الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحكم لله أم لشريعة المتعاقدين-1؟

جلال القصاب

2008 / 10 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لا يرتاب مسلمٌ أنّ القرآن الكريم "دستور" حياة المسلمين ورسائل ربّهم إليهم، يُوقظ فيهم وعي غاية وجودهم، ويُذكّرهم بتاريخ منّة ارتباطهم بالسماء، ويضعهم على سكّة تهذيبهم ورقيّهم، لكنّه ظلّ أيضا مركباً توظيفيًّا للمقاصد السيئة، وللتفاسير الفجّة، ولمحاربة العلم والمنطق والصلاح، ولإيقاد معارك الأهواء، مفارقةٌ أخبر عنها القرآن نفسُه عن نفسِه بأنه "شفاءٌ لما في الصدور" لأناسٍ، و"هو عليهم عمًى" لآخرين، وأنّ كثيرين سيستخدمونه "ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله" لمقاصدهم وأهوائهم، فيعمّ الانحراف ويفشو الظلم بأقدس الأشياء وأضوئها، في زمن لم يبقَ من القرآن إلا رسمُه، أما جوهرُ نجومِه فطُمست، فلذلك كلّ الفِرق التي كفّرت وبدّعت بعضَها تستشهد بالقرآن وبآياته، والقرآن لا يقرّ لهم بذاك العبث!

(القرآن دستورُنا)، (لا حكمَ إلا لله)..وأشباهها من شعارات شهرتها بعضُ فصائل الإسلام السياسي، وهي تعلن قيامتها ضدّ مشاريع الظلم، وتصوغ هويّتها ضدّ عواصف العولمة وانطلاق مشاريع الهويّات الفرعية المتنوعة، ربما كان بدء الشعار صحوة، لكنه سينتهي بنا لكابوس آخر، لأنّ تحت أجمته تكمن أفاعي استبداد آخر، يصحّ لو قيل أنّ "قيم القرآن دستورنا"، في واقعنا الفردي والاجتماعي وليس السياسي، أما أن يُزجّ "بالقرآن الكريم" لتنميط تلوّنات ثقافية متعدّدة بدون رضاهم بعنوان أنه "الدستور" السياسي والقانوني، فما هو الاستبداد إذاً؟

ناهيك أنّ القرآن مرجعية سياسية وفق أيّ تفسير؟! أتفسير الألباني، ابن عاشور، أم سيّد قطب؟! أوفق آية "قاتلوا الذين يلونكم من الكُفّار وليجدوا فيكم غلظة" ليستخدمها أيّ "متخصّص" يموضع نفسه مقام النبيّ(ص) وأنه وشلّته "الفرقة الناجية"، ويموضع خصومه المتاخمين أعداءً للنبيّ(ص)، ليكونوا الكفّار والمنافقين المنبغى قتالهم بغلظة، أليس هذا السفه ما فتّت الأمّة وأسقطها فريسة الاستبداد والعنف، وأزرى بطهارة القرآن حين أُهملتْ محكماتُ قيمه وحكيمُ مقاصده، وغُمست متشابهاته بالدمّ فوق أسنّة الاحتراب "ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله" للمصالح الضيقة ولتقديس ذوات فردية وجماعية.

الدين في مسلكه الاجتماعي والسياسي نادى "بشريعة المتعاقدين"، المعبَّر عنه بأنّ "أمرهم شورى بينهم"، وأمَر أتباعه الالتزام بهذه الشرعة المدنيّة الجامعة "أوفوا بالعقود"، "وأوفوا بالعهد"، وبعدم "مفارقة الجماعة"، أي بعدم الاستعلاء الفِرَقي-المذهبي، والانفصال الفئوي، والاعتياش بالخصوصيّات، فبرزت ثقافة الوفاء بالعقد والعهد والبيعة وأداء الأمانة والحقوق، لدرجة أنّها صارت عادة عربيّة حتى قال السجّاد(ع) أنه يردّ الوديعة ولو كانت سيفاً نُحِر به أبوه(ع) ومؤتمنُه قاتل أبيه(ع)! كانت ثقافةً حقوقيةً راسخةً لا تُنسخ، تحكم الشرائع المنصوصة لزمنٍ، والاجتهادية والآراء لآخر، لأنها متعلّقة بالضمير الذي هو لبّ الدين والمعنى الإنساني قبل القانوني.

الدستور عقدٌ اجتماعي أو هكذا ينبغي، والوفاء به دِينٌ ودَيْنٌ، فضلاً عن كونه حصانةً مجتمعية للتعاون وإفشاء السلام، وسُمّي "دُستور/دسطور" بالعربيّة القديمة (ذو+سطور) لكونه "الكتاب المسطور" الذي يستحقّ التسطير، والقانون متى سُطّر يعني ثبت للإلزام، وكان يتمّ تسطيره بلوحٍ حجري/طيني/خشبيّ قديما، وعبّر القرآن بـ"اللّوح المحفوظ" عن لائحة القوانين الكونيّة الناظمة الثابتة، "لوح" كقانون هي التي صارت (لوح/Law)، وما زالت تُدعى لائحة/لوائح.
إنّ النصوص التاريخية كقوانين/لوائح ناظمة للمجتمع، والتي عملت في بيئتها لمصلحة حكيمة ناسبتها، أصبح بعضها يُثير إشكاليةً لبعض بيئات عصرنا، فمثلاً ما يتعلّق بحقّ المرأة المتعلّمة العاملة كعنصرٍ اجتماعي كامل، سواءً في ديَتها، أو إرثها، حين تُقدّر بنصف قيمة الرجل، فهي شرائع أكانت مطلقة، أم مقيّدة بأزمنتها وبيئاتها لصلاحيتها لتلك البيئات، فالعقل الإنساني بمقدوره تجاوزها بقوانين أسمى، "قانون الحبّ" مثلاً، بأن يتنازل الإخوة الذكور لأخواتهم ببعض أسهمهم، فتتساوى الأنصبة، أو بإدراج التعديل "بقانون العقود" الزوجية والوصيّات، وهذا بمقدور "الدولة المدنيّة العادلة" أن تفرضه، فالعقد شريعةٌ ما لم يحلّ حراماً أو يُحرّم واجباً، بعض الدول وعت هذا التبدّل، فأفادت من "شريعة المتعاقدين"، وأقرّت للزوجة دية عقدية -كتأمين على الحياة- مساوية للرجل، قفزت على "النصّ الروائي" -إن صحّ- بخطوة عملية أصحّ، معظم الأمور التي تشكّل اليوم عائقاً لنصوص الدين ومرئيّاته القديمة أمام عالميّته وصلاحيّته للعدل والمساواة والحقوق يتحصّل حلّها من باب "الوفاء بالعقود".

إنّ "شريعة المتعاقدين" و"الوفاء بالعقود" تُلهمنا تكريس مرجعية دستورية/قانونية للمواطنين المختلفين، كضرورة من ضرورات السلام، بما يعنيه من تنظيم أمورهم وتقاضيهم والتزامهم، فالوطن وقضاياه وسياساته هو شركة بين مواطنيه، والقضايا الفردية الخاصّة بكل فرد وفئة -ولا تتجاوز وتتعدّى لغيرها- من حقّها مراجعة مرجعيّاتها فيها ولو كانت في المرّيخ، البعض يقول: "إذا خُيّرنا بين القرآن ودستور الوطن فسنختار القرآن"، هذا تمويه وخداع! فما شأن القرآن بهذا؟ وما شأن سورة البقرة والفيل فيما الناس فيه شركاء؟ وهل تدخّلُ فقيهٍ هناك في مسألة سياسية هنا هو حكم القرآن؟ وهل حين يبدّل الفقيه فتواه لفسادها لديه أو لتغيّر موضوعها يتغيّر القرآن ويُنسخ؟!

إنّ الإصرار بزجّ مرجعيّات خاصّة لفئة (ولو كانت القرآن الشريف نفسه) وفرضها على مساحات هي شركةٌ بين متعاقدين مختلفين يضع إصبعنا على الداء في أذهان بعض المذهبيّين والإقصائيّين، حين يجعلون كلامهم واجتهادهم وتفسيرهم للنصوص هو كلام الله سبحانه أوّلاً باعتبارهم "مختصّين!"، ثمّ يتبعونه بأنّ الحاكمية لله ولقرآنه على الجميع! ويستنتجون بأنّ الردّ عليهم ردٌّ على الواحد القهّّار سبحانه! فهذا مذهبٌ حلوليّ يكون فيه (الشيخ=الله)، ويُحاكي قول الحلاج "لا أرى تحت جبّتي إلا الله"! وبالطبع يكون "الله!" ضيّقًا جدا، وأولئك السادة "أبناءُ الله وأحبّاؤه"، والأغيار/الأطياف لا حقّ لهم بدنيا ولا بآخرة، ولا يجوز تمكينهم، وبهذا الحال لن يُعترف بدستور تعاقدي "وضعيّ" جامع أنفذ من شريعة "الشيخ=الله"، هذا ما قاله الخوارج "لا حكم إلا الله"، وترجموها أنه "لا إمرة إلا لله"، أي "مرجعية القرآن=مرجعية الدستور"، ونسفوا الشرعة المدنيّة بقداسة دينية مخترعة، تنفي شرعية الأحكام "الوضعية" المنبثقة من متعاقدي فئات المجتمع ونيابيّيه (حتّى التي لا تحلّ حراماً)!

هي أزمة ضاربة في خبايا كثير من العقليّات الدينية، وليست لدى مشيَخة هنا وهناك، تعطف القرآن على الهوى، ولكنّ عليّا(ع) وهو أعلم الناس بالقرآن، عاش منطق "شريعة المتعاقدين" وزيراً ثمّ أميراً، وأصرّ عليها مهما بدت منقوصة ومخدوشة بنظره، لأنّها أفضل من الفوضى الهلاميّة، وتضادّ منطق الخوارج الذين حدّدوا "الشرعية" وفقًا لرؤيتهم وتزمّتهم الخاصّ المتغلّفيْن بكتاب الله.. وللحديث صلة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية


.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟




.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي




.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ