الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوهابية المغربية بين الدين والسياسة

يوسف هريمة

2008 / 9 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إن الناظر في النسيج الديني المغربي الرسمي يجده مصبوغا في غالبه بالطابع المذهبي المالكي في الفقه وبالعقيدة الأشعرية في الجانب الفكري العقدي، إضافة إلى طريقة الجنيد في السلوك كما ارتآها النظام الرسمي المغربي، وشرحتها منظومة ابن عاشر الفقهية وهو أحد فقهاء المالكية في القرن الثاني عشر ومن دفناء مدينة سلا المجاورة للعاصمة الرباط حين قال:
في عقد الأشعري وفقه مالك *** وفي طريقة الجنيد السالك
هذا هو النمط الديني الرسمي السائد بالمملكة المغربية منذ عهود طويلة لم تحد عنه كل السياسات، مع انفتاحها الكلي على باقي التيارات العلمانية أو بعض الأقليات هناك أو هناك. بيد أنه بالرغم من هذا الطابع الرسمي الديني فقد كان انفتاح المملكة المغربية على المملكة العربية السعودية، وانتشار المذهب السلفي منذ عهد المولى سليمان نواة حقيقية لتشكل رواسب فكر وهابي سلفي كانت أصول محمد بن عبد الوهاب أحد ركائزه الأساسية، أو بالأحرى أصول الإمام ابن تيمية إذا ما اعتبرنا أن فكر محمد بن عبد الوهاب امتدادا طبيعيا لمدرسة ابن تيمية وابن قيم الجوزية بدرجة من الدرجات. فتح المغرب يديه للتطبيع مع هذا المذهب الوهابي وحارب كل ما سواه، وضيق الخناق على الكثير من الإيديولوجيات والمذاهب الدينية الأخرى وظن أن من يزرع شوكا لن يحصد شوكا.
كانت الضربة الأولى قاصمة ظهر للشعب المغربي حينما انتشر هذا الفكر، وبدأت تظهر بوادر نزعة أصولية متطرفة يقودها أقطاب من أمثال أبو حفص ومحمد الفزازي و يوسف فكري وغيرهم كثير، امتدت لتضرب في عمق مدينة الدار البيضاء إثر أحداث 13 ماي 2003. تواصلت الرحلة ولم تقف عند هذا الحد والنظام الرسمي الديني لا يجرؤ في الكثير من الأحيان على ملامسة الجرح، والقول بجرأة لكل إنسان مغربي بأن قضية الإرهاب ليست قضية أشخاص ذووا نزعة متطرفة، ولكن هو بنية وأصول وقواعد وجذور تاريخية من شأن كل من يقتنع بها أن يصبح معول هدم لكل قيمة جميلة في النفس أو الكون أو الحياة. كانت كل المقاربات الإصلاحيةلا تقف عند حد المعالجة، بل تستدعي التاريخ وتؤكد مرة أخرى على خصوصية المغرب الدينية والمتمثلة في الثالوت المالكي الأشعري الجنيدي، دونما أن تستشعر أو تتساءل كيف يمكن أن يتحول الشخص لقنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت وقابلا للبرمجة والتحكم. ظلت دور القرآن مفتوحة وظل الفكر الوهابي ينخر بتنظيراته الخيالية، وتوالت الفتاوى المضحكة والبعيدة كل البعد عن الواقع وعن مسار الإنسان العاقل، حتى كان يفتي أحدهم بتحكيم شرع الله والمعاقبة بالمثل بدل البطاقات الصفراء والحمراء في كرة القدم، هذا النمط الفكري المنغلق الذي أسس له الكثير من التابعين للعقلية السعودية والمتأثرين بالمجامع وبالمؤسسات الفقهية الرسمية الجاثمة على عقول وقلوب الناس يحطنا أمام إشكاليات كبرى مرتبطة بالمجال الديني في المغرب.
كان ولا زال الواقع على ما هو عليه إلى أن أتحفنا الشيخ المغراوي مؤخرا بفتوى جواز الزواج من بنت التسع السنوات، فقامت قيامة الأوساط الدينية والحقوقية ولم يبق إلا مجلس الأمن لم يتدخل فقد أحيل المفتي إلى القضاء، وتابعت الصحف المغربية الرسمية وغير الرسمية هذه القضية باهتمام ملفت كأنها قضية أمن قومي، وطرح السؤال من جديد حول الإصلاح الديني وإمكانية تقنين الفتوى وجعلها في أيادي أمينة عليها. هذا الواقع المتردي الذي يتعامل بعقلية أمنية هدفها تطويق وحصار الفكر، لا زال لم يدرك بعد أن المشكل ليس في الشيخ المغراوي ولا في من تتلمذ على يدهم كالشيخ تقي الدين الهلالي وغيرهم من رؤوس المذهب الوهابي في المغرب، ولكن المشكلة الحقيقية في هذه البنية الفكرية الدينية التي تحمل في طياتها الكثير من العناصر التي يجب أن يكون لدى القيمين على المجال الديني المغربي الجرأة على مجابهتها.
الفتوى التي أصدرها هذا الشيخ الوهابي والمعروف في الأوساط السلفية بلكنته المراكشية الساخرة من كل التيارات، بما في ذلك التيارات الدينية الأخرى والمحسوبة على دائرة السنة والجماعة لم تنشأ من فراغ، بل كان مرجعها هو تاريخ روائي كبير اعتنى به ولا زال يعتني به المغاربة في زواياهم وفي مساجدهم وفي تعليمهم، حيث ما زال البخاري يختم في بعض الزوايا حفظا وشرحا، وكذلك اعتناء المغاربة الخاص بصحيح مسلم وتفضيله على البخاري بعدة مزايا جعلت أحد كبار علماء المالكية ينبري لشرحه وهو القاضي عياض اليحصبي دفين مدينة مراكش وأحد رجالاتها السبعة. كان لزاما على النظام الرسمي الديني المغربي أن يتجاوز المفتي ويذهب إلى صحيح البخاري ويقرأ الرواية جيدا: جاء فى البخارى (باب تزويج النبى عائشة وقدومها المدينة وبنائه بها: حدثنى فروة بن أبى المغراء حدثنا على بن مسهر عن هشام عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها قالت: تزوجنى النبى صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة .. فأسلمتنى إليه
وأنا يومئذ بنت تسع سنين".. ومن بعد قراءتها فليطرح السؤال المنطقي هل هذه الرواية صحيحة أم لا؟ فإذا كانت صحيحة ولها قدسيتها ولا زالت تقرأ في المساجد والزوايا فلا حاجة إذن إلى كل هذا الاستنكار غير المبرر لشيخ يؤمن كما يؤمن المغاربة أو غالبيتهم بكل ما ورد في كتب الصحاح، وإذا لم تكن الرواية صحيحة فلتحذف من الكتاب أو يتم التعليق عليها، ويصار إلى طريقة لمعالجة مجموعة من الروايات المشكلة قديما وحديثا، بدل كل هذا اللغط الإعلامي الناتج أساسا عن عقلية أمنية لا تعرف النقد والبناء بل منطقها الوحيد هو التطويق وحصار الأزمات.
إن الإصلاح الحقيقي للحقل الديني في المغرب لن يؤتي أكله ما دامت الأصول والقواعد ثابتة، وما دام المجال الديني يدار بعقلية البوليس والاستخبارات، فالفتوى طلب للحل وليس حكما بمفهومه الأصولي كما قلت في مقال سابق، فكل تلك البيانات التي تحاول إيجاد مسوغات معينة لقضايا المجتمع، كانت لا تخرج في الكثير من الأحيان على النسق الحكمي الشرعي من واجب وحرام وغيرها من الأحكام، ضاربة بعرض الحائط كل المعايير والموازين والمقاييس في المعالجة الحقيقية لأزماتنا، فالعقل المتدين لا زال لا يعرف مقاربة الإشكاليات إلا داخل نسق مغلق متأثر بثقافة أحكام القيمة، وكأن حكم الله هو تلك القواعد المرتبطة بزمانها ومكانها والخاضعة لثقافة العصر الناشئة فيه، مع أن حكم الله أكبر وأوسع من أن ينحصر في العقل الفقهي اللغوي بجزئيات متأثرة بحمولة ثقافية معينة:" أ فحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون "، فحكم الله مرتبط بدراسة الواقع دراسة متأنية وخاضعة لمعايير ومقاييس معينة تجعل مركزيتها العلم بمكونات هذا الواقع ومحركاته الأساسية، ويتجاوز منطق الجاهلية والجهل في الابتعاد عن سبيل العلم الحقيقي، المرتكن إلى دراسات صلبة نابعة من معرفة دقيقة وغير منحصرة في ثقافة المنع والإباحة الفقهية، إذ الحكم تحكيم وحكمة وليس ضربا من العبث الفكري المنبثق عن ثقافة مستوعبة للصوت الإنساني والعلمي تحت ملصقات Etiquites معينة. ولمعرفة عمق هذا التجلي في الفتوى نحاول أن نقتبس إشارات قرآنية تبتعد بنا قليلا عن ضيق الأفق الأصولي في تعامله مع قضية الفتوى وانحصاره في باب الحلال والحرام الجافين، دون فتح المجال على أفق أرحب وأوسع لبعض تجليات هذا المعطى، فالفتوى في القرآن هي طلب الحل وليس حكما بالنطق بالمنع أو الترخيص، ولا بد لإيجاد الحل وتقديره تقديرا حسنا من خطوات وقوانين معينة تحكم أي ظاهرة أو تساؤل، فقول القرآن في شأن الملك وورؤيته:" وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ افتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون "، يبين بأن الأمر متجاوز لحدود النطق بالحلال والحرام أو ما يعرف بالحكم الشرعي في الثقافة الأصولية، ومتجاوز لمنطق المفتي صاحب اليد الطولى في تقرير المصير. فمن سيفتي داخل هذا السياق هم ملأ باختيارهم إن كانوا سيعبرون عبر طريقة من الطرق إلى تحديد ملامح هذه الرؤية، وليس نطقا بما يستلزمه الوعي الجمعي لثقافة معينة يتحول فيها المفتي إلى ناطق باسم الله، وباسم السياسة في إحكام القبضة على بني الإنسان. وكذلك فعلت امرأة ملكَتْ سبأ:" قالت يا أيها الملأ افتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون "، فهذه الفتوى هي طلب للخروج من مأزق عسكري خطير يحتاج إلى دراسة الخصم وخطط استراتيجية وإعداد فعلي وحالات تأهب قصوى، وليس إلى النطق بكلمتي المنع والجواز.
إن الفتوى تتجاوز في حدودها نظرية الأصول الشرعية، إلى آفاق كبرى، حين تتحول إلى طلب الحل في قضايا معينة من باب المعرفة، لا من باب ثقافة الآباء وما سطره الناس باسم العلم الشرعي في مقابل آخر غير شرعي، جعل الإنسان يتبوأ أسفل المنحدرات الإنسانية والحضارية. فبالعلم والمعرفة يمكننا الخلاص من كل التبعيات الفكرية والثقافية والحضارية عبر استجلاب الفتاوى والحلول من المختصين وأصحاب الشأن في مختلف التخصصات العلمية، وما ابتعادنا عن هذا الطريق إلا سقوطا في شرك الكهنوت الديني والسياسي الملازم لمسار التاريخ الإسلامي، منذ فترات طويلة كان الفقيه والمفتي يصدر مراسيمه وفتاواه لتكبيل الناس وعقولها، بدل تحرير العطاء والطاقات من أجل الإبداع الحضاري و الإنساني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان


.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_




.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال


.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس




.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال