الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أيهما الأقوى يا سعدون، النمر أم الإنسان؟ وهل ثمة أمل لأمثال كامل شياع؟

صائب خليل

2008 / 9 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من بين المقالات التي كتبت إثر مقتل الإنسان الكبير كامل شياع تميزت بضعة مقالات تحث على التفكير والمراجعة، وبالنسبة لي كانت اكثرها تحفيزاً مقالة الزميل والصديق العزيز سعدون محسن ضمد، وكانت بعنوان: "البقاء للأقوى يا كامل". والحقيقة أن في العنوان من التكثيف ما يغني عن قراءة المقالة، لكن لنقتطف منها بعض الزهور التي تفوح صراحة وصدقاً في المشاعر وإحساساً بالألم:

"نعم أيها النبيل.. الخسارة والهزيمة فقط. ولا تصدق أي كلام آخر يحدثك عن النصر يا كامل. أبداً النبيل لا ينتصر في هذا الوجود التعس......المسخ ينتصر دائماً يا كامل ويخسر الإنسان. اقرأ التاريخ على مهل وستجد بأن هذه المهزلة تتكرر بشكلٍ مخزٍ."
.....
"الشر لا يُقاوم بالكلمة يا كامل، ربما علينا أن نعترف بهذه الحقيقة. ربما علينا أن نقر بأننا حالمون أكثر مما ينبغي، ولذلك ننتهي بهذه السهولة ونغيب بلا ضجيج ومن دون ثأر"

كلمات صادقة المشاعر وأمينة بلا أدنى شك....ومع ذلك دعني اتحدى صحتها يا سعدون...

يا سعدون، من الأسئلة التي كثرما سألت نفسي إياها في فترات مختلفة من حياتي: "أيهما أقوى...النمر أم الإنسان؟" والحقيقة إني كنت معجب بقوة النمر أيما إعجاب في صغري، وفي يوم ما صدمت عندما عرفت أنه مهدد بالفناء! وعلى يد الإنسان الضعيف! هذا الإنسان الضعيف يستطيع أن يقتل النمر حتى من بعيد!

حاولت الدفاع عن "نسري" فقلت: "نعم...ولكن ليس من العدل أن نعطي الإنسان بندقية في حين أن النمر لايستطيع أن يستعمل مثلها. لنقم جولة صراع عادلة بينهما، فيواجهان بعضهما عزل من أي سلاح، وسوف يمزق النمر الإنسان بضربة واحدة!" لكن انتصاري لبطلي القديم لم يدم طويلاً...فـ "عزل من أي سلاح" لم تكن عادلة كما تبدو لأول وهلة. إنها تترك جميع أسلحة النمر معه، وتنزع من الإنسان أقوى أسلحته: التراكم الذهني الحضاري ونتاجاته.
هكذا عاد السؤال يفرض نفسه:"أيهما أقوى: النمر أم الإنسان؟"

ليس هناك جواب واحد طبعا، فالجواب يعتمد على ساحة المعركة وشروطها. ولا يختلف الأمر في حال السؤال الذي قارنت به قوة الإنسان كامل شياع مع الوحش الذي قتله، فقلت أن النمر هو الأقوى، مخالفاً ما ذهب اليه الآخرون من الزملاء، ولأنك الوحيد الذي فعل ذلك، فالفضل يعود اليك في طرح السؤال للنقاش.

هل تعتقد أن تشكيكي هذا بقوة النمر، محاولة مني لإنقاذ حالة الهذيان واقناع النفس بالأكاذيب لترتاح بعيداً عن حقيقة مؤلمة، وهو ما حاولت أن تمنعنا منه؟ حسناً لنناقش الأمر بهدوء, ولنسأل: "هل أن أقوى الدول، هي التي تتكون من القتلة حاملي البنادق، المغامرين المفرطين بالحياة، أم هي تلك التي كان لها حظ أن حظيت بعدد أكبر من أبنائها الذين كانوا يعملون على بنائها بصبر وجدّ وتفكير؟" أهي التي اينع فيها الشر والإستغلال أم التي تمكن أبناؤها من أن يبنوا حياتهم ودولهم بكرامة؟
ستقول:"ولكن حتى بين الدول فأن اقواها هي أكثرها عدوانية وتسلحاً، وليس تحضراً وانسانية". والحق معك في هذا، لكن لاتنس أن هذه الأسلحة لم تكن إلا نتاجاً لتقدم حضاري تمت سرقته! فمخترع الديناميت إنسان حضاري صبور، تماماً كمخترعي التفاعل النووي مثل آينشتاين. والدبابة سرقت اختراع السيارة وحاملة الطائرات سرقت عمل الإنسان الذي هندس أول سفينة...لا أضنك ستقول لي بأن رجل الكاوبوي يمكن أن يخترع المسدس الذي يضرب به؟

لكن اليست قدرة الشرير على سرقة نتاج "الإنسان"، بحد ذاتها قوة لذلك الشرير وضعف لهذا الإنسان؟ نعم هي كذلك وهذا ما يجعل الشر قادر على الصراع والإستمرار حتى الآن، ووضع البشرية في حالة التبادل المستمر بين انتصار الشر وانتصار الإنسان. إنها ليست صورة وردية منتصرة كما ترى، ولا تعاكس تماماً صورتك التشاؤمية المهزومة عن الإنسان، لكنها تختلف عنها بلا شك. أنها تخالفك القول باليأس عندما قلت لكامل أن ".المسخ ينتصر دائماً يا كامل ويخسر الإنسان"، ولو كان قولك صحيحاً لما بقي إنسان حتى اليوم، ولوجدنا ان العالم عبارة عن "مسوخ" يقتل "الأمسخ" منهم الأقل "مسخاً"...لكن الأمر ليس كذلك كما تعلم، فقبل أسبوعين فقط غادرنا إنسان "هزتك إنسانيته" كما تقول بنفسك، ولا شك أنه ليس الوحيد. من الشجاعة أن نواجه الحقائق المرة التي قدمتها لنا يا سعدون في مقالتك، لكن من الظلم أن تقول لنا أنها الحقائق الوحيدة، وإنها تمثل صورة العالم بأمانة.

"ما الخيارات المتاحة أمام المثقف؟" هكذا تساءلت بحق، وأكملت: "ماذا يمكن للإنساني فينا أن يفعل؟ يحمل سلاحه ويحرث به مقابر جماعية جديدة؟ يبيع القلم ويشتري كاتم صوت؟ يرحل لدول الجوار من أجل أن يحصل على دورة تدريبية يتقن من خلالها تصفية أبناء بلده؟ يتحول من شعار المقاومة لشعار المساومة؟ ماذا على المثقف أن يفعل يا كامل، أخبرني أنت؟"

لن يستطيع كامل أن يخبرنا كما تعلم يا صديقي، فلنبحث بين الأحياء منا عن جواب مقنع عن هذا السؤال. فما دام الحال ليس باليأس الذي وصفته في مقالتك، وأننا والشر في صراع مستمر، فلا بد أن هناك جواب مقنع وحل مقنع أيضاً.

لنعد يا صديقي إلى مثال النمر والإنسان، ولنسأل ما هي ساحة المعركة المناسبة للإنسان لكي ينتصر على النمر؟ إنها الساحة التي تتيح له أن يستعمل سلاحه الذي يتفوق به بأكبر كفاءة ممكنة: البناء الحضاري الذهني الذي أنتج أدوات تفوق الإنسان، والذي يمكن له أن يضع الشر خلف القضبان. ولقد انتبه الأجداد قبلنا إلى ذلك فاخترعوا العدل والقانون والنظام واخترعوا الكتابة والتعليم والزراعة...اخترعوا دولة القانون, وفي ساحة دولة القانون، ما اضعف حملة البنادق هؤلاء!! لقد صارت الجريمة تدرّس في تلك البلدان كعاهة وليست كقوة، وصار المجرمون فيها يعاملون كمرضى يتخصص بعض العلماء في العمل لحل مشكلتهم. لقد حدث هذا لإن حال المجرمين في دولة القانون كان من البؤس بحيث يدعو إلى الإشفاق أكثر مما يثير الخوف !! لقد كانت الأمهات في عصور البربرية والبداوة تربي أبناءها ليكونوا غزاة، لأن الغزاة هم الأقوياء في تلك الساحة. أفلا ترى أن الأمهات تحرص في زمن القانون أن يتعلم صغارهن القراءة لكي ينقذوهم من أن يصبحوا لصوصاً تافهين أو قتلة منبوذين يقضون حياتهم في السجن؟

أنت تعيش في العراق يا صاحبي, والعراق اليوم ساحة بربرية بامتياز، منطقة تم تحطيم الحضارة فيها في حملة مستمرة لعشرات السنين، حتى صار المكان الأقرب الى الغابة في العالم، ولذا ترى النمر قوياً مسيطراً، فما العمل؟ الإسراع ببناء دولة القانون يا صاحبي! أن نعي أن لا خلاص ولامفر من الهزيمة سوى ببناء دولة القانون وعندها ستنظر الى مخالب النمر بأسى واستخفاف، وربما ببعض العطف أيضاً على هذا المسكين الذي ليس لديه في الحياة من سلاح سوى تلك التفاهات.

الوحوش وأصحابها يعلمون هذا السر أيضاً وسوف يعملون المستحيل لمنعنا من تحويل ساحة المعركة إلى أرض لا تناسبهم، ولكن هذه هي المعركة، وهذا هو العامل الحاسم: هل يستطيع الإنسان العراقي أن يبني ساحة ينتصر فيها قبل أن ينقرض بين أنياب النمور أم أنه لن يلحق ذلك؟
أن من يدرك هذه الحقيقة يعي أن أي انتصار للقانون هو عيد له وأن بلاطة اخرى قد عبدت في الساحة المناسبة له وأن هناك فرصة لأن يبقى على قيد الحياة في معركة المصير هذه. من يدرك هذه الحقيقة يعي خطورة نتائج كل حركة فهي أما معه أو هي ضده، تبني بلاطة في الساحة أو تنزع بلاطة منها: أما تبين دولة الإنسان أو تبني غابة النمر. من يدرك هذا عليه أن يعمل باسنانه وأضفاره وأن يستشرس دفاعاً عن كل مكتسباته وعن كل شبر حققته الإنسانية من مفاهيم العدالة وحقوق الإنسان والأمانة، ليس فقط لأنه يحبها، وإنما لأنها مسألة حياة أو موت بالنسبة له.

ما الذي يحدث الآن يا سعدون؟ أننا (المثقفون) ما نزال نعتبر هذه "أمور جميلة"، ندافع عنها عندما يناسب الدفاع عنها مصالحنا المباشرة أيضاً بالصدفة، أو على الأقل حين لاتتعارض معها، وكأنها ليست مصالحنا المباشرة الكبرى فعلاً. أما حين تتناقض مصالحنا مع هذه "الأمور الجميلة" فأننا نسارع الى غض النظر وتركها فريسة يمزقها النمر....ثم نفور غضباً أن امتدت مخالب النمر إلينا بعدها! السنا منافقين في هذا يا صاحبي؟
ثم نهتف "أن النمور تنتصر دائماً" وأن لا أمل للإنسان....لكن اليس هو نفس الإنسان الذي تخلى قبل قليل عن الدفاع عن بنائه الثمين وحصنه الوحيد؟ أيحق له بعد هذا أن يولول ويتشكى ويلعن العالم والمسوخ؟

متى يحق لنا اليأس يا سعدون؟ عندما نقوم بكل ما نستطيع من أجل ساحة معركتنا, عندها، أما أن ينتصر الإنسان ويحتفل بانتصاره، أو إن فشل، فسيكون له الحق في اليأس ولا يلومه أحد، فهل فعلنا ذلك أم أن المثقف نفسه مازال يراوغ ويساوم على أقوى وأهم أسلحته للبقاء على قيد الحياة، ثم يبدأ البكاء عندما يأتيه نتيجة خياناته لمبادئ انتصاره؟

إننا ملامون على كل ضحية ذهبت وستذهب يا سعدون، فنحن لم نحسن اختيارات أولوياتنا، وفقط عندما يصرخ المثقف احتجاجاً على الظلم الذي يصيب خصمه وعدوه، وعندما لايداري من حوله على حساب القانون...عندما يرى كارثة في تجاهل الدستور والبرلمان، وعندما يرفض عمل الحكومات في الغرف الخلفية بغض النظر عن النتائج، وعندما يرفض التساهل مع التناقضات والكيل بمكيالين ويراها خطر يتهدده هو قبل غيره...عندها يمكننا أن نقول أن العد العكسي لمسلسل الضحايا الإنسانية قد بدأ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكوفية توشح أعناق الطلاب خلال حراكهم ضد الحرب في قطاع غزة


.. النبض المغاربي: لماذا تتكرر في إسبانيا الإنذارات بشأن المنتج




.. على خلفية تعيينات الجيش.. بن غفير يدعو إلى إقالة غالانت | #م


.. ما هي سرايا الأشتر المدرجة على لوائح الإرهاب؟




.. القسام: مقاتلونا يخوضون اشتباكات مع الاحتلال في طولكرم بالضف