الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الله والبشر والفيزياء

محمد شرينة

2008 / 11 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كل ما في الكون كيانات أو جمل فيزيائية، بما فيها نحن البشر.
هذا يحمينا من التعالي فنحن مثل أي شيء ولا يمكن أن نكون أفضل.
وهو يحمينا من المهانة فأي شيء مثلنا و لا يمكن أن نكون اقل.
هل نحن إذا مجبورون، سائرون حتما إلى مصير تفرضه قوانين الفيزياء؟
نحن مخيرون في إن نختار ما اخترناه فعلا، هذا لا يعني مطلقا أننا غير أحرار، وهو لا يعني أننا آلهة(أحرار في مجال مطلق غير ظرفي، بمعنى أنه خال من كل ظرف محدد).
صباح ال27 من نيسان في دمشق الحرارة، 026 مئوية،السماء صاحية، الشمس مشرقة، حان الوقت لأن أن أرتدي ملابسي، عندي قمصان ثلاثة: واحد صوفي و الثاني خفيف جدا والثالث ربيعي، سأختار الربيعي مع أن بإمكاني حتما اختيار أي من القميصين الآخرين، ولكنني اختار الربيعي، بعد ذلك سأختار البنطال الرمادي لأنه يناسب ذلك القميص وكذلك الحذاء الأسود لأنه يناسب البنطال، لو كنت سأحضر اليوم مؤتمرا لاخترت أن أضع ربطة عنق وبالتالي أن ألبس معطف خفيف ولكن ليس لدي اجتماع، ومر الشتاء طويلا وأنا أضع ربطات، الربيع جديد وكل شيء مناسب لأريد مزيدا من الانعتاق. لو كنت سأعمل في الحقل لاخترت الحذاء الحقلي والبنطال الذي يناسبه، في كل ذلك أنا حتما قادر على اختيار غير الذي ذكرت.
لو كانت الحرارة أقل من 020 مئوية (وهذا يحدث في مثل هذا الوقت في دمشق)لتغير اختياري للقميص ولاخترت القميص الدافيء والبنطال الذي يتناسب معه و بالتالي الحذاء الذي يناسب ذلك البنطال، بينما لو كانت أكثر من 033 مئوية(وهذا أيضا يحدث في مثل هذا الوقت في دمشق)لتغيرت تبعا له جميع خياراتي أيضا. مع أنني في جميع الحالات قادر على أن أبقي هذه الخيارات أو أغيرها.
كل الظروف تجعلني أختار ما اخترته مع ذلك أنا حر في أن اختار ما اخترته، هذه هي كل المسألة.
لو مات أبي أو أمي قبل ولادتي، أنا لم أكن لأجلس هنا وأكتب هذه السطور، أناحر في أن أكتب هذه السطور أو أقرأ كتاب أو أغادر غرفتي أو ... أو.... و أنا حر لأفعل أي من ذلك لأنني لم أمت حتى الآن ولم يمت أبي ولا أمي قبل ولادتي، ولأن اليوم هو 27 نيسان والحرارة 26 والشمس مشرقة وليس هناك هواء فانا حر لاختار ما اخترته.
نحن جمل فيزيائية وكذلك هو مفهوم الله، وأي فكرة، مفهوم الله يعبر عن اللانهاية، يُقال أن اللانهاية مفهوم رياضياتي، لكنها في نفس الوقت تعبير فيزيائي.
مادمنا نتحدث عن المفاهيم فلنسأل ما هو الغول؟ انه مفهوم ذهني غير موجود واقعيا، هو كمادة مفترضة ولنسميها التالسيوم الذي هو معدن يحوي بروتونات أقل من الكالسيوم وأكثر من البوتاسيوم، نحن نتصور وجوده وربما نضع له خواص اعتمادا على ما يجب أن تكون خواص معدن في هذا الموقع، ولكنه لا يمكن أن يكون موجودا لأن قوانين الفيزياء لا تسمح بوجوده، فهل تصورنا للاموجود هو جملة فيزيائية، نعم كما هي صورة أشجار الحور في البركة وكذلك صورة البركة وأشجار الحور في عيني، ذلك أن قوانين الفيزياء التي تمنع وجود التالسيوم تسمح تصوره، بنفس الطريقة التي تمنع فيها هذه القوانين وجود شجرة حور منتصبة مع أن الجزء من ساقها الذي يصل بين أسفل الساق وقمة الشجرة مفقود، مع أنه يمكن أن تبدو شجرة الحور في البركة بهذه الصورة، أن تبدو شجرة الحور هكذا هو أمر تسمح به قوانين الفيزياء، بينما أن توجد بذلك الشكل فهو أمر لا تسمح به قوانين الفيزياء.

كلنا جمل فيزيائية مما يجعلنا شجعانا فكل ما يحدث هو الذي سيحدث وبنفس الوقت يبعدنا عن الغرور فلن نفعل إلا ما يمكن أن يحدث.
ماذا عن الله؟ هذا المفهوم يطلق على كيانين: فالله الذي نتخيله هو وصفاته وأوامره (الكيان الثاني منهما) هو فكرة بشرية تعبر عن القوة المطلقة المتخيلة، انه المفهوم البدائي لله ،وهو كانعكاس شجرة عملاقة في بقعة ماء صغيرة جدا، وبهذا المفهوم فالله من صنع البشر وهذا هو الله الذي نعاه الفيلسوف الألماني نيتشه، أما الله بالمفهوم الأول وهو المفهوم الأصلي، هذا المفهوم هو ليس مفهوما بالمعنى الذي تحويه كلمة مفهوم، فالله في هذه الحالة إنما هو ذلك الشيء الغير ممكن توصيفه ولا حتى إدراكه الذي ينبعث في النفس البشرية نتيجة الشعور المؤكد للعقل البشري بأن صورة العالم كما هي مفهومة له وبأقصى درجة ممكنة، إنما هي صورة في النقيض من أن تكون صورة لشيء رائع أو جيد أو يمكن أن نحبه أو نشعر تجاهه بأي شعور طيب؛ و في نفس الحين نتيجة للإحساس اليقيني للوجدان البشري بأن صورة هذا العالم كما هي محسوسة من قبله وبأدنى درجة متاحة، إنما هي صورة في غاية الروعة والجودة بحيث لا يمكن إلا إن نحبها بل نعشقها، مجمل هذين الاحساسين يولد شيئا أو توترا أو منطقة غامضة في الذهن البشري الموحد(عقل + وجدان) يطلق على هذا الشيء اسم: الله. انه ربما بشكل أبسط ذلك الفعل الارتدادي(الرد فعل) الذي يتكون في النفس البشرية العاقلة نتيجة التماس مع هذا العالم الامحدود القاسي والرائع في الحين ذاته. وهذا أنما هو الشعور الذي يحتل النفس البشرية نتيجة قدرتها على تصور ذاتها منفصلة عن العالم. هذا لا يصح تسميته بمفهوم وإنما هو شعور، وكل محاولة لتعريفه أكثر أو الاقتراب من فهمه، إنما تكون نتيجتها عكس المقصود منها، انه تماما كرهبة وجلال الظلام الذي تراه بنفس الوضوح أطبقت عينيك أم فتحتهما إلى أقصى مدى ممكن، وكل ما هناك أنك تشعر بوجوده بل بان وجوده أقوى من أي وجود، ومهما فكرت بإضاءة ضوء لتتعرف إليه بشكل أفضل، اختفى كأن لم يوجد، هنا يصبح صحيحا تماما اعتقاد الماديين بأن الله غير موجود، فهم إنما ينظرون إليه من خلال براهين المتدينين التي تحاول إضاءة وجوده فإذا بها تعدمه، كما أنه صادق تماما اعتقاد الروحانيين الذين يقولون أن الله موجود ذلك أنهم يرونه دون أي محاولة لإضاءته.
بهذا المعنى لا فريدريك نيتشه ولا غيره ادعى موت الله، بل هذا شيء لا تقوم الفلسفة إلا بوجوده، وهل للفلسفة والشعر والفيزياء النظرية موضوع أو هَمٌ غيره؟ هذا اله لا يخبر البشر ماذا يصنعون وكيف يأكلون وينكحون، ويتهددهم ويتوعدهم، في نفس الوقت الذي يتودد إليهم و يرجوهم أن يصلّوا له ويمجدوه، هذا الإله الثاني هو الذي أعلن فريدريك موته وحسنا فعل، فبوجوده تموت الفلسفة ويتلوها سريعا العلم وكرامة البشر، ذلك أن الله في مفهومه - إذا صح تسميته كذلك – الأول لا يمكن إلا أن ينتمي إليه كل البشر بل كل المخلوقات بنفس الدرجة، فما سمكة القرش العملاقة أعرف من السمكة الصغيرة بماهية ماء البحر الذي تكونتا منه وظلتا حياتهما فيه، وبالتالي فان أي محاولة يحاول فيها حوت أن يقول لسمكة صغيرة: هذه هي إرادة البحر؛ يجب أن أأكلك، غير صحيحة البتة. والصحيح أنها نزعة البقاء لديه. إن أي دعوى يدعيها بشر بأنه يتحدث باسم الله غير ممكنة، المتحدثون في الواقع لا يكذبون وإنما المستمعون هم الذين لا يفهمون، من الطرق التي يعتمدها الدينيون التقليديون لإثبات أن بعض الأقوال ذات مصدر الهي هي المعجزات. لم يعرف العالم إعجازا يمكن حتى تشبيهه في أدنى حد، بمنتجات العلوم الحديثة الملحدة، فهل هذا دليل على كون الله يأمر الناس بأن يكونوا ملحدين؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بالأرقام: عمليات المقاومة الإسلامية في لبنان بعد اغتيال الاح


.. عبد الجليل الشرنوبي: كلما ارتقيت درجة في سلم الإخوان، اكتشفت




.. 81-Ali-Imran


.. 82-Ali-Imran




.. 83-Ali-Imran