الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هيا بنا نتفلسف x هيا بنا نغيّر العالم

مهدى بندق

2008 / 9 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أدرجنا هذا المقال تحت عنوانين عمدًا. فلقد وُضع العنوان (الذي يتصدر الصفحة الآن) بعد أن انتهت الكتابة، فكان أن وضعت علامة الشطب X أمام العنوان الأقدم :هيا بنا نتفلسف ، شطبًا Cancellation وليس محوًا Erasure، ليظل العنوان المشطوب أيضًا مقروءًا. فعلنا ذلك اتساقًا ومنهج المقال نفسه، الذي يوظف أنطولوجية الحضور جنبًا إلى جنب إبستيميةٍ Epistemic تتعامل مع تأثيرات وآثار الغياب Trace of Absence لنتعرف -بهذا المنهج الأحدث في الدراسات النقدية- على حقيقة قراءة البشر للوجود بعامة، وقراءتنا نحن العرب له [بثقافتنا المتبلدة ] على نحو خاص.
ذلك أن التفكيك Deconstruction إن هو إلا محاولة منهجية، ضد نصية Anti- Text هدفها نقض بنية أي فعل لإثبات خلوها من الجوهر Essence. فلقد أدركت الدراسات اللغوية، في تقاطعها مع المنجز الفلسفي المعاصر، أن التعامل مع النص [ أدبيا ً كان أم غير أدبي ] بحسبانه كاملاً في ذاته Self- Contained- كما ذهبت إلى ذلك مدرسة النقد الجديد- تعاملٌ خاطئ، يعزل النص عن المجتمع وعن التاريخ، فضلاً عن مجافاته للحقائق العلمية. ودعنا نلحق بالدال : النص كلَّ ما يمكن قراءته بما في ذلك الكتب المقدسة ، وحتى كتاب الطبيعة ذاته Physics باعتبارها جميعا ً مدلولات .

من المعروف أن الفيزياء الحديثة -بعد أن قضت على وهم ديمقريطس القائل بأن الذرة كيان قائم بذاته غير قابل للانقسام- قد مضت إلى ما هو أبعد، حيث أثبتت أن نواة الذرة لا تني تنحل إلى أن تنكشف عن شئ لا مادي Non- Material. فما هو هذا الشيء اللامادي؟! طاقة؟ ولكن الطاقة يمكن قياسها بمعادلة أينشتين: E = Mc2 ومع ذلك لا يمكن القول بأن الطاقة هي أصل الكون، وإلا سئلنا: فمن أين جاءت؟! فإذا قيل جاءت من مادة أولى Primordial، هيولى Chaos عدنا إلى ما كنا عليه، لنتخبط فيما يشبه الدَوَر والتسلسل المنطقي العقيم.
فيزيائيًا ندرك أن معادلة أينشتين لا تثبت وجودًا ماهويًا Identical، بل مجرد وجود رياضي مفترض. وهكذا نستبين أن المركز Center والأصل Origin افتراضان ذهنيان ليس لهما وجود في الطبيعة. أو هما حالة غياب -ضرورية- تصاحب حضور عالمنا الذي نعرفه، مثلما يصاحب القرينُ المعنوي ( في أساطير القدماء) الشخصَ الملموسَ الحي.
لقد تأسست الفلسفة منذ أفلاطون وأرسطو وحتى هيجل، على ما يعرف بميتافيزيقا الحضور، الوجود المطلق بغير خارج أو نقيض. فحتى الموت الذي يُعَدُّ نقيضًا للحياة، أدرجه هيجل في بنائه الفلسفي الضخم، بحسبانه مجرد تحول للحياة، وجزءًا لا يتجزأ من الوجود الكلى الذي لا يدركه فناء.
بيد أن التفكيك يرى غير ذلك. فهو يرمق الآخر المختلف: اللاوجود [ النقيض الحقيقي للوجود ] وهذا اللاوجود Non- Existence ليس العدم الذي تصوره هيدجر، وعاينه سارتر داخل "وجوديتهما". وآية ذلك أن العدم (المستمد من العدمية الألمانية Nihilism بمعنى العبث) هو نوع من الوجود المؤلم. إذ يتمظهر هذا العدم في مشاعر محض وجودية، مثل القلق والسقوط. بينما العدم عند سارتر ملازم للاختيار. فاختياري لموقف ما، إعدام لموقف آخر كان ممكنًا أن ُيتخذ. لكن هذا كله ليس إلا تجارب روحية "وتفاهمات" على هذا الشاطئ الذي نوجد عليه. التفكيك يمضى إلى الشاطئ الآخر المجهول تمامًا. ليس عبر بحيرة "أخيرون"، بل عبر الفلسفة. وبالطبع فإن الوصول إلى هذا الشاطئ الآخر: اللاوجود، إنما يكشف عن إشكالية حقيقية، إذ لا يمكن ثمة تسمية الأشياء أو حتى التعرف عليها، لأنها ليست أشياء، بل هي سلب الأشياء، وكل محاولة لمقاربة هذا السلب، إنما تحيله إلى دائرة الإيجاب، فتمتنع معرفته.
فلم إذن ترحل الفلسفة إلى هذا الشاطئ الآخر غير الموجود؟! إنها تفعل هذا لكي تهز ثقة الوجود بنفسه، حتى لا يستمر سادرًا في وهمه أن له مركزًا وأصلاً ومرجعية يركن إليها. وإنه -أي التفكيك- حين يؤسس بذلك لما يسمى بميتافيزيقا الغياب؛ فلكي يباشر الاحتجاج على هذا الوجود الفاشل، المكرور، المقلد، العقيم. وكيف لا يكون عقيمًا مع وجودِ أرقى كائناته (= الإنسان)، الذي لا يتوقف منذ ظهوره عن القتل والتدمير وتعذيب بنى جنسه، فضلاً عن سائر المخلوقات؟! فإذا أضفنا إلى جرائمه تلك، جريمته الكبرى في حق نفسه: جريمته المتمثلة في تخريبه لبيئته بتلويث الأجواء وتصحير الغابات، وتحميض الأنهار (أي جعل مائها حمضيًا)، لعلمنا أن هذا الكائن قد حان حينه، وأزف موعده، وأشرف على نهايته، وليس ببعيد ذلك اليوم الذي ستقول فيه – الأرض ربما – أو قد تقولها الحشرات: كان هنا جنس يسمى الإنسان، وكان أشبه بوجه مرسوم على رمال الشاطئ، فمحته موجة من أمواج البحر، بحد تعبير ميشيل فوكوه.
فمن الذي سيحل محل هذا الوجه؟ الإجابة : يحل محله الآخر المختلف، النقيض الأنطولوجي للأنا الحالي. فما دامت الطبيعة لا تقبل بالفراغ المطلق، بقدر ما لا تعترف بالملاء المطلق (الهيجلى)، اتساقًا منها ومبدأ الإنتروبيا Principle of Entropy (تشتت الطاقة)، فلا غرو أن تحل الصورة السالبة Negative محل الصورة الموجبة الحالية Positive.
إن الوجود النقيض في الفلسفة المعاصرة، ليكافئ عند الفيزيائيين افتراض الإلكترون الموجب (الإلكترونات فى عالمنا سالبة الشحنة) وبالتالي يتم افتراض الذرة النقيضة، والثقوب السوداء آكلة النجوم. فإذا كان هذا هو شأن الكون بحديه : الماكرو والميكرو، فأية حكمة يمكن للأصوليين (دينيين كانوا أم علمانيين) أن يركنوا إليها؟! إن التفكيك بهذه الشجاعة ليدعو بأسلوب غير مباشر إلى تأسيس علم جديد للوجود، يأخذ في اعتباره الحقائق لا الأوهام، مركزًا على التواضع لا على التفاخر، علم ينزع القداسة عن كافة النصوص، بما فيها نص الطبيعة ذاتها، ذلك النص الذي تأسس على ما فكر فيه "الموجود" باعتباره حضورًا مطلقًا؛ مما يعنى أن يستمر هذا الوجود إلى الأبد!
أما العلم الجديد، فيفتح الفضاء لنوعية جديدة من الكتابة -مثلما فعل جاءك دريدا في كتابه Of Grammatology يكون فيها الاختلاف (الذي أشار إليه دى سوسير في دراسته للعلاقات اللغوية) الهمَّ المقيم لكل كاتب، إذ يكون المسكوت عنه -فيما كتب- أكثر اتساعًا وأهمية من المُقال. وقد يسأل سائل: ومن أين لنا بمعرفة هذا المسكوت عنه؟! والجواب بسيط: بأن يتحول قارئ النص إلى كاتب. وهو ما يشي بإمكانية تحول الوضع الإنساني من حالة المفعول به Object إلى حالة الفاعل Subject. وذلك هو الطريق القويم الوحيد لبناء الديموقراطية، إذ لا قيمة لأية مسامرات عن الديموقراطية، بينما الشعوب محكومة بمنظومات سابقة التجهيز، منظومات يسميها هيجل الدولة، ويدعوها الليبراليون بالليبرالية، والبنيويون بالنسق، على حين يتلطف الماركسيون الأرثوذكس بإضافة ديكتاتورية إلى تعبير الدولة الهيجلى. وفى ظل هذه المنظومات الشمولية جميعًا، فإن أقصى ما تملكه الشعوب، أن تبدل بحكامها الحاليين حكامًا جددًا. هذا إذا استطاعت -أو حتى أرادت- أن تبدل. فما بالك بشعوب لا يعترف أفرادها، ولو بينهم وبين أنفسهم، بأنهم مريدون أصلاً. والحق أن هؤلاء واقعيون تمامًا، فالأيديولوجيات الموروثة، والظروف الموضوعية المعيشة، تجر إنسانيتهم في كل لحظة إلى جدار اليأس لتتلقى صدورها رصاصات الإعدام الرحيمة.
بيد أن الديموقراطية يمكن أن تتحقق حسبُ، حين يعي الناس حجم الضلال الفلسفي الذي أقيم على مرجعية أصولية، هي عند أفلاطون عالم المثل، وعند أرسطو الوجود المنطقي، وهى مدينة الله بنظر توما الأكوينى، كما تجدها في عالم العقل الخالص الديكارتي، وفى ترنسندنتالية كانط، أو الفكرة الكلية عند هيجل، حيث تلفُّ هذه الأصول، المصير الإنساني بعباءة الجبر المطلق Pre- Destination. وحتى بالنسبة للماركسية -التي جاهدت لتكون فلسفة تغيير وتحرير- فلقد توقف زخْمُها على يد ستالين بما أسماه الحتمية التاريخية، وكان إنجلز قد سبقه بالإقرار بحتمية كونية، حيث قال بها في كتابه Dialectic of Nature.
فهل ثمة سبيل للتخلص من هذا الضلال الفلسفي، إلا بالتحديق في وجه ميدوزا، دون أن يتحول المرء إلى حجر؟! لقد فعلها جاسون حينما استعان بمرآة ( هكذا تقول الأسطورة) وما هذه المرآة في تقديرنا إلا أداة رمزية، بها نعكس صورة الوجود (الذي لا نستطيع أن نجزم بأنه أصل) لنرى جانبه السالب: اللاوجود.

إنني أكتب الآن، أو أتكلم، أو أرى، أو أتنفس. ولكن ثمة آخر مختلف غير موجود إزائي، صامت صمتًا مطلقًا، أعمى تمامًا، ليس به أنفاس تتردد. وهو بالقطع يحل محلى... جزئيًا عند النوم وكليًا في الردى، إنه غائب عنى بالغياب... لكنى سـُأهزم أمامه، ما لم أعترف له بوضعه "الغائب" هذا. أما إذا شئت أن أحيا حياة حقيقية، جادةً ومثمرةً، فلا مندوحة من النضال، ليس ضده، بل معه، نضالاً حتى الموت. وإن هذا النضال هو ما سوف يمنح حياتي قيمتها ومعناها، ويجعل من موتى استشهادًا من أجل الحقيقة (على طريقة البسطامى وليس الحلاج) وقد يؤدى بي إلى مخرج من وجودي المظلم، وقد يعرفني على معنى الحرية الحقيقية، وليس الحرية الزائفة التي يعرضها علىَّ الفلاسفة البراجماتيون والطوباويون الحالمون. ذلك أن مجرد الوعي بالجبر المطلق، والإعلان عن الرغبة في نقضه وتفكيكه، إنما هو أول خطوة على طريق محوه، إذ يكشف تفكيكه عن الخواء الواقع وراء الملاء، وماذا يكون وراء انقشاع الجبر إلا الأمل في البرهان على نقيضه .. الأمل في الحرية؟!

***

أين تقع الثقافة العربية من هذا كله ؟
في حوار كاشف عن بواطن العقل الممثل لهذه الثقافة ، وجه إلىّ واحد من الصحافيين - وهو بالمناسبة شاب نابه – هذا السؤال :
· قلت في كتابك " البلطة والسنبلة " إن فكرة عودة البشر جميعا إلى آدم وحواء مجرد أسطورة، ألم يؤرقك أنك تتكلم في حقل معرفي شديد الخصوصية وأنت غير متخصص فيه؟
فكانت إجابتي ، متذرعا ً بصبر أيوب ، كالآتي :

- كلانا أنت وأنا غير متخصص في علم الإحاثة أو في الأنثروبولوجي ، ومع ذلك فلقد قرأنا "أصل الأنواع " لداروين ، بجانب أبحاث مورجان ، وماك لينان،وكوفاليفسكي ، ومالينوفسكي ، وكلود ليفي ستروس ، تلك الأبحاث الموثقة علميا ً . فهل ترانا بعد ُ نقبل نظرية الأسقف آشر التي تقول أن أول إنسان عرفته الأرض إنما ظهر عام 4004 ق. م اعتمادا ً على إحصاء أعمار الأجيال الوارد أسماؤها في التوراة رجوعا ً متسلسلا ً من ميلاد يسوع إلى آدم ، مرورا ً بنوح ومتوشلح وشيت ؟ ولو صحت نظرية آشر هذا ، فهل ننزع صفة البشر عن المصريين القدماء ، والصينيين وغيرهم ، ممن أسسوا الحضارات الزراعية في العصر الحجري ، وتركوا علامات لا تــُكذّب لعشرة آلاف سنة قبل الميلاد ؟ ودع عنك إنسان كرو – مانيون ، الذي ظهر على الأرض منذ ثلاثين ألف عام ، الذي أثبت تشريح بقاياه أنه كان إنسانا عاقلا Homo-Sapiens بمعنى الكلمة .

لا مرية في أن ما ذكرته في كتابي المشار إليه لا يعد جديدا ً في عالم المعرفة الإنسانية ، بيد أنه – كما صرح لي هذا الصحافي الشاب خريج كلية الآثار ، كان صادما ً للوعي الثقافي الشعبي العام ، ومن غير المقطوع به أن يكون صديقنا – والمفروض أن يكون من طليعة هذا الوعي – قد اطلع على تلك الكتب والأبحاث . فأساتذة الجامعات لا يرحبون – إلا فيما ندر – بتدريسها ، والطلاب لا يبحثون عنها اختيارا ً ، والقلة القليلة من النخب الثقافية التي تصادق على نتائجها تشفق من إذاعتها على الناس حذار الإرهاب الفكري أن يطالها . الثقافة العربية إذن بعوامتها ونخبها مستريحة هكذا ، ومن ثم فهي معادية لكل من يطالبها بإجراء القطيعة الأنسقة المعرفية المنتمية للعصور الوسطى . والمدهش أن أحدا ً لا يزعجه التناقض بين ما يرى وبين ما يسمع : يعيش الناس في المدن المضاءة بالكهرباء ، ويشاهدون في قنوات التليفزيون – التي تعمل أيضا بالكهرباء – كل بقعة من بقاع الكوكب ،إضافة إلي السفن الفضائية والصواريخ الجبارة الحاملة لها ، والأقمار الصناعية الناقلة للأرض أخبار القمر ،والمريخ بل والمجرات البعيدة ، فيصدقون بالطبع ما يروون ، وفي الوقت نفسه يستمعون إلى " تفسيرات " تؤكد لهم أن النجوم ليست غير مصابيح تضئ لهم الليل [ تفسير الجلالين ] وأن الشمس تغطس عند نهاية الأرض في عين من الطين الأسود، وأن ذا القرنين أقام السد العظيم بي جبلين هما أذربيجان وأرمينيا ! حماية للبشر من أقوام كالوحوش[النيسابوري ] وأن آدم انقطع عن مضاجعة حواء لمائة وثلاثين عاما ً حزنا ً على مقتل هابيل [ تاريخ اليعقوبي ] وأن سفينة نوح كان طولها ستمائة ذراع ، وعرضها مائتان ، وارتفاعها مائة [ ابن كثير – قصص الأنبياء ] هكذا بحجم حاملة طائرات !

فهل من شك في أن هذا التناقض الثقافي المعرفي إنما يمثل الحاجز بين الشعوب العربية وبين رؤية العالم رؤية علمية ، هي وحدها الكفيلة بحث هذه الشعوب على أن تعمل بجدية ، دون تعلق بأية أوهام ، من أجل تغيير العالم .. العالم الذي سمحوا له أن يخرجهم من التاريخ ، ويستعد اليوم لإخراجهم من الجغرافيا ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بيسان إسماعيل ومحمود ماهر.. تفاصيل وأسرار قصة حبهما وبكاء مف


.. إسرائيل تتوغل في جباليا شمالا.. وتوسع هجماتها في رفح جنوبا |




.. واشنطن: هناك فجوة بين نوايا إسرائيل بشأن رفح والنتيجة | #راد


.. الكويت ومجلس الأمة.. هل أسيء -ممارسة الديمقراطية-؟ | #رادار




.. -تكوين- مؤسسة مصرية متهمة -بهدم ثوابت الإسلام-..ما القصة؟ |