الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسالة إلى هتلر

سعدون محسن ضمد

2008 / 11 / 10
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لم يكتشف الخليل بن أحمد الفراهيدي أوزان الشعر ليسجل براءة اختراعه، فالشعر كان قبل أن يكون الفراهيدي. وهو أيضاً لم يضبط الأوزان ليمنح الناس سر الابداع، إذ الابداع لا يوهب. لكن الفراهيدي فعل ما فعل ليضبط شكل هذا الذي نسميه شعراً. وكانت المشكلة يوم توهم البعض أن الفراهيدي مُعلم شعر، وهكذا انصرفوا لدراسة التفعيلة، التي هي نحو من أنحاء الحساب. وهذه نكتة مهمة؛ أقصد أن يقع بين الشاعر وبين الناقد، أبله يعتقد بأن طريق الحساب يوصل إلى الشعر. يُشرق الإبداع من رحمٍ يتجاوز منطق التوقع الإنساني، وعندما يتحقق على شكل منجز، يتحول إلى موضوع للدرس، ما ينزع عنه بريقه الحقيقي، فالناقد يتتبع المرئي والمحسوس، بينما الإبداع غير هذين، ففن الشعر لا يُخْتَصر بحساب الإوزان.
هذه النكتة ترتبط بجميع أنواع الإبداع، وتخبرنا لماذا لا يتكرر الأفراد من العلماء أو الفنانين أو المستكشفين أو غيرهم. فعجيب أن أمثال هؤلاء لا يتكررون مع أن آلاف المعجبين يحاولون تقليدهم ويسلكون طرقهم ويتتبعون أخبارهم.
هذه النكتة يمكن لها أيضاً أن تفسر الفرق بين الأنبياء والفقهاء (مثلاً)، إذ الفقه محاولة لحساب الجهد الإبداعي الكامن في النبوة، ولأن جل النبوة إبداع لا يكتشفه المنطق، لا يقع الفقه على غير شكلٍ بائسٍ لها.
أهمُ ما تفسره لنا هذه النكتة أيضاً هو الفرق بين الزعماء التاريخيين وبين من يحاولون تقليدهم ممن يعتبرون أنفسهم قادة. فهناك فرق بين البحث عن حل للأزمة وبين العناية بشكل القيادة والحفاظ على مظهرها الخارجي المعروف لدى الناس. ها هنا طريقان: الأول منهما يؤدي لإنقاذ الناس، والثاني يؤدي لإرضائهم. وفي الغالب فإن سماع رأي الجماهير والتصرف على وفق هواها يؤدي لهلاكها. فجل رجال التاريخ كانوا ـ أول أمرهم ـ محل غضب ومقاطعة شعوبهم. ولهذا السبب نجد بعض الماسكين بدفة السياسة العراقية ضائعين بين نموذجي غاندي وهتلر. وهذا ما يعرضنا للضياع. فهتلر كان معنياً بأن يكون قائداً، لهذا فقد جننته شعارات البطولة (التي تعجب الناس).. حولته لأحمق كبير.. عربة حديد مدفوعة على سكة عنف. أما غاندي فقد كان معنياً بالأزمة ما أنقذه من هم البحث عن شكل القيادة الكلاسيكي؛ أي العنف. غاندي لم يكن معنياً بما يعجب الناس، ولا كان معنياً بتطبيق الشكل الكلاسيكي للقيادة. لذلك لم يحمل سلاحاً بوجه الانكليز، ولا خاف من تهمة العمالة وهو يتعاطى بمنطقهم. لا بل انحنى أمام عاصفتهم، فقط ليواجها بجبل من الإبداع...
لذلك أجد أن عليك وأنت مسؤول عن القرارات المصيرية، أن تختار بين نموذجي هتلر وغاندي، بين أن يمدحك شعبك يوماً ويلعنك التاريخ دهوراً، وبين أن يتهمك شعبك بالعمالة ويقف التاريخ أمامك متأملاً سر الإبداع فيك.
بحث غاندي عن المنفذ أوقعه على كنز الفرادة، وبحث هتلر عن البطولة أوقعه بمستنقع الجريمة. أما لماذا وكيف اختلف الأمر بين النموذجين. فهذا ما تفسره حكاية الشاعر والناقد والأحمق الضائع بينهما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انشقاق في صفوف اليمين التقليدي بفرنسا.. لمن سيصوت أنصاره في


.. كأس أمم أوروبا: إنكلترا تفوز بصعوبة على صربيا بهدف وحيد سجله




.. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يحل حكومة الحرب


.. الحوثيون يعلنون استهداف سفينتين ومدمرة أمريكية في عملية جديد




.. حجاج بيت الله الحرام يستقبلون اليوم أول أيام التشريق وثاني أ