الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آريون وساميون...لغات أم اقوام؟ الجزء 1-5

علي ثويني

2008 / 9 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1. المقدمة
في بداية السبعينات وحينما كنت يافعا ،كان لنا جار كردي فيلي أسمه(طالب فيلي) "يكبرنا سنا وتجربة ولكن ليس علما كونه ترك الدراسة منذ أمد، كان يحدثنا بأنه ألتقى مجموعة من الألمان وكان يحدثوه بالألمانية فيجيبهم بالكردية، حتى تسنى له التفاهم معهم بتفاصيل الأمور ودون عائق. ودار في خلدي في حينها أن (جيخوازي) و(شيش بيش) وبعض الكلمات التي تعلمناها بشغف ومحبة من بيئتنا الصغيرة في حي مدينة الحرية البائس المفعم بالتلاوين ولاسيما الفيلية ،بأنها ستكون ذو جدوى حينما نسافر إلى الخارج ونلتقي الألمان أو أي من (الآريين).
وليس بأمد بعيد عما ساقه لنا (طالب) أطلعت على حقيقة الأمر وعلى المحك حينما تسنى لي السفر والدراسة في رومانيا، وتأكد لي بأن جارنا كان مبالغا فيما ساقه على ذقوننا، فلا يمكن أن يتفاهم لا هو ولا جده الأري الكذا رقمه مع الألمان. وأكتشفت هناك بأن ثمة إشكال في تفاهم الألمان بعضهم ببعض، بلهجات كانتون سويسرا و(ساش) رومانيا( )، وأقلية بولونيا ولهجة النمسا وحتى في ألمانيا نفسها التي تعاني من الاختلاف في اللهجات بحسب الإقطاعيات التي تبعت لها قبل أن يوحدها بسمارك البروسي عام 1870م، فكيف الحال مع الأكراد النائين جغرافيا وحضاريا عنهم.
وتبين لي لاحقا بأن جارنا (الفيلي) لم يكن ينطق عن الهوى بل ما تفوه به هو صلب خطاب روجه القوميون الأكراد وبثوه بين طبقات الرعاع و النخب بأنهم آريون وأن لغتهم ودمائهم هي نفسها عند الألمان وأنهم أولاد عمومة وسوف يهبوّن الألمان للذود عنهم عندما يداهمهم خطر ما ولاسيما (سامي)، حتى سمعت من صديقي الفيلي طبيب الأسنان(توفيق علي أكبر) وهو ينتفخ زهوا بأن هتلر نفسه أشاد بأولاد عمومته الأكراد وقال (لو عندي جنود من الأكراد وقواد من الألمان فلسوف أحتل العالم). ولم أجد لتلك المقولة من سند ولا مرجع منقول، بعدما فاق المعقول.
وإذ نلتقي هذه الأيام الأمر يبعث في خطاب يطرق من عدة منابر ، ضمن حملة منظمة مستغلة حالة التشرذم والفوضى الضاربة أطنابها في (العراق الجديد)،ومن أجل إطالة زمن المحنة من خلال الترويج للفوارق العرقية التي دعت للفدرالية والمحاصصة، وما يتعلق بدفع دية المظلومية التي فرزوا فيها الأكراد عن بقية العراقيين ، وكأن حلبجة رميت بالكيمياوي بينما على الهور رمي بالورد والحلوى.والأمر برمته يتعلق بتوظيف مفاهيم بحثية وعلمية في مآرب سياسية ملتوية، ولم تعد تنطلي حتى على عامة الأكراد، حينما عانى الكردي الشمالي مثلما ابن بغداد بالرغم من الإستقلالية الذاتية لسلطة الحزبين القوميين ،والتي لم تستطع أن توظف كم الموارد التي تصب على منطقتهم من الخزينة المركزية وموارد النفط العراقيفي البصرة والعمارة،وذلك منذ العام 1991، فما زال ماء الشرب مقنن والكهرباء معدومة والطرق بدائية والبيوت شحيحة والخدمات سقيمة، والثقافة هابطة وآليات البوح والنقد مقننة.
سؤلت أكثر من مرة ومن أكثر من شخص ومن طبقات الوعي المختلفة عن فحوى تسمية (أريين) أو (هندو أوربيين) الرائج ، في عراق يأن من الإبهام والحشو وفوضى المفاهيم،وذلك بعد حالة الإجهال التي طبقتها سلطة البعث بدقة. وتنائى لسمعي من أحد (الخبراء) من المتحمسين الأكراد على إحدى القنوات الفضائية وهو يصرخ مستعطفا بأنه كيف سيبدل جلده ودمه الآري إلى سامي، وأنه يفضل الموت على ذلك. وأتذكر في هذا السياق أحد القوميين الأكراد أبدى لي رأيه بحرب صدام والخميني ، بأنه مضطر إلى مناصرة إيران في حربها ضد العراق بسبب عرقه الآري المشترك مع الفرس الذي يحتم عليه موقفه هذا ،والحرب هي محض حرب آرية سامية يقف بها العرب مع صدام، ولزام على الآريين الوقوف مع الخميني .قال الرجل"المثقف قوميا" هذا، بالرغم من أن الحرب لم يكن نصابها ولا فحواها ولا نتائجها تمت للعقل بصلة، فألغت لدى المتعصبين من الصوبين نفحات العقل وسطوة الضمير.
مازال الطرح القومي بصدد الدماء والأعراق السامية والآرية قائما بالرغم من انجلاء الكثير من الحقائق والنتائج،بعدما نفقت النظرية القومية عند أهلها الغربيين، وما مشروع اليورو اليوم إلا دفن آخر ما تبقى من هذه النظرية . فقد تبعت شعوبنا منذ قرن ونيف إلى أحجية مصدرها غربي محض صنفت الأرومات والألسنة اعتمادا على أسطورة التوراة عن النبي نوح(ع) وأولاده الثلاث الذين مكثوا بعد الطوفان ،الذين من نسلهم جاءت أقوام البشرية جمعاء. وقد روج لتلك النظرية العلماء اليهود أو ممولي البحوث في الغرب ولاسيما إبان حقبة الأنوار enlightenment في القرنين الثامن والتاسع عشر ، وساروا بها قدما،وتصاعدت حتى أمست من مسلمات الأمور وخلطت الكثير من المفاهيم وتذرع بها دعاة التشرذم وتجار الحروب ومبرري الاستعمار.وتداعت أن تكون السبب في جل المأسي التي مرت بها البشرية خلال القرنين المتأخرين.
وجدير أن نأخذ مثالا لرواد تلك التوجهات مثلها المستشرق الألماني يوحنا . داود . ميخائيليس(Johann David Michaelis)( ) من كوتينكن ، وهو من وجه رحلة المغامر الدنماركي (كرستن نيبور) بين أعوام (1761-1769) إلى الجزيرة العربية واليمن التي انتهت بعودته وحيدا عن طريق الخليج والعراق، بعد أن نفق كل أعضاء البعثة الستة. وقد سار ميخائيليس على منهج مسطر مسبقا، وطلب من الحكومة و الملك الدنماركي إرسال فرقة علماء إلى الجزيرة العربية وإنجاز دراسات ميدانية "لمنفعة العلوم الشرقية عامة، والدراسات الدينية بشكل خاص" . وكان ميخاييلس يهودي لاهوتي من عائلة دينية متعصبة ،وقد وجه للاستشراق لمعرفته الجيدة بالعبرية وأقل من ذلك العربية، وعايش حقبة التنوير وظهور النظريات وصعود التجمعات والفرق على أسس عقيدية واهداف مبطنة أو معلنة. وقد كان ذلك شائعا عند يهود وسط أوربا الواردين من أصول خزرية (قزوينية) شرقية، حيث أسس للحركات الماسونية ، والنورانية ،وبعد حين الشيوعية.وتعد فترة ميخائيليس الأجدر في صعود التجمع النوراني الذي سعى لحكومة عالمية واحدة(عولمة أولية) ،من خلال تنظيم متضامن يسعى لجمع المعلومة وتسخيرها في معرفة أحوال العالم. وقد افتضحت أسرار تلك الحركة عام 1784 في مملكة بافاريا الألمانية الجنوبية، ووجد في ملفاتهم تعليمات دستورية محددة،إحداها تقول: (يجب على النورانيين الذين يعملون كأساتذة في الجامعات ،أن يولوا اهتمامهم إلى الطلاب المتفوقين عقليا والمنتمين إلى اسر محترمة ليولدوا فيهم الاتجاه نحو الأممية العالمية،ويتم تدريبهم لاحقا على أصول المذهب العالمي. ويتم هذا التدريب عن طريق تخصيص الطلاب المختارين بمنح دراسية ،ويتم إرشادهم بما يصب في مصلحتهم بالسيطرة على من هم أقل كفاءة وذكاء ،لأن (الغوييم) (من العبرية بما يقابل الرعاع أو الغنم العربية)،يجهلون ما هو صالح لهم جسديا وعقليا وروحيا). كل ذلك جعل حكومة بافاريا تمنع تنظيمات حركة النورانيين، و تغلق محفل الشرق الأكبر عام 1785.
ومن رهط ميخائيلس من الألمان خرجت نظرية علاقة اللغات بالأجناس التي يؤرخ لها منذ أواسط القرن الثامن عشر،ومروجها صاحب النظرية القومية (فخته) (ت:1814)،وأمست مسلم بها ومرجعية، و فيصل الفكر لديهم، وسار على هداها الفكر القومي الألماني الذي تناقلته الأجيال الأوربية ، وكانت نهايتها على يد الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية. لقد صنفت هذه النظرية وقارنت وتمادت عن سوي المعلومة، ولوت أعناق الحقائق ، وشاعت كالنار بالهشيم حتى وطأت حلا عرقيا لتصانيف كل الشعوب الغربية ، و وصلت إلى متاهة حينما وجد الأخوة في البيت الواحد غضاضة في أن ينتسبوا إلى نفس الأصل من خلال تحليل السمات البشرية (الأنثروبولوجية).ونتذكر كيف أنكب الألمان في دراسة أشكال الجماجم من أجل إيجاد تبرير منطقي لما دعوه بالذكاء الفطري للشعوب الآرية. وتحضرني في هذا السياق رواية(الساعة الخامسة والعشرين) التي دارت أحداثها القريبة من الواقع والوقائع إبان الهيمنة النازية على أوربا،ولاسيما في رومانيا،وكيف صنفت الناس على أساس الأجناس .
وجدير أن نشير إلى أن الغجر في أوربا يتكلمون لغة قريبة من الأصل السنسكريتي الهندي أو الآري الفصيح، أكثر من الألمان أنفسهم. لكن "أريتهم" لم تشفع لهم عند هتلر النازي، فقد صنع من شحومهم صابون في أفران (شفايتز)، ولكنهم واهنون ومشتتون وجهال ، ولم يجدو اليوم من يدافع عنهم ليكسبوا من وراء قضيتهم وطن قومي كما فعل اليهود في فلسطين. وهنا حري أن نشير إلى أن الغجر (سيكان-تسيكان) يشكلون طبقة منبوذة في أوربا ولاسيما الشرقية منها، بسبب طباعهم السيئة وفجاجتهم ،وليس من جراء لغتهم "الآرية" . وأتذكر في هذا السياق صديقنا أيام الجامعة (محمد هوشيار) القادم من السليمانية، والذي كان يرافق بنتين غجريتين ، وكان يزعم لنا بأنه يكلمهن بالكردية السورانية وهن يجبن بالغجرية، ويتفاهم معهن بسلاسة. وإذا أفترضنا القبول و طبقنا نظرية(هوشيار) السليماني مع نظرية(فخته) الألماني،فأننا لم نجد لهما من تقارب، حيث شتان قيميا بين "آريينا" الأكراد ، الدمثين الودودين والصادقين المعشر مع خبث وفساد أخلاق غجر أوربا ولاسيما الشرقيين في رومانيا وبلغاريا.
ومن الطريف أن تلك الدعوة الملتوية بإدعاء النسل الآري قد تنصل عنها الألمان اليوم ونسبوها إلى مؤسِّس فرنسي وليس ألماني هو (غوبينو De Gobineau) ، اعتمادا على كتابه الأشهر الذي أصدره عام 1855 تحت عنوان: (دراسة حول التفاوت بين أعراق البشر)، و تبنى عدم تساوي الأعراق البشرية وعزى بموجبه إِلى الشعوب الآرية وحدها الفضل في ابتكار المنجزات الحضارية قديماً وحديثاً، و أن الجنس الآري أسمى فروع العرق الأبيض وعدّ التوتون (الجرمان) أنقى عنصر يمثل الآريين. وازدهرت أفكار غوبينو حتى وطأت الحركة النازية التي صاغت منها منطلقاتها العنصرية القائمة على تفوق الجنس النوردي الشمالي وصفوته المختارة (العنصر الجرماني) الذي ينبغي أن يسود العالم( ). وكان الرجل قد أسبغ على نصوصه نفحات من العلميّة والموضوعيّة. ولم تجد تلك الأفكار صدا لها في فرنسا التي أعتمدت مفهوم (القومية الوطنية compatriotisme) ومبدأ (المواطنة citoyens) وليس (العرقrase)، بما يجعلنا نشكك بمن وجه الرجل هذه الوجهة من الأساس، بما يحاكي حال نابليون حينما غزى مصر وعرج إلى عكا وفلسطين، بما يثير الشبهة بمن ولمن أرسله أصلا .
و نسوق مثالاً لهذا التوجه في إبراز العلاقة (العرقية) والتباين في الفطرة المتعلقة بالفطنة، أشار لها الإنكليزي برتراند راسل،مستشهدا بسياقات بحثية أوردها"علماء" في "الأنثروبولوجيا السيكولوجية" أو " النفس الأجناسي" حيث نقرأ للألماني آرنولد في كتابه (البنى السيكوفيزيائية عند الدجاج)، بأن سلوك الدجاج الذي ينتمي إلى المناطق الجنوبية من الكرة الأرضية يغلب عليه الخضوع السريع للدجاج الشمالي الذي يظهر على سلوكه الميل إلى التفوق وحب السيطرة والرغبة في إخضاع الأنواع الأخرى من الدجاج لسلطته. ويصر زميله ومواطنه (ينيش) على وجود خصائص عرقية موروثة عند الكائنات الحية تجعل من تفوّق بعضها على البعض الآخر أمراً حتمياً وطبيعياً.
ومن الغريب أن المتفلسفين في حقبة الأنوار تبنوا تلك الطروحات جزئيا أو كليا كما هيغل مثلا ، حيث نجد لها آثار في العديد من كتبه، ناهيك عن رهط فخته إلى شليغل وإلى هردر لاحقاً.ونجد أن علم إجتماع مرموق و مستشرق هو (كوستاف لوبون)، قد تبنى الأمر عينه بالرغم من "موضوعيته" الشكلية. فقد كتب عام 1882 في (حضارة العرب) ،متهكما من الألمان بأن أدمغتهم ثقيلة ونائية عن اللبابة، وأن إستيعابهم للحضارة وممارستهم لها بطئ و أستغرق منهم أكثر من ألف عام ونيف، مقارنا إياهم بـ (العرب) الذين لم يستغرق لديهم الأمر أكثر من قرن!.والأمر كله مرتبط بالصراع الأزلي بين الألمان والفرنسيين، التي عاصر (لوبون) فيها حروب بسمارك وقضية الألزاس واللورين. وأستطرد(لوبون) مناكفا الأتراك الذين مقتهم لأسباب سياسية محضة، وصنفهم "ببلداتهم" مثل الألمان.
ولانستغرب أن هذا التوجه مازال قائما عند طبقات واسعة في المجتمعات الأوربية، وسمعنا عن حركات (حليقي الرأس) و(العنصريون) في كل أوربا بالرغم من عدم السماح لهم قانونا، لكنهم يبقون توجه فكري قائم ملموس،حتى في الدول التي خضعت أربعة أو سبعة عقود للشيوعية، التي كان يشاع عنها أنها توجه أممي منفتح، لكن الحقيقة التي لمسناها في روسيا والجيك وبلغاريا ورومانيا مثلا محض توجه قومي متعصب حد النخاع،وما حرب يوغسلافيا وتفتتها إلا نتيجة إحتقان أملته تلك النظرية البائسة بالرغم من أن الصرب والكروات والبوسنيين من أرومة واحدة. وعلى أي حال فأن مفهوم ما دعى (الساميون) لدى هؤلاء وغيرهم يعني بالنسبة للغربي المتدينون المتعصبون لدينهم, للتفريق مع ما يدعوه الشعوب (الهندو اوروبية)الذي هم العقلانيون الذين طوروا الآلة وسخروا العلم.
* هذا نص الفصل الثالث من كتاب سيصدر لي قريبا تحت عنون (الألسنة العراقية).

الأجزاء المتبقية:
2.شعوب أم لغات "سامية"
3. شعوب أم لغات "آرية"
4. مزاعم دحضت نفسها
5.سجال بشأن صلاحية الفكر القومي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينتزع الحراك الطلابي عبر العالم -إرادة سياسية- لوقف الحرب


.. دمر المنازل واقتلع ما بطريقه.. فيديو يُظهر إعصارًا هائلًا يض




.. عين بوتين على خاركيف وسومي .. فكيف انهارت الجبهة الشرقية لأو


.. إسرائيل.. تسريبات عن خطة نتنياهو بشأن مستقبل القطاع |#غرفة_ا




.. قطر.. البنتاغون ينقل مسيرات ومقاتلات إلى قاعدة العديد |#غرفة