الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المنظمات غير الحكومية في العراق ....نضال سلمي من أجل حياة مدنية

عبدالحسين الساعدي

2008 / 10 / 9
المجتمع المدني


لقد ورد مفهوم المجتمع المدني عند اليونانيين عندما عرفوه بأنه مجتمع المدينة ، والمدينة تعني هنا ( السكان المقيمون ) ، ويمكن أن يفهم منه أيضاً أنه نظام سياسي يتفق أعضاءه على مبدأ المشاركة السياسية في تدبير أمورهم ، وهذا المفهوم والتعريف يأتي قبالة مجتمعات البداوة والقبيلة والمجتمع البربري الذي تحكمه أقانيم أخرى غير التي تحكم المجتمع المدني ، لذا فأن إطاره حضاري بالمعنى الأعم ، ولا نجافي الحقيقة لو قلنا أنه رديف المجتمع المتحضر الذي يأخذ الإنسان بإعتباره قيمة إجتماعية عليا ، وتكون العلاقة فيه بين السلطة والفرد علاقة تبادلية متوازنة وذات مصالح وأهداف مشتركة ناتجة عن عقد مبرم بين طرفين ، أي بمعنى أدق علاقة في مجتمع لا تكون السلطة فيه دكتاتورية متسلطة وشمولية مستبدة .
لقد تجسد هذا المفهوم بشكله العملي سنة ( 1594 ) ، أي في عصر التنوير ، وأستعمل كرديف لكلمة ( مجتمع محلي ) ، ولا شك من أن هيغل أول من أطر هذا المفهوم بإطاره الحديث عبر كتابه الموسوم ( فلسفة الحق ) الصادر في بدايات القرن التاسع عشر ( 1921) ، حيث أعتبر الحياة الأخلاقية تتأتى من خلال ثلاثة أنساق هي الأسرة ، والدولة ، والمجتمع المدني ، وقد كان أكثر دقة من الكاتب الأسكتلندي ( دوم فيرجون ) عندما طرح وجهة نظره عام ( 1767 ) عندما أشار الى أستبداد السلطة السياسية من خلال تركيز السلطات السياسية بأيديها ، وأثناء قراءته للخارطة السياسية والعلاقة بين السلطة والفرد أشر مفهوم المجتمع المدني بأعتباره (القناة التي من الممكن أن تجعل الموازنة بين الدولة ومواطنيها ممكنة ) ، وجاء هذا الطرح متزامناً مع الثورة الصناعية التي عمت أوربا ، وبعد التطور الإقتصادي الهائل بأنماطه المختلفة ، وبروز الطبقة الرأسمالية ، وأندحار الإقتصاد الإقطاعي بما يمثله من نظام إجتماعي وأقتصادي وأخلاقي .
لقد أستعمل ( كارل ماركس ) في البدء من حياته السياسية والفكرية مفهوم ( المجتمع المدني ) عندما كان ( هيغلياً ) ، بيد أنه تراجع عن أستخدامه ، وأستعمل مفهوم ( المجتمع البرجوازي ) ، ثم أضاف الماركسيون بعداً جديداً ، فنظروا الى المجتمع المدني بوصفه ( الأساس الواقعي للدولة ، وفضاء للتنافس والصراع ليس الإقتصادي فحسب بل السياسي والطبقي أيضاَ ) ، ومن ثم تصدى المفكر الإيطالي ( أنطونيو غرامشي ) لهذا الأمر وتطرق الى قضية حساسة تطرح اليوم ، وتتمثل في وضع المجتمع المدني في مواجهة الأنظمة الشمولية ، وهو ما أستند إليه أغلب المفكرين البرجوازيين لمناهضة الحكومات الأشتراكية في أوربا الشرقية آنذاك ، فالحكومات البرجوازية عندما تنفتح على المجتمع المدني ومنظماته فأنها تلجأ الى تحسين صورتها أمام مقموعيها وإسكاتهم وتحييدهم عن عملية التغيير الثوري .
ويبقى مفهوم المجتمع المدني ضمن القيد والتفسير الذي أشرنا إليه آنفاً رغم تباين التسميات التي تتخذها المنظمات العاملة في هذا الحقل
( المنظمات الغير حكومية ، مؤسسات المجتمع المدني ، جمعيات النفع العام ، الجمعيات الخيرية ، الجمعيات الأهلية ، القطاع الثالث ( الأول حكومي ، والثاني الخاص )، مجموعات الضغط ، السلطة الخامسة ، النقابات وغيرها ) ، فكل هذه التسميات تشتغل في مجال الإغاثة الإنسانية والثقافة والإقتصاد والإجتماع والصحة والسياسة والتربية والبيئة وحقوق الأنسان وحقوق المرأة والمعوقين وغيرها من المجالات التي يمكن للمنظمات أن تلعبها ( كوسيط ) بين المواطن والدولة .
أذن ومن خلال هذه القراءة الأولية لمفهوم المجتمع المدني لابد أن نصل الى الآتي :

1. حداثة هذا المفهوم نسبياً وهو مفهوم ظهر في أوربا ثم أنتقل الى بلدان العالم ومنها الشرق ، ويدخل العراق ضمن التصنيف الأخير .
2. التباين والأختلاف في تحديد ماهية هذا المفهوم ، وحسب الخلفية الطبقية والأخلاقية والفكرية للمشتغلين في هذا المجال .

وخلاصة لهذا الأستطراد البسيط الذي سيقودنا الى الحديث عن المجتمع المدني في العراق ، نقول أن ظهور مفهوم المجتمع المدني يعود الى بداية نشوء الدولة العراقية الحديثة ونيلها لسيادتها وأستقلالها ، حيث تركزت السلطات السياسية في أيديها وبروز طبقات وفئات وشرائح أجتماعية من تجار وملاك وإقطاعيين وضباط ، ونتيجة لتعارض العلاقة بين الدولة ومواطنيها ، وعلاقة المستغِلين ( بالكسر ) بالمستغَلين ( بالفتح ) برزت الحاجة لظهور أحزاب سياسية وجمعيات ثقافية ومنظمات مجتمع مدني قادرة على أن تلعب دوراً محورياً هاماً في تنظيم هذا الصراع وتوجيهه الوجهة الصحيحة ، وأخذ زمام المبادرة في الحركة المطلبية لعموم الشعب العراقي ، حيث أخذت هذه المنظمات فيما بعد تشكل علامة بارزة في مجمل الصراع المذكور آنفاً ، فيما أتسمت العلاقة بين هذه المنظمات والدولة من جهة وبينها وبين الحركات والأحزاب السياسية من جهة أخرى في حالة من المد والجز ، وتبعاً لمبدأ التقارب والتنافر أو المصالح المشتركة ، كما شهدت منظمات المجتمع المدني ذاتها صعوداً ونزولاً في نشاطها كأنعكاس طبيعي للصراع الدائر بين السلطة الدولة وبين عموم المجتمع ، الصراع الذي أتسم دوماً بالعنف والقهر والأستلاب .
لقد كان للتطور الأقتصادي والإجتماعي الحاصل في العراق ونشوء الأحزاب السياسية أثره الكبير في ولادة العديد من منظمات المجتمع المدني كالنقابات والإتحادات والجمعيات والروابط الثقافية والإقتصادية ومنظمات حقوق الأنسان وجمعيات الصداقة بين الشعوب والجمعيات التي تهتم بشؤون المرأة والطفولة وغيرها ، وما لبثت أن أشرت ثورة الربع عشر من تموز عام ( 1958) مؤشراً واضحاً وجلياً في تطور مؤسسات المجتمع المدني ، سيما بعد أن دكت أشكال وأنماط الحكم السياسية والإقتصادية والإجتماعية السابقة كافة ، وتدشين عصر جديد أتسم بالتحولات الديمقراطية ذات الطابع العصري المتجدد .
لكن منظمات المجتمع المدني لم تستمر كثيراً في عملها المبدع والموجه للصالح العام فقد شهدت أنحساراً وتراجعاً كبيراً وملحوظاً بعد أنقلاب 8 شباط الأسود عام ( 1963 ) ، ومن ثم صعود الأخوين عارف الى دست الحكم ، وحتى مجيء حكم القرية بأنقلاب عسكري في تموز من عام
(1968) ، وبروز صنمها الذي أطيح به في نيسان عام ( 2008) ، فقد مارس هذا النظام دوراً تخريبياً تجاه المجتمع المدني ، وعمل على تسييسه وتوظيفه لصالحه وخدمة لنظامه من خلال ( المكتب المهني ) ، وذلك لأغراض سياسية ومن أجل حشد التأييد لنظامه الذي بدء ينهار ويلفظ أنفاسه الأخيرة ، سيما بعد الأنتفاضة الشعبية الرائعة في أذار من عام
( 1991) ، وتحديداً بعد أنسحاب الجيش العراقي من الكويت تحت الضغط الدولي .
واليوم وبعد سقوط الصنم والتوجه الجدي من قبل الشعب العراقي وقواه وأحزابه السياسية ومنظماته النقابية والمهنية ومنظمات المجتمع المدني كافة لبناء العراق الجديد العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد ، وبناء الدولة الحديثة الدولة الدستورية دولة القانون ، فضلاً عن توجيه الأقتصاد نحو أقتصاد السوق لكي يواكب التطور الإقتصادي والإجتماعي والسياسي الهائل والحاصل في العالم ، نقول وبعد هذا التوجه الذي سيفرض حتماً نوعاً جديداً من العلاقات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية ، وبالتالي يخلق أنماطاً من العلاقة بين الدولة والمجتمع ، فقد أندفعت المجاميع المختلفة الى تشكيل العديد من منظمات المجتمع المدني وعلى أختلاف أختصاصاتها ومشاربها الفكرية وتوجهاتها المهنية ، أو نظراً للحاجة الآنية التي فرضت ولادة مثل هذه المنظمات ، حتى قطعت أشواطاً كبيرة في هذا الجانب ، وهي تتطلع الى أنجاز برامجها الآنية والمستقبلية والستراتيجية ، و أشرت المرحلة المنصرمة بروز منظمات فاعلة وقوية وجادة ، في حين ظهرت الى جانبها منظمات وهمية خاملة ونفعية لا تمتلك من جدوى قيامها وتأسيسها سوى إجازة التأسيس ولافتة عريضة معلقة على أبواب المقرات أن وجدت تلك المقرات أصلاً .
بيد أن هناك ما يعرقل عمل منظمات المجتمع المدني ويسلبها أستقلاليتها ويمنع من تقدمها ، حيث تقف جملة من الموانع والعراقيل ولعل الأبرز فيها تدخل الحكومة في عملها من خلال ربط تلك المنظمات المستقلة بوزارة أسست لهذا الغرض وهي وزارة ( شؤون المجتمع المدني ) ، وأستحداث مكتب مساعدات منظمات المجتمع المدني التابع الى مكتب أمانة مجلس الوزراء ، ثم ألزمت هذه المنظمات سواء القديمة أو الجديدة مراجعة هذه الجهات لغرض التسجيل من جديد لديها ، مع العلم أن وزارة التخطيط والتعاون الأنمائي أخذت على عاتقها هذه المهمة ، أي مهمة تسجيل تلك المنظمات القديمة والجديدة وعلى حد سواء ، وأصدار شهادة التسجيل وفق الضوابط والشروط الأصولية المعمول بها في بلدان العالم المتمدن دون التدخل في شؤونها ، وعكس ما يجري هنا في الوقت الحاضر ، وقد وصل هذا التدخل الى حد طرح مشروع قانون تشكيل منظمات المجتمع المدني من قبل وزارة شؤون المجتمع المدني الذي جاء كتدخل غير مسبوق وحتى في المجتمعات الأوربية التي سبقتنا في هذا المضمار ، وكان الأولى من الحكومة ( كما يقول الناشطون في مجال العمل المدني ) أن تستحدث بعد أن أستغنت عن دور وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي في تسجيل هذه المنظمات ، (مفوضية سامية لمنظمات المجتمع المدني ) لرعاية وتسجيل المنظمات غير الحكومية كما هو معمول به في كل بلدان العالم المتمدن ، مفوضية مستقلة تماماً عن الحكومة ، كالمفوضية المستقلة للأنتخابات أو مفوضية النزاهة ، إلا أن الحكومة في الفترة الأخيرة فاجأتنا بتدخلها في عمل المنظمات ، ودون الرجوع الى تلك المنظمات وأخذ رأيها ، أو أشراكها في وضع ورسم قانون المنظمات غير الحكومية بغية عرضه على البرلمان لغرض المصادقة عليه ، لا بل الأنكى من كل هذا هو أن الوزارة أخذت تعمل ببنود هذا القانون غير المشرع والمصادق عليه ، وكانت بنوده تحد الى حد كبير من حرية وعمل المنظمات ، مما أثار جدلاً وأعتراضاً كبيرين لدى أوساط هذه المنظمات ، ولا ندري هل تستطيع هذه المنظمات أن تنقذ نفسها من شراك الحكومة ، وتنتقل الى العمل الحر والمستقل والمبدع ، هذا ما ستظهره الأيام القادمة حيث نشهد اليوم ولادة و بروز تيار مدني قوي يصارع بشكل سلمي من أجل ترسيخ وتدعيم أسس المجتمع المدني ويقاوم في الوقت ذاته تجاذبات القوى الدينية والعشائرية ( وهي تحاول تصدير نفسها من جديد على أنها من المجتمع المدني ) لتلقي بكل ثقلها على الساحة العراقية التي تشهد حراكاً محموماً غير مسبوق .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأونروا تغلق مجمع مكاتبها في القدس بعد إضرام إسرائيليين الن


.. نزوح جديد في رفح وأطفال يتظاهرون للمطالبة بحقهم في التعليم




.. الأونروا تنشر فيديو لمحاولة إحراق مكاتبها بالقدس.. وتعلن إغل


.. د. هيثم رئيس بعثة المجلس الدولي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة




.. الأمم المتحدة: نزوح نحو 80 ألف شخص من رفح الفلسطينية منذ بدء