الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بومبو وتوكتو وبدرو

جلال القصاب

2008 / 11 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لا أدري عن أجيالنا الراهنة إن كانت تعرف "بومبو"، لكن أيّامنا وبدرس الجغرافيا غزت قاموسنا ثلاثةُ أسماء غريبة كانت بمثابة أبجديّة تَحسّسِنا العالمية مع "أوادم" غيرنا بمعرفة أحوالهم، من أفريقيا حيث الطفل الأسْود "بومبو"، فالإسكيمو حيث الطفل الأبيض "توكتو"، إلى أمريكا الجنوبيّة حيث الحنطي "بدرو"، لم تعلّمنا المدرسةُ ما دينهم ولُغتهم، فقط أحوال حياتهم القاسية المشابهة لأحوالنا آنذاك.

وكما قال المناضل الشهيد مارتن لوثر كينغ قبل 45 سنة حين عرّفنا "بالإنسان" متجاوزاً اللونَ والدينَ والعرقَ، ونادى بحقّ جميعِه بالحرّية والكرامة والمساواة: "لدي حلمٌ بأنّه بأحد الأيام سوف تنهض أمّتنا وتُحيي المعنى الحقيقي لعقيدتها التي تقول: إنّنا نلتزم بهذه الحقائق ليتّضح بجلاء أنّ الجميع خُلقوا متساوين.. بهذا الإيمان، سوف نستطيع أن نحوّل النشاز المزعج في أمّتنا إلى سيمفونيةِ أخوّةٍ جميلة"!
هذه الأخوّة السيمفونية شهدناها في أمّتنا يوم لم تُوجد بيننا أضغانٌ طائفية ومذهبية وأضيق منها، ونشهدها عموماً بمواسم الحجّ -وهو على الأبواب- حين نتساوى جميعاً بلا ألوان ومذاهب، ونتّشح بالأبيض شعاراً لسلام الأخوّة، فلا سيّد وعبد، ولا أبيض وأسود، ولا سنّي وشيعي.

لا أدري أيّ لوثة حمقاء ضربت الإنسان فأقنعته ليميّز نفسه استكباراً بالألوان وباللغات، وهو يرى أخاه كنفسه، لا يختلف عنه إيماناً وجهداً وذكاءً ومشاعر، هل قشّر جلده ليرى الدونيّة تحته؟ هل راجع المستشفيات ليرى لديها علاجٌ خاص للبيض دون السود، وللعرب دون العجم؟ هل جهازه البيولوجي والسيكولوجي أفضل؟ أم فصيلة دمه أندر؟ أمشاعره عند الفرح والحزن والفجائع والآلام فوق مشاعرهم؟ هل أثبت التاريخ والعلم (دعك من تحريفات دينية) جنساً متفوّقاً بالفعل؟ وعشيرة وديناً ومذهباً يستحقّون الشرف والتصفيق لجميع مجاميع منتميهم دون غيرها، بحيث أنّ وضيعَهم وتافههم أفضل من شرفاء وفضلاء الآخرين؟!!
لا، ليس شيئا من ذلك السَّفَه، فلذا جاءت الأديان وأرسى العقلاءُ العهود والشرائع لإنهاء آثار هذه الحماقات التي أشاعتْ التمييز والظلم والعدوان، لتُقطع هذه الشجرة الخبيثة، وتُغرس مكانها أخرى طيبة ومنطقيّة تجعل الأفضلية لفضيلةِ "التقوى"، التي لا تعني مذهبًا بعينه وشعائر، بل مشاعر وأخلاقًا إنسانية تختزن الخير للآخر وتنفي شرّ النفوس.
لو جرّدنا البشر من كلّ الإضافات؛ مِن ثيابه، ومن وضعه الاجتماعي وشخصيّته، من لونه ولغته، من إرثِه وأملاكه، من قبيلته وفصيلتِه، من أشياعِه وأتباعه، من جنسه واسمه، من شكله وشهادتِه، من دينه وطائفته، كأنّنا نحشره كيوم القيامة مقطوعاً من كلّ الملحقات، فقد حشرنا "الإنسان"، ولن يبق أمامنا منه إلا المشاعر والنوايا، أيْ ما يختزنه قلبُه السليم أو السقيم، أمّا تلك الزيادات التي تفاخرنا بها وتكاثرنا وتنافخنا وتباغضنا، فقد كانت وسائط لتحسين إنسانيّتنا أو لتشويهها، و"إنسانيّتنا" محلُّها القلب، حيث تتفاوت أخلاقه مِن: "امتنان، حسد، حقد، بغض، حبّ، رحمة، حياء، تواضع، تكبّر، رضا، سخط..."، هذا هو جوهرنا الحقيقي الذي به يُكرم إنساننا أو يُهان.

لقد قال السيّد المسيح مرّة "إن لم تصيروا مثل الأطفال فلن تدخلوا ملكوتَ السماء"، الأطفال لا يفرّقهم لونٌ ولا مذهب، الأطفال "بدرو" و"توكتو" و"بومبو" كائناتٌ "إنسانية" على فطرتها، تشقى لمعائشها، ليس بينهم معارك وأحقاد شخصيّة وأيديولوجية، ولو تقابلوا لتعارفوا وتصادقوا.
والشعوبُ كالأطفال، لا يُوجد شعبٌ يشنّ حربًا على شعب، يُوجد زعيمٌ/نظامٌ سياسي (أو ديني) يهيّج شعبه ويسوقه لاجتياح شعوب أخرى، كما فعلت أوروبا قديما (باسم الصليبية ثمّ الإمبريالية) وأمريكا حديثا، و"الناس على دين ملوكهم" السياسيين والطائفيين والدينيين أشبه بالطفل لأبويه يهوّدانه ويمجّسانه أو يستلبان فطرته ووداعته، وإنّ أسوأ أكاذيبهم ونكباتنا أن يغرسوا فينا الشرّ باسم الخير، والفرقة والاستعلاء والتباغض باسم الدين، وغزو الأوطان باسم نشر الحريات، وسرقة الجيوب باسم الإصلاح الاقتصادي.

لقد اجتمعتْ أغنى اقتصاديات العالم، بقمّة العشرين التي شكّك محلّلون بنتائجها وقالوا "أنّها مليئة بالنوايا الحسنة وخالية من أيّة نقاط عمليّة لإنقاذ الاقتصاد العالمي"، وتهكّم عليها الفنزويلي شافيز لأنّ المُستضيف هو السارق الذي صنع الأزمة فكيف يحميها حراميها؟! أمّا جورباتشوف الرئيس السوفياتي السابق فأنحى باللائمة على أمريكا إذ: "أنّ أنانية حفنة أناس وفقدانهم لحسّ المسئولية تسبّبا بمعاناة الجميع" بحيث أنّ "36 مليار دولار كانت حصيلة مكافآت مسئوليّ كبريات مصارف وول-ستريت العام الفائت"!

أمّا في مؤتمر حوار الأديان بنيويورك، فاجتمع ملوك السياسة والدين السياسي، وبرّأوا ساحة الأديان من دنس الكراهية والإرهاب، وهذا أمرٌ نعرفه كشعوب، ولكن هل يستطيعون تبرئة الزعامات الذين ينطقون باسم الأديان ويلوون نصوصها لأهوائهم وعصبيّاتهم، وهم بعضُ نماذجهم؟ و"بوش" والصهاينة الحاضرون بأوزارهم هناك أبرز أمثلتهم؟ أولئك الساسة الذين يرعون مشايخ وحاخامات وأبواقاً هم الذين يسوقون شعوبهم للتباغض بألوية الشرائع، وبحروب صليبية ويهوديّة ومذهبية.
بوسعنا القول أنّ القوم الذين بغضوا أقواماً أخرى واستباحوها، كانوا سيصبحون أحسن حالاً لولا وجود زعاماتهم السياسية والدينية، لقلّت شرورهم ولعادوا لفطرتهم وللانشغال بكدّ معاشهم، ولما خُدعوا بتحويلهم إلى مجاميع غوغاء يُحشدون بنار الكراهية لاجتياح مختلفين عنهم بالرأي والمذهب واللون والعنصر والمنطقة من أمثال "بومبو" و"توكتو" و"بدرو" عليهم الرحمة.













التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية


.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟




.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي




.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ