة ،كالتعامل مع نصوص القرآن الكريم التي تكفل الله بحفظها لفظا ، وهذا مما لا شك فيه يدعم نزوع استعلاء متن الحديث على آيات القرآن الكريم ،وسيطرة الجزئي على الكلي بحيث يضع معاني القرآن في تناسب عكسي مع متن الحديث ،وهذا الذي جرى عند تأويل متن حديث الباب !!
فهذا ابن تيمية يتعامل مع متن الحديث بمعزل عن كليات القرآن، ويضمنه معني ودلالة تخالف مقاصد القرآن،فيقول:هو خبر تضمن نهيا، فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي الأمة الوسط ، أمية لا تكتب ولا تحسب ، فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الآمة في هذا الحكم ، بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الآمة، فيكون قد فعل ما ليس من دينها،والخروج عنها محرم منهي عنه ، فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرمين منهيا عنهما)!! فقد ضمن متن الحديث معنى إفادة النهي ثم رفعه إلى مرتبة دلالة الإجماع ،فصارت الأمية صفة مدح وكمال، وأن مخالفة هذه الصفة سيئة وذنبا،فقال:وظهر بذلك أن الآمية المذكورة هنا صفة مدح وكمال ،من وجوه....وكان الكتاب والحساب في ذلك نقصا وعيبا ، بل سيئة وذنبا )!!
والغريب أن يتفق الشاطبي ذو العقل المنطقي مع الاستقطاب الحاد لتحكيم المنهج الجزئي في الكلي ،فيضفي صفة الأمية على الشريعة الإلهية !!فيقول:(..إن الشريعة موضوعة على وصف الأمية لآن أهلها كذلك ... فلا بد أن تكون على ما يعهدون والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية ، فالشريعة إذا أمية )!! (..وإذا ثبت هذا وضح أن الشريعة أمية لم تخرج عما الفته العرب)(3)!! وفي ظل هذا الاعتناء بصفة الأمية ،والتعلق بتلابيب دلالاتها،والتدثر بها، تم تحوير وتحويل معاني كلمة الأمية ودلالتها القرآنية من معنى من ليس له كتاب سماوي أو من لا يحسن الفهم، إلى من لا يعرف القراءة والكتابة والحساب،ثم صارت صفة مدح وثناء حتى أضحت صفة لازمة ودائما للرسالة الخالدة والشريعة المهيمنة!!
النقطة الثالثة:مآلات هذه الأمية !!
ولا شك أن تأويل متن الحديث بهذا المنهج الاستقطابي يترتب عليه نتائج سلبية كثيرة،منها شطب منهج الخطاب القرآني الذي قصد التدرج في خطابه والتطور العقلي نحو منهجه المقاصدي ،حيث قرر في جانب تدرج الخطاب...إقرأ .. وأنذر عشيرتك الأقربين ...يأ أهل الكتاب تعالوا ... يا أيها الناس اعبدوا ربكم ...وما أرسلناك إلا كافة للعالمين .وأنه قرر في جانب تحول العقل من عقل إحيائي..وعلم أدم الأسماء كلها،إلى عقل تقابلي.. الشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها .. ،ثم عقل برهاني ...قل هاتوا برهانكم.. ثم إلى عقل مقاصدي..وما يعقلها إلا العالمون...لعلمه الذين يستنبطونه.وأنه قرر في جانب وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم الأصلية تعليم الناس والإرتقاء بهم وتطويرهم ...يتلوا عليهم آياته ..ويزكيهم ..ويعلمهم الكتاب ..والحكمة.والأخطر من ذلك أن هذا المنهج الاستقطابي يقود إلى مشكل حقيقي مفاده استحالة فهم محتوى عالمية الدين ومعاني الشرعة والمنهاج ...وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ... لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ...!!
الجدير بالذكر هنا أن هذا المنهج (الإستقطابي)قد تأسس على قواعد التفكير والفهم (البياني)الذي يعتمد دلالة البيان العربي وهو لا شك منهج حصري يلغي غيره من المناهج، بيد أن المنهج القرآني لا يقر هذه الحصرية بمعنى أنه توجه بخاطبه لكل الناس وفي كل الأزمان ولم يحصرهم في منهج تفكيري ولا جهة معينة، فكان خطابه للعربي والفارسي واليوناني والأوروبي والياباني على حد سواء ،فمثلا صاحب المنهج البرهاني ذي النزعة التجريدية التي تميل إلى البحث عن مقدمات الأشياء،والتنقيب عن سنن الكون .. من المفترض أن يجد ضالته في القرآن ،كذلك صاحب المنهج العلمي والتجريبي والحقوقي ،ومن البديهي أن كل أولئك داخلون ضمن الخطاب القرآني(يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا).لذا فإن حصر التفكير والفهم من خلال منهج واحد إقصاء وتهميش ، وطمس عالمية الرسالة ، وهيمنة القرآن ، وختم النبوة ،والجمع بين القراءتين قراءة الوحي وقراءة الكون !!
________________________
1-انظر مقالي-أن شئت- القرآن يدين الأمية الفكرية .www.a-znaqd.com
2-لا شك أن الأمية الفكرية تعتبر الداء العضال الذي يعاني منه العقل المعاصر-أن وجد- ،حيث حال بينه وبين فهمه لمقاصد الرسالة الخاتمة ،فلم يستطع تحرير خطابها العالمي ،وتمييز دلالاتها المطلقة(=إسلام المنزل)من المعاني التاريخية(=إسلام المؤول).فصار هذا الأمي نشازا في فهمه وسلوكه بين الامم!!
3- كلام ابن تيمية كان بصدد إبطال الحساب في إثبات الأهلة والكسوف والخسوف . وكلام الشاطبي كان بصدد إبطال علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون واشباهها !!










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقالة أول موظفة يهودية من إدارة بايدن -بسبب سياسة واشنطن م


.. المفكر د. يوسف زيدان: اجتماعاتنا في -تكوين- علنية وبيتم تصوي




.. المفكر د. يوسف زيدان: اتكلمنا عن أشكال التدين المغلوط .. وه


.. دار الإفتاء في طرابلس تدعو ل-قتال- القوات الروسية في البلاد




.. -حافظ البهرة على سرية طقوسهم الدينية عبر العصور بعد اضطهاد ا