الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الازمة الاقتصادية والفكرية العالمية لللبرالية الجديدة

صباح قدوري

2008 / 11 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


صعود الهيمنة الامريكية على مقدرات الكون السياسية والاقتصادية والعسكرية ، على اثر الانتكاسة التي اصابت النظام السياسي والاقتصادي في الاتحاد السوفيتي السابق، والبلدان التي كانت مرتبطة به في نهاية الثمانينات من القرن الماضي. تحاول امريكا منذ ذلك الوقت السيطرة السياسية والاقتصادية والعسكرية على العالم ، مستندة على الطروحات التي تطرحها اللبرالية الجديدة ومعلمها الاول الكاتب والاقتصادي فرنسيس فوكوياما الذي اعتبر هذه الانتكاسة بمثابة نهاية التاريخ للفكر الماركسي وبداية عهد النظام اللبرالي،وهو كذلك انتصارا لاقتصاد السوق وهيمنة امريكا على العالم في كافة مجالات الحياة. في بداية صعود جورج بوش الابن الى رئاسة الولايات المتحدة الامريكية، كان هناك حاجة الى تفعيل النشاط الاقتصادي وتحفيزه في المجتمع قبل ان يصل الى نقطة الركود. اصبح مؤشر نمو البطالة وقلة الاستهلاك في المجتمع ظاهر للعيان. وكثير من الاقتصاديين توقعوا حدوث ركود كبير في الاقتصاد الامريكي ، وممكن ان يتحول الى الازمة الفعلية وذلك لاسباب سوء السياسة الضريبية التي انتفعت منها الفئات الغنية، وعجزت عن توفير المال بين ايدي الفئات الفقيرة في المجتمع، نقل اماكن العمل الى الخارج على حساب تدنيها في البلد، نقص في المعلومات لمقارنة ومراقبة معدلات النمو والتحقق الفعلي الملموس في النشاط الاقتصادي، حرب افغانستان والعراق وتصاعد نفقاتها، زيادة المديونية التي بلغت هذا العام 70 ترليون دولار، وعجز في الموازنة العامة بحدود 750 مليار دولار، تصاعد حدة المضاربات العقارية. قوة السوق الداخلي اصبحت تعمل باقل ماهو مطلوب فعليا ، ويتحرك بشكل فعلي على اساس قانون العرض والطلب ، وفق اقتصاد السوق- الحر ، بلا حدود ولا ضوابط، بعيدا عن رقابة الدولة .
بعد احداث 11 سبتمر/ايلول 2001 ، ظنت الادارة الامريكية برئاسة بوش الابن ومساعده ديك تشيني ومستشاريه من اللبراليين الجدد ، بانها قادرة على قيادة العالم ، باعتبارها القطب الاوحد. واعلنت الحرب العالمية على الارهاب وباشرت بحماس بتصدير الديمقراطية اللبرالية الى مجتمعات العالم الثالث . وسرعان ما انتهت طموحاتها بالكارثة الاقتصادية العالمية ،وبعدها السياسي يتصل بهيكل وموازين العلاقات القائمة في النظام الدولي الحالي، وكذلك على مستقبل النظام الراسمالي نفسه، ولايمكن الخروج منها بسهولة. وقد افقدت قدرتها على التحكم في الساحة الدولية السياسية والاقتصادية ، مع انشغالها وفشلها لحد الان في حرب افغانستان وغزوها للعراق ، وفقدان مصداقيتها امام الري العام الامريكي ، وانعكاس مردودها السلبي المعنوي والنفسي على المواطن والمجتمع الامريكي.

يتابع العالم اليوم بعناية، تطورات الازمة الاقتصادية والمالية التي خرجت من قلب عاصمة المال نيويورك. وهي امتداد ركود سوق العقارات وانهياره في اواسط 2007 ، وسبب الى عجز ملاين المقترضين عن سداد قروضهم التي حصلوا عليها بضمان شركات العقارات .سببت هذه الحالة الى تراجع اسهم الشركات العقارية في البورصات العالمية مما ادت الى هزة مالية كبرى . انتقلت العدوى الى البنوك الدائنة لهذه الشركات ، مما ادت الى افلاس بعض منها ، واثرت على تدني اسهم البنوك المرتبطة بهذه الشركات ، وبذلك انتقلت الازمة من قطاع العقارات الى القطاع المالي والمصرفي ، وثم انتقل الى بقية القطاعات الاقتصادية الاخرى في امريكا وسرعان ما وصلت مآسيها الى البلدان الاوروبية واجزاء كبيرة من العالم. بلغت تاثيرها بدرجة كبيرة على الاقتصاد الاوروبي المرتبط بعمق بالاقتصاد الامريكي من حيث حجم المعاملات وعولمت شركاتها، وخاصة المملكة المتحدة ، المانيا ، وفرنسا،ايسلند واليابان والصين في اسيا. وانعكس ايضا وضعها الماساوي على البلدان الفقيرة والنامية، بسبب التصاعد الكبير والسريع لاسعار المواد الغذائية الاساسية والمحروقات والادوية، وتقليص النفقات الاجتماعية.ادت هذه الازمة الى انخفاض حاد في مستوى انفاق الاستهلاكي ، والى نقص حاد في السيولة النقدية لدى البنوك وشركات التامين ، والشركات العقارية ،والمؤسسات المالية الاخرى،وصعود مؤشرات البطالة على الصعيد العالمي،انخفاض قيمة الدولار في المعاملات الدولية ، انخفاض اسعار النفط المرتبط بالدولار، عدم استقرار تعاملات في اسواق الاسهم والاوراق المالية.
اي بمعنى اخر حدوث فوضى في القوانين الاقتصادية، مما تسبب الحالة هذه الى (كساد طويل).

اثبتت هذه الازمة ، بان المقولات الاقتصادية التي ادع بها الاقتصاديون الراسماليون من امثال ملتون فريدمان ، ادم سميث ، ساي وغيرهم ، بانه يجب ترك الاقتصاد يعمل ميكانزمه فقط وفق قانون العرض والطلب في ظل سوق الحر قد فشل في واقع العملي ، ليس بسبب هذه الازمة فقط ، بل عبر التاريخ والازمات الاخرى التي اصابها الاقتصاد الراسمالي منذ 1929، حتى يومنا هذا. وقد اضطر اخيرا الاقتصادي الانكليزي الكبير كينز بالوقوف الى هذه المسالة والاعتراف بضرورة تدخل الدولة وواجب عليها لمواجهة الازمات الاقتصادية ، وذلك لوقوف الفوضى التي تنجم عن سوء فهم واستخدام اللبرالية الاقتصادية. وبهذا الصدد، انتقد االاقتصادي الامريكي المعروف بول كروغان ، استاذ في جامعة برتستون ، والحائز على جائزة نوبل للاقتصاد هذا العام2008 . واشتهر بنظريته في التجارة الدولية، نظرية التوازن التلقائي في التبادل التي تستند اليها الاطروحة اللبرالية التقليدية واثرها على التنافس المختل في العلاقات الاقتصادية الدولية ، ونقده الجذري ايضا لسياسة الرئيس بوش الاقتصادية ، وكتب عام 2005 محذرا "الامريكيون يتاجرون بالعقارات ، تمولها قروض صينية".

ان سبب الازمة تكمن في النظام الراسمالي نفسه ، وترك السوق يعمل ميكانزمه من دون رقيب بلا حدود ولا ضوابط. وما حدث في قطاع العقارات ليست الا ظاهرة بيع وشراء ديون اي (قرض عقاري) بين المشترين وشركات رهن العقاري والبنوك وشركات التامين والمؤسسات المالية الاخرى، وكذلك الحال بالنسبة الى الديون في قطاعات الاقتصادية الاخرى. جرىالافراط بهذه الديون ، وتجاهل اصول الاقراض والاقتراض المتعقل بين المقترض والمؤسسات المالية ، بعيدا عن الرقابة والمسؤلية الشخصية لهذه القروض ، وضمان اعادتها ، والقدرة على سداد قيمتها في مواعيد استحقاقها . يوجد مثل امريكي شائع يقول" اذا اقترضت من البنك مبلغ مئة دولار ، ولم تستطيع الوفاء به ، فانها مشكلتك ، ولكن اذا اقترضت من البنك مبلغ مئة مليون دولار ، ولم تستطيع ارجاعه ، فانها مشكلة البنك" .ان الضرورة الموضوعية تقتضي بوجود سياسة معقلة للنقد في اي بلد . المسؤل عن رسم هذه السياسة بالدرحة الرئيسية ، هو البنك المركزي باعتباره بنك البنوك وبالتنسيق مع وزارة المالية . وهي مؤسسات حكومية . وتتضمن هذه السياسة ، تحديد سعر النقد ، الكمية المطروحة منه في التعامل الاقتصادي ، سعر الفائدة في البنك ، التي تعتبر معيار اساسي تقاس عليها الاداء الاستثماري، كمية احتياطي العملة لدى البنك المركزي والبنوك الاخرى ، سعر صرف النقد الى العملات الاخرى ، وغيرها من السياسات التي تهدف الى استقرار سعر العملة في المدى البعيد ، ومراقبة ظاهرة التضخم الاقتصادي واثاره على القوة الشرائية للنقد.ان ما جرى في الولايات المتحدة الامريكية بخصوص هذه السياسة ، هو اطلاق العنان للسلطات المالية لطبع ما تشاء من الاوراق الخضراء، بعد تراجع الولايات المتحدة الامريكية عام 1971 عن تطبيق مبادئ نظام"بريتون وودز" ، الذي كان يضمن سياستي مراقبة راس المال والعملة.وبموجبه منح الحكومات الحق من الحد من حركة راس المال، وارتباط العملة بقاعدة الذهب ، وعدم اطلاق حرية اصدار النقود الورقية من دون غطاء انتاجي حقيقي. تخفيض سعر الفائدة الحاد والافراط في الاقتراض دون التدقيق في الجدارة الائتمانية للمقترضين، كل ذلك في سبيل تحفيز الاستهلاك والائتمان، وبدات الاموال الفائضة تتجمع في القطاع المالي ، حيث كانت تنتفخ"الفقاعات المالية"، وتنفجر احيانا، كما حدث عام 2001 ، عندما انهارت سوق المعلوماتية للشركات الامريكية العامة في تقديم خدمات الانترنيت. اي بمعنى اخر ضخ السيولة في النظام المالي ، بدلا من الاشراف على تنظيم سداد الديون.الانفاق المقامر اطلق العنان لهذه الفوضى المالية ، فان تدخل الحكومي المعقول في تنظيم الشؤن الاقتصادية وحماية قوانينها في البلد ، وتوفير الضمانات للرهن العقاري ، تنظيم المؤسسات من خلال الادارة الحكيمة وحسن اداءها ، وقابلية وقدرة العاملين على امرها وادارتها ، وابعادها عن الفساد ، خاصة (غسيل الاموال) منها ،هي ضمانة اكيدة لحماية الاقتصاد الوطني من الازمات ، وابعاده عن الفوضى .
ما يزال النظام المالي في مواجهة خطر محدق ،وتقدر المعالجة الاولية لهذه الازمة والموافق عليهامن قبل الكونغريس الامريكي بحدود 700 مليارا من الدولارات في شراء الديون المعدومة. سوف تجمع قسما من هذه الاموال من جيوب المواطنين كضرائب والاخر يتم طبعه كعملة ورقية . تؤدي هذه الحالة بلاشك في المدى البعيد على تفاقم ظاهرة التضخم النقدي وانخفاض مستمر في سعر الدولار. اما بخصوص سوق الاسهم ، فقد تركت الازمة بصماتها اجتماعيا ونفسيا ، التي تكون خسارتها ليست اقل من الخسائر المالية التي سوف يتكبدها المودعون الصغار ، الذين حلموا بتحسين ظروفهم المعيشية ، وغامروا بمدخراتهم المتواضعة ، وفوجئوا باالافلاس ودخلوا في جيوش الفقراء، من دون تقديم يد عون اليهم.

من المعروف ان اثار هذه الازمة العالمية ستنعكس على العراق ، وذلك لوجود ارتباط العسكري والسياسي والاقتصادي بينه وبين امريكا، لكون الاخيرة محتل العراق. يمكن تلخيص اثارها من (دون دخول في التفاصيل) كالاتي:
1- انخفاض عائدات العراق من النفط ، بسبب تراجع كبير في سعر النفط ، وانخفاظ سعر الدولار الامريكي الذي يشكل الغطاء الرئيسي للدينار العراقي . عدم استقرار العملة العراقية ، وبالتالي عدم تمكن السيطرة على ظاهرة التضخم ، التي لا تزال مرتفعة.
2- استمرار ضغوط الادارة الامريكية على العراق بمطالبتها بدفع القسم الاعظم من نفقات قوات الاحتلال.
3- الاستحواذ على اموال العراق الكبيرة المودعة في البنوك الامريكية والمقدرة بعشرات المليارات دولار ، واستخدام ذلك ايضا كورقة الضغط لاجبار العراق بقبول الاتفاقية الامنية الامريكية-العراقية المزمع عقدها.
4- لا تزال هناك بعض عراقيل في الغاء بعض مديونية العراق عن حروبها العبثية في هذا الظرف.
5- استمرار ظاهرة الفساد الاداري والمالي ، وعدم اتخاذ الاجراءات الصارمة للحد منها.
6- زيادة معدلات البطالة ، بسبب تخفيض برامج الاستمارية ، نتيجة تقليص حجم الاعتمادات المرصدة لها في الميزانية العامة والاستثمارية .وتقدر الميزانية العامة 2009، من 80 مليارد دولار الى 67 مليار دولار، بسبب تغير تقدير سعر البرميل الواحد المحتسب بموجبه الميزانية، من 80 دولار الى 62 دولار.
7- تفاقم المشاكل المعيشية ، وخاصة للكادحين والفقراء والطبقة الوسطى في مجالات الرواتب ، الخدمات الاجتماعية ، الصحة ، التعليم، الماء ، والكهرباء ، والمحروقات ،والمواد الاساسية الغذائية والادوية، والبني التحتية.
8- والحالة هذه ستساعد بلا شك ،على بيئة ملائمة لاطالة عمر الاحتلال في العراق.

وخلاصة القول، ان الراسمالية كنظام اقتصادي واجتماعي مرت بادوار مختلفة عبر تاريخها.استطاعة ان تكيف نفسها وتعالج مشكلاتها وازماتها،ونجد اليوم بان التناقضات الداخلية الاساسية في الراسمالية المعولمة تتعمق وتزداد حدة، اذ لابد ان تنفجر في لحظة ما وستقضي عليها ، ويحل محلها نظام اقتصادي واجتماعي جديد. ان الطريق الى عالمية الراسمالية ، كنظام اقتصادي اجتماعي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية ، لم يجلب للانسانية غير الفقر والدمار والماسي والتخلف ، وخاصة بالنسبة للطبقات الاكثر فقرا والطبقة العاملة والوسطى.ان التطور المتراكم في وسائل الانتاج يؤدي الى تغيرات نوعية في علاقات الانتاج ، وما تفرزه من اوضاع طبقية ، يساهم في تشديد الصراع الطبقي بين البرجوازية اللبرالية والطبقات المتضررة منها. ان حتمية الانتصار التاريخي هو للطبقة الاخيرة في، ظل العولمة الانسانية الاجتماعية العادلة بدلا من العولمة الراسمالية الشرسة، التي سوف تصحح مسار تطور البشرية ، وتقود العالم نحو شاطئ الامان والاستقرار ، وستزدهر فيها العدالة والتقدم والتطور ، وتكون قادرا على التعامل مع مستجدات الالفية الثالثة وعصر ثورة التكنولوجيا المعلوماتية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القمة العربية تدعو لنشر قوات دولية في -الأراضي الفلسطينية ال


.. محكمة العدل الدولية تستمع لدفوع من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل




.. مراسل الجزيرة: غارات إسرائيلية مستمرة تستهدف مناطق عدة في قط


.. ما رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لوقف إطلاق النار في قطاع




.. الجيش الاسرائيلي يعلن عن مقتل ضابط برتبة رائد احتياط في غلاف