الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقد ماركس للسماء ونقد الأرض

غازي مسعود

2008 / 12 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


(فيما يلي ترجمة كاملة للفصل الخامس من كتاب " نقد التصميم الذكي: المادية في مواجهة الخَلقية منذ العصر القديم إلى العصر الحاضر" Critique of the Intelligent Design: Materialism versus Creationism from Antiquity to the Present الذي نشرته دار نشر "منثلي ريفيو"، نيويورك، في شهر تشرين أول (أكتوبر) 2008. وقام بتأليف الكتاب ثلاثة من الكتاب هم: جون بيلامي فوستر John Bellamy Foster، رئيس تحرير مجلة "منثلي ريفيو" وأستاذ علم الاجتماع بجامعة
أوريغون؛ وبرت كلارك Brett Clark، أستاذ مساعد في علم الاجتماع بجامعة نورث كارولاينا؛ ورتشارد يورك Richard York، مساعد رئيس تحرير مجلة "التنظيم والبيئة" وأستاذ مشارك في علم الاجتماع بجامعة أوريغون.)

مقدمة

في الأعوام الأخيرة، صَعَّدت حركة التصميم الذكي intelligent design، أو، بتعبير أدق، الخََلقيَّة creationism، هجومها على تعاليم نظرية التطور، في مدارس الولايات المتحدة الأمريكية العامة، مُتَّبعة "استراتيجية دق إسفين" طموحة تهدف تغيير مفاهيم العلم والثقافة في المجتمع الأمريكي. وكما شرحنا في كتابنا " نقد التصميم الذكي: المادية في مواجهة الخَلقية منذ العصر القديم إلى العصر الحاضر"، أعاد هذا التصعيد إشعال نار 2500 عام من الجدال بين المادية والخَلقية، بين العلم والتصميم. ويمكن إرجاع تاريخ فكرة التصميم (محاولة استكشاف برهان على وجود التصميم في الطبيعة، وبالتالي وجود مُصَمِّم) إلى سقراط Socrates في القرن الخامس قبل الميلاد. وفي الوقت نفسه، يمكن إرجاع تاريخ الرأي المادي المناقض (القائل إن العالم يُفَسِّر نفسَه بنفسه، بالرجوع إلى الأوضاع المادية والقوانين الطبيعية والظواهر المتطورة المنظورة، وليس باالتضرع لعليّ قدير) إلى القرن الخامس قبل الميلاد أيضاً، كما الأمر واضح في كتابات الذِّرِيَّين ليوسيب Leucippus وديموقريط Democritus. هذا وقد تم تطوير وجهة النظر الأخيرة، فلسفياً، إلى نقد شامل لفكرة التصميم على يد أبيقور Epicurus في القرن الثالث قبل الميلاد، وهو نقدٌ أثّر لاحقاً في ثورة القرن السابع عشر العلمية.

وفي هذه الأيام، يؤكد مؤيدو فكرة التصميم الذكي، مِثل وليام دمبسكي William Dembski، كبير زملاء مركز العلم والثقافة التابع لمعهد الاكتشاف القائم في مدينة سياتل الأمريكية، أن أسس الأراء المادية الفلسفية التي يعارضونها تعود إلى أبيقور في العصر القديم (إذ يلاحظ دمبسكي، مُرَجِّعاً صدى تلميذ أبيقور الرومي في القرن الأول قبل الميلاد، لوقريط Lucretius، أن "كل الطرق تقود إلى أبيقور وإلى قطار الفكر الذي أَطلقَ حركته"). ورغم ذلك، يقال إن أعداء التصميم الذكي الماديين العظام الثلاثة في الأزمنة الحديثة هم داروين Darwin وماركس Marx وفرويد Freud. فداروين أول من استخدم تعبير "التصميم الذكي" بمعناه الحديث، بينما طوَّر ماركس وفرويد نظريات نقدية مادية للدين والتصميم.

وفي هجومهم على التطور والمادية، يؤكد مؤيدو التصميم الذكي أن العالم مُحَدَّدٌ جداً ومُعَقَّدٌ جداً ليمكن اختزاله وإرجاع سببه إلى "صدفة محضة" pure chamce. وعلى العكس من ذلك، حاجج المفكرون الماديون الجدليون dialectical materialists، منذ العصر القديم إلى الزمن الحاضر، بأن العالم لا تحكمه الصدفة المحضة (ولم تنتجه الحتمية الميكانيكية الصارمة mechanical determinism، بل يتَّسم بالاحتمالية، أي الانحيادات التاريخية عن الظروف البنيوية، الأمر الذي يؤدي، عبر الزمن، إلى بروز ظواهر تحوّل نوعي: وفي نظرية داروين من خلال عملية انتخاب طبيعي natural selection. فمن وجهة النظر المادية، تتمثل النقطة الحاسمة في أن العالم لا تحكمه غائيَّة مقدسة. أو دوافع آخِريّة، أو عقلٌ متعالٍ، بل إنه، رغم ذلك، قابل للفهم بظروفه نفسها، وينشأ "دون مساعدة الآلهة" وفق تعبير أبيقور الشهير.

وكما تم سرده في الفصل الخامس من "نقد التصميم الذكي ..."، المعاد طبعه أدناه، في عدد شهر تشرين أول (أكتوبر) من مجلة "منثلي ريفيو"، كان ماركس، منذ سنِّه المبكرة جداً، منخرطاً بعمق في هذا الجدال الذي ظهر منذ العصر القديم إلى القرن التاسع عشر. ولذا طوَّر نقداً للسماء كشرط مسبق لنقد الأرض. وهذا ما جعله خصماً أساساً لمؤيدي التصميم الذكي إلى اليوم الحاضر.

- جون بيلامي فوستر، برت كلارك، رتشارد يورك.
نقد السماء:

لاحظ ماركس أن "المسيحية لا يمكن مصالحتها مع العقل [كما تجسَّد في علوم عصر التنوير] لأن العقلين ’العلماني’ secular و’الروحي’ spiritual يناقضان بعضهما بعضاً." 1 وكان ماركس ناقداً حاداً للغائيّة teleology وفكرة التصميم، إذ رأى أنهما محاولتان مغتربتان لتقديم أساس عقلاني في الطبيعة لسلطة الله على الأرض، وبالتالي لتبرير السلطات الأرضية كلها. ووقف ماركس إلى جانب أبيقور الذي وصفه في أطروحته للدكتوراة بأنه "أعظم ممثل للتنوير الإغريقي." 2 ولذا، ظلَّ ماركس، مع داروين وفرويد، هدفاً لمؤيدي التصميم الذكي في هذه الأيام، أولئك الذيـن يعيـدون ذنـوب الثلاثة الفكرية إلى أبيقور. 3

وكان نقد الدين عند ماركس نقطة بداية حاسمة لنقد أعمّ لـ"عالم مقلوب" كان الدينُ فيه "نظريةً عامة" و"وجيزاً موسوعياً." فكما قال سنة 1844 في كتابه "مقدمة لنقد فلسفة الحق عند هيغل": " يتحول نقد السماء إلى نقد الأرض، ونقد الدين إلى نقد القانون، ونقد اللاهوت إلى نقد السياسة." 4 وكان نقد الدين (ومعه نقد الاقتصاد السياسي) ما جعل الفلسفة والعلم ممكنين، ووسم أيضاً تطور فكر ماركس الخاص.

انحدر ماركس من إرث ربوبي لوثري يهودي خليط. كان والداه لأمه ولأبيه حاخامين، وكان جميع حاخامات "ترير" Trier منذ القرن السادس عشر فصاعداً أسلافه. ولكن أباه، هنريك ماركس Heinrich Marx، تحوّل إلى اللوثرية سنة 1817، قبل عام من مولد كارل ماركس، كي يستطيع الاستمرار في مهنته مُحامياً في الدولة البروسية التي كانت ستمنع عليه الوظيفة لو بقي يهودياً. وكان أن أصبح هنريك ماركس ربوبياً مخلصاً وصفه إدغار فون وستفالن Edgar von Westphalen (الذي أصبح مستقبَلاً زوج أخت كارل ماركس) بأنه "بروتستانتي من نمط لسنغ Lessing" (غوتهولد إفرايم لسنع Gotthold Iphraim Lessing الكاتب والفيلسوف والمسرحي الألماني 1729 – 1781). اعتنق هنريك ماركس فكرة التنوير، وكان باستطاعته تلاوة كتابات فولتير Voltaire وروسو Rousseau عن ظهر قلب، وحض ابنه على الصلاة لـ"العلي القدير" وأن "يتّبع أفكار نيوتن ولوك ولبنتس Newton, Locke and Leibniz." ونحن لا نعرف معتقدات والدة ماركس، هنريبتا Henrietta، بالقدر الذي نعرف فيه معتقدات أبيه. ويبدو أنها كانت مرتبطة أكثر بمعتقداتها اليهودية، على اختلاف جزئي مع والديها، ولم تُعمَّد حتى سنة 1825 (بعد عام من تعميد كارل) عند وفاة والدها. ووقع ماركس الشاب تحت تأثير البارون لودفغ فون وستفالن Ludgwig von Westphalen (حموه مستقبلاً) الذي أطلعه مبكراً على أفكار الاشتراكي الطوباوي سان سيمون Saint-Simon.

تعلّم ماركس في"جمنازيوم فردريك فلهلم" Friedrich Wilhelm Gymnasium (مدرسة ثانوية) في ترير، وهي مدرسة يسوعية سابقاً، كان أربعة أخماس تلامذتها كاثوليك. وفي سنة 1835، حين كان ماركس في السابعة عشرة من عمره، طُلب منه كتابة ثلاث مقالات يقتضيها تخرجه من المدرسة. وكان على واحدة منها أن تُكرّس لموضوع الدين. كتب ماركس عن "اتحاد المؤمنين بالمسيح، وفقاً ليوحنا 15: 1-14، لإظهار أساس الاتحاد وجوهره، ضرورته المطلقة وأخلاقياته." عَرضت الورقة الحجّةَ اللوثرية الثالوثية حول ضرورة الاتحاد بالمسيح كهدف للتاريخ. اختتم ماركس ورقته بتقرير أن ذاك "الاتحاد بالمسيح يمنح متعةً يسعى الأبيقوري بلا طائل للحصول عليها من فلسفته العابثة أو المُقكر العميق من أكثر أعماق المعرفة خفية." ويعني هذا التركيز المبكر على المسيح، في معارضة للأبيقوريين وفلاسفة آخرين، أن ماركس الشاب كان حتى في ذاك العمر المبكر مهتماً بمادية أبيقور ونقدِها لفكرة التصميم؛ واتضح ذاك الاهتمام أكثر بعد ستة أعوام في أطروحته للدكتوراة عن أبيقور، تلك الأطروحة التي غيّر فيها موقفه الذي طرحه في تلك الورقة التي قدّمها للمدرسة الثانوية، وتبنى فيها نقد التصميم. كُتبت ورقة ماركس المدرسية في نفس العام الذي نشر فيه ديفد شتراوس David Strauss كتابه "حياة يسوع" Life of Jesuss الذي شكل نقطة بداية للهيغلي الشاب (ماركس) في نقده للدين (وذاك العام هو العام نفسه الذي بُنيت فيه سكة الحديد في ألمانيا). 5

بعد مقالاته المدرسية الثلاث، كان العمل الثاني الذي انبثق من قلم ماركس هو رسالته الرائعة إلى والده، التي كتبها من برلين في شهر تشرين ثاني (نوفمبر) 1837. وفيها يصارع ماركس فلسفة هيغل ويجد في بواطنها الداخليـة ما لا يُسر، فقد استوعبها تماماً لكنه أيضاً قاومها جزئياً لمضمونها المثالي. كتب يقول، "إذا كانت الآلهة تسكن سابقاً فوق الأرض، فقد أصبحت الآن [عند هيغل] مركزها." فها هنا فلسفة "تبحث عن الفكرة في الواقع نفسه." ولكن رغم تأثيرها القوي الواضح على فكره، شعر ماركس أنه "وقع بين ذراعي العدو" وأنه "صنع صنماً من رأي كرهه". وفي الوقت نفسه، التحق ماركس بالهيغليين الشبان "نادي الدكاترة"، الذي ناقش، دون انقطاع، فلسفة هيغل ونقده للدين. 6

وفي خضم صراعاته مع فلسفة هيغل، انتقل ماركس إلى "الدراسات الوضعية،" مدققاً في أعمال فرانسيس بيكون Francis Bacon واللاهوتي الطبيعي الألماني هرمان ساميول ريماروس Hermann Samuel Reimarus. وطبعاً لا يمكن الشك في تأثير بيكون الكبير على تفكير ماركس. فماركس اعتبر بيكون النظير المادي المعاصر للذّريَّين القديمين، ديموقريط وأبيقور. 7 وفي نهاية ثلاثينيات القرن التاسع عشر ومطلع أربعينياته، وبفارق بضعة أعوام بينهما، تبنى ماركس وداروين بوضوح رأي بيكون المناقض للغائيّة، المُستمد من الماديين القدماء، والقائل إن أي مفهوم للطبيعة يرجع جذره إلى الغايات النهائية "عقيمٌ، مثله مثل فتاة عذراء يُضحّى بها لله ولا ينتج عن تلك التضحية شيئاً." 8 وكان ماركس، دون شك، متأثراً بقوة بتناول هيغل المكثف، في كتابه "تاريخ الفلسفة" History of Philosophy، لنقد بيكون للغايات النهائية (على سبيل المثال فكرة أن النحلة مُزودة بإبرة لاسعة لحماية نفسها) المناقضة للغايات الفعّالة. ففي تقديمه لنقد بيكون للتصميم الذكي، وصفه هيغل بأنه الممثل المعاصر لحجة "تملك نفس القيمة [المعارضة للخرافة بعامة] التي وجدناها في الفلسفة الأبيقورية." 9

بهذه الطريقة، أثّر الصراع العظيم بين المادية والمثالية، بين العلم والغائيّة، المتعلق بتفسير الطبيعة، مبكراً على فكر ماركس من خلال بيكون، وعمّقته دراساته لهيغل. وكما وصف فردريك إنجلز Friedrich Engles الأمر، "وضعت" مادية القرن الثامن عشر التنويرية "الطبيعة بدلاً عن الإله المسيحي في موضع المطلق الذي يواجه الإنسان." وقد اشتُقت هذه المادية من رفض الدوائر العلمية لحجة التصميم التي نادى بها الدين المسيحي ولجميع النظريات المثالية التي اعتمدت الحُجج الغائيّة. وكما عبر إنجلز عن ذلك مُفحِماً: "هل خلق الله العالم أم كان العالم موجوداً منذ الأبد؟" الجواب الذي أعطاه الفلاسفة عن هذا السؤال شقّهم إلى معسكرين كبيرين. فأولئك الذين أصرّوا على أولوية الروح على الطبيعة، ولذا افترضوا، في التحليل النهائي، خلق العالم بشكل أو بآخر – (وفي الأغلب أن يصبح هذا الخلق، عند الفلاسفة، ومنهم على سبيل المثال هيغل، أكثر صعوبة واستحالة مما هو في المسيحية) – شكلوا معسكر المثالية. أما الآخرون، الذين قالوا بأولوية الطبيعة فينتمون إلى مدارس المادية المختلفة. ولا يدل هذان المصطلحان، المثالية والمادية، على أكثر من هذا؛ وهنا أيضاً لا يُستعملا بأي معنى آخر. 10

وإذا برزت مسألة مناقضة المادية للمثالية في دراسات ماركس لسنة 1837، فليس أقل من ذلك صحة أن تبرز في قراءاته لريماروس سنة 1837. وقد اشتهر هرمان ساميول ريماروس في أيام ماركس بما نُشر له بعد وفاته بعنوان "بقايا ولفنبتل" Wolfenbüttel Fragments (1774 – 1778) القائمة على ما كتبه بعنوان "اعتذار" Apology أو "دفاعاً عن عباد الله المنطقيين" In Defense of Reasonable Worshippers of God. ممثلة نقداً ربوبيا عقلانيا لدقة الوحي الكتابي فيما يتعلق بالمسيح ورفضاً لآلوهيته (دعا ريماروس المسيح "مُخلِّصاً علمانياً")، أثارت "بقايا" غضباً في ألمانيا، يشبه الغضب الذي لقيه كتاب ديفد شتراوس "حياة يسوع" في القرن اللاحق. 11 ورغم ذلك، وفي حياته، عُرِف ريماروس أساساً بعمله عن المنطق و – ما هو أكثر أهمية بالنسبة لماركس – بعمليه الأساسين عن اللاهوت الطبيعي وعن غرائز الحيوانات : عمله لسنة 1754 "الحقائق الأساس للدين الطبيعي كما تم الدفاع عنها وشرحها في تسع أطروحات دُرست فيها اعتراضات لوقريط وبفون وموبيرتيوس وروسو ولا متريه وأتباع آخرون لأبيقور قدماء ومعاصرون ودُحضت مبادئهم The Principal Truths of Natural Religion Defended and Illustrated, in Nine Dissertations: Wherein the Objections of Lucretius, Buffon, Maupertuis, Rousseau, La Mettrie, and Other Ancient and Modern Followers of Epicurus are Considered, and their Doctrines Refuted؛ وكتابه لسنة 1760 "غرائز الحيوانات" Drives of Animals. 12

كان ريماروس واحداً من أتباع اللاهوتي الطبيعي الإنجليزي جون ري John Ray وكتب أطروحة مختصرة سنة 1725 داعماً فيها حجة ري عن التصميم. وتأثير ري واضح في مجمل عمل ريماروس "حقائق الدين الطبيعي الأساس". وفيه حوّل مجازَ ري عن ساعة الحائط إلى مجازٍ عن ساعة اليد قبل ما يقرب من نصف قرن من توظيف وليام بيلي William Paley الشهير لمجاز ساعة اليد في عمله "اللاهوت الطبيعي" Natural Theology (1802). فكما كتب ريماروس:

"افترض أنه قد تمّ إطلاع هوتنتوت Hottentot[أحد سكان جنوب أفريقيا الأصليين]، الذي لا يعرف شيئاً عن استخدام ساعة يد، على داخل الساعة: الزنبرك، السلسلة، العجلات، باختصار، جميع إجزائها ونظامها؛ والآن دع صانع ساعات يعطيه تعليمات، كي يكون، مع الزمن، قادراً على صنع ساعة؛ ورغم ذلك أؤكد، أن رجل الهوتنتوت، إن لم يتم تعريفه بكيفية استخدام الساعة، فلن يعرف ما هي الساعة. إنه لا يعرفها جوهرياً؛ إنه جاهل بتصميمها وبنائها الكلي. ذلك أنه لو لم يتم إدراك كيفية استخدامها سابقاً في ذهن الفنان الذي صنع ساعة، كشيء معقول، فإن مثل تلك الآلة ما كان لها أبداً أن تُصنع، ما كان لها أن تكون جاهزة مبنية بمثل هذه الطريقة."

استخدم ريماروس هذه الحجة ليستنتج أنه كما أن الساعة كانت آلة صممتها البشرية لتستخدمها ، كذلك فإن كامل آلة العالم غير الحي لا بد وأن الله صمَّمها لغرض؛ لتستخدمها الكائنات الحيَّة. 13

وكان دافع كتاب ريماروس "حقائق الدين الطبيعي الأساسس" الأكثر أهمية مواجهة النقد الأبيقوري القديم للتصميم الذكي وممثليه المعاصرين.ولذا جادل ضد "الصدفة العمياء" الأبيقورية لصالح "حكمة الله وتصميمه." ووفق ريماروس، تتلخص جريمة فلسفة أبيقور الكبرى بأنها "تنفي الله إلى الفضاءات القائمة بين العوالمIntermundia,” تاركة إياه دون علاقة بالعالم. ففي الأطروحات الأربع الأولى من "الأطروحات" التسع التي شكّلت هذا العمل، شغل ريماروس نفسه أساساً بمهاجمة حجج أبيقور نفسه، بينما تناول في الأطروحات الأربع المتبقية أتباع أبيقور الماصرين (مثل بفون، موبيرتيوس، ولامتريه). وأعلن ريماروس، مُجادلاً ضد فكرة الخلق العفوي للحياة من الأرض، ومعارضاً بشكل مباشر رأي أبيقور: "لا يمكن الاعتماد بطريقة طبيعية على أن أصل البشر وحيوانات أخرى هو الأرض ... فليس للأرض حق في أن تُسمى أُمّنا العامة جميعاً." 14

وكانت الأطروحة الخامسة من كتابه "حقائق الدين الطبيعي الأساس" المكان الذي طوّر فيه ريماروس "البرهان العام" على الغايات النهائية، مُركزاً على غرائز الحيوانات الداخلية، ومميزاً إيّاها من المعرفة البشرية القائمة على الخبرة. وحاجج بأن الحيوانات حصلت على العقلانية الواضحة في هذه الغرائز الداخلية من الله مباشرة، وليس نتيجة أسباب مادية. وعلى سبيل المثال، قال وهو يكتب عن النحل، "من المؤكد أن أي جزء من الطبيعة لا يُبدي قدراً أعلى من توجيه العليّ مما تبديه النحلة التي لا تشكل فقط خلاياها السداسية بأكثر ما تكون انتظاماً وأبعاداً، بل وتقوم ببنائها كأنما تعلّمت أكثر أشكال الهندسة والدقة صقلاً." وعلى النقيض من ذلك، "حينما يأتي البشر إلى العالم في البداية، لا يكون لديهم إلا بضعة أفكار أو لا أفكار على الإطلاق، ولا يملكون مهارة أو قدرة على تنفيذ أية خطة ، ولكنهم يحصلون عليها بالاختراع والتدريب ... اللذين يحصلوا عليهما بتكرار التجارب والممارسة الطويلة." وفي الواقع، عمِلت الكائنات البشرية، "لآلاف الأعوام، موحدة القوى، لتخترع فنونها التي وصلت ببطء إلى درجة كمالها الراهنة؛ ورغم ذلك لا يمكن أن يُقال إننا ننفذ ما هو ضروري لنا بأسلوب كامل كما يفعل كل حيوان، بطريقته الخاصة، فوراً بعد مولده."

وكان هذا كافياً ليقرر ريماروس الحقيقة التالية: "إن الحيوانات مدينة بكل مهاراتها لعقل أعلى." وعازفاً على الافتراض المادي القديم، الذي طوّره أبيقور بثبات، والقائل "إن شيئاً لا يأتي من لا شيء،" حاجج ريماروس قائلاً، "من اللاشيء لا يمكن إدراك شيء أو اختراعه" – ومن هنا لا بد وأن مرَّد غرائز الحيوانات الداخلية "إلى حكمة خالقها العليّ." 15

بعد ذلك بستة أعوام، في كتابه "غرائز الحيوانات"، وسّع ريماروس هذه الحجة التي نصّت عليها "الأطروحة الخامسة" من كتابه "حقائق الدين الطبيعي الأساس" إلى سيكولوجية حيوان أعم. وهنا نجد الحجة عن التصميم وهي تُدفع أكثر إلى الخلف ويتم تبني حجة أكثر علميَّةً، علماً أن ريماروس لم يتخلّ أبداً عن أرائه اللاهوتية الطبيعية. "فعند ريماروس الناضج، لا يتم العثور على تفسير لسلوك الحيوان في المعارف غير المادية التي زرعها إمّا الله أو الخبرة، بل في ... التنظيمات السيكولوجية الداخلية المسماة غرائز." وبالنتيجة سُمِّي ريماروس "مُكتشف مفهوم الغرائز" في علم النفس. 16

بعامة، تجاهل علم النفس نظرية ريماروس عن الغرائز حتى القرن العشرين، ولكنها أثّرت تأثيراً مهماً على ماركس الذي كثيراً ما وظّف المُكوِّن السيكولوجي لنظرية ريماروس عن الغرائز وهو يميِّز بين الكائنات البشرية والحيوانات. واستخدم ماركس، مُستلهماً ريماروس جزئياً، مقارنته الشهيرة للنحل كمنهدسات طبيعيات ليبرز تميُّز العمل البشري. يقول، "يقوم العنكبوت بعمليات تشبه عمل حائك، وتجعل نحلةُ كثيراً من أعمال الهندسة البشرية مُخزياً حين تبني خلايا أقراص عسلها. غير إن ما يُميِّزُ أسوأ مهندس من أفضل نحلة هو أن المهندس يبني الخلية في ذهنه قبل أن يبنيها في الشمع." من الواضح أن ماركس ، كما أشار هو نفسه، درس ريماروس عن كثب، بما في ذلك لاهوته الطبيعي ونقده للمادية الأبيقورية: وتلك مسائل كانت مركزية في تحليل ماركس منذ البداية. 17 ورغم ذلك، ما كان لماركس إلا أن يكون قليل الصبر مع لاهوت ريماروس الطبيعي. ولذا أشار بازدراء إلى "الغائيّين الأوائل" الذين كانت النباتات عندهم "موجودة لتأكلها الحيوانات، وأن الحيوانات موجودة ليأكلها الإنسان." 18

فضَّل ماركس الإيمان بالله النيوتوني Newtonian [نسبة إلى إسحق نيوتن Isaac Newton] على لاهوت ريماروس الطبيعي في "الحقائق الأساس" وعلى "أفضل عوالم ليبنتس الفلسفية". ففيما يتعلق بجدال القرن السابع عشر بين ساميول كلارك Samuel Clarke (ممثلاً نيوتن) وليبنتس، وقف ماركس بكل وضوح مع التزام كلارك/ نيوتن الأعظم بالمبدأ العلمي – كاتباً "برافو، يا نيوتن العجوز!"ً مستجيباً لموقف نيوتن في عمله "المبادئ الأولية" Principia " (المُقتبس في مراسلات ليبنتس- كلارك)، الذي أنكر فيه بقوة بأن الله "روح العالم" مناقضاً بذلك فكرة أن الله يملك سلطة على الأرواح باعتباره "الملك المطلق." وكان موقف نيوتن اعترافاً جزئياً (في المجال الطبيعي) بانفصال العلم عن الدين. 19

وتقود هذه الاهتمامات بالمادية والتصميم ماركس إلى أطروحته للدكتوراة. فقد انتهى من كتابة "الفرق بين الفلسفتين الديموقريطية والأبيقورية عن الطبيعة" The Difference Between the Democritean and Epicurean Philosophy of Nature، وقُبلت سنة 1841، علماً أنه بدأ عمله فيها سنة 1839، حين بدأ بكتابة مفكراته السبع عن الفلسفة الأبيقورية. وتضمَّنت أطروحته أيضاً ملحقاً بعنوان، "نقد سجال بلوتارك للاهوت أبيقور"، Critique of Plutarch’s Polemic Against the Theology of Epicurus، الذي لا نملك منه إلا بضع صفحات فقط بالإضافة إلى ملاحظاته التي أعدّها للملحق. ( ومفقودٌ أيضاً من الوثيقة الموجودة الآن الفصلان الأخيران من الجزء الأول من الأطروحة، ما عدا جزءٌ من الملاحظات المعدّة للفصل الرابع المفقود.)

ولم تعتنِ أطروحة ماركس، رغم عنوانها، إلا قليلاً بفلسفة ديموقريط التي كانت فقط مُنطلقاً لتحليله لفلسفة أبيقور. وكما أوضح الفيلسوف بول شيفر Paul Schafer، فـ"إن جوهر الأطروحة، أي مضمونها الذَّري أو المادي، أبيقوري، بينما منهاجها التحليلي، أي المنهاج الجدلي المستخدم للنظر في تلك الأفكار الجوهرية، هيغلي. والنتيجة هجين رائع يُقدِّم لنا صورة مُنَوِّرَة لأصول وجهة نظر ماركس الفلسفية": أي الصراع بين المادية والمثالية الذي حكم فكره. فقد أُعجب ماركس كثيراً بمادية أبيقور، بـ"ذّرِّيَته الجدلية" (كما يوضِّح شيفر)، بنقده للغائيّة والحتمية، وفوق كل شيء بفلسفته التحررية. وربما لم يجذب أي شيء آخر ماركس إلى أبيقور كما جذبته مواقف الأخير (التي جمعها ماركس من مصادر قديمة): يقول "الصدفة هي ما يجب قبوله وليس الله، كما تؤمن الكثرة" ... "ومن سوء الحظ العيش في الضرورة، ولكن العيش في الضرورة ليس ضرورياً. ففي جميع الجهات، تنفتح ممرات قصيرة سهلة إلى الحرية. ... ومن المسموح طبعاً قهر الضرورة نفسها." 20

وكما كتب إنجلز لاحقاً: "في حين أدت الفلسفة الإغريقية الكلاسيكية، في شكلها الأخير- بخاصة في المدرسة الأبيقورية – إلى المادية الإلحادية، أدت الفلسفة العاميّة الإغريقية إلى عقيدة الإله الواحد الأحد وخلود الروح البشرية." 21 فأثناء حياته، وفي مناظراته المتعلقة بمعارضة العلم الطبيعي للدين، انضم ماركس إلى الصراعات والمعضلات التي واجهها أبيقور، وإلى التقليد المادي التجريبي الذي سطع على يديه. ففي تعليق على أطروحة ماركس للدكتوراة، يشير اللاهوتي آرند ثي فان ليووين Arend Th. Van Leeuwon، "بمعنى ما، يعمل أبيقور كنسخة مزدوجة عن ماركس. ففي كل مرة يُذكر فيها اسم أبيقور، نجد أنفسنا نفكِّر في ماركس وهو يعكس معضلاته الخاصة في مرآة الفلسفة الإغريقية." 22

وفي القلب من المادية، ظهر نقدٌ للفكرة القائلة إن عقلانية العالم مرجعها الآلهة. ومن هنا، كانت أطروحة ماركس للدكتوراة عن أبيقور معالجة للجدل المادي ونقداً للدين في الآن نفسه. ففي "مقدمة" ما كان ينوي أن يكون نسخة النشر من أطروحته، شبَّه ماركس أبيقور ببرومثيوس Prometheus (كلاهما نشر النور) وأكد: "إن اعتراف برومثيوس: ’بكلمات بسيطة، إنني أكره جميع الآلهةً’ [أسخيلوس، "برومثيوس مُقَيَّداً" Aeschylus, Prometheus Bound]، هو اعترافه [الفلسفي]، قوله المأثور ضد كل أرباب السماء والأرض الذين لا يعترفون بأن الوعي الإنساني الذاتي هو الإلوهية الأعظم. ولن يكون له آخر إلى جانبه."
مُبرراً تضمينه ملحقاً لإطروحته، كتب ماركس: "إذا كان نقدٌ لسجال بلوتارك ضد لاهوت أبيقور قد أُضيف كملحق، فذلك لأن هذا السجال غير منعزل، بأي شكل من الأشكال، عن الجنس البشري، ويُقدّم نفسه، بشكل مثير جداً، مُمّثِّلاً له ومعبِّراً عن علاقة الفكر اللاهوتي بالفلسفة". فبمحاولته تأييد الأخلاق الدينية وطرح حجة التصميم، وأن يساجلَ أبيقور بناء على هذين الأساسين، جعل بلوتارك "الفلسفة تقف متهمة أمام طاولة الدين المستديرة." أما ماركس، فقد وقف بوضوح إلى جانب ديفد هيوم David Hume الذي صرَّح بأن الفلسفة، بتناولها العقلاني للطبيعة، وليس فكر اللاهوت الطبيعي المُلَهْوِت theologising، هي الملك الشرعي لمملكة العقل. 23

وكان بلوتارك – الذي عاش حتى القرن الثاني الميلادي – أكبر كاهِنَيْنِ لأبولو Apollo في "معبد دلفي" Oracle of Delphi و"ممثلاً للأفلاطونية الدينية Religious Platonism خلال الفترة المبكرة من الحقبة المسيحية." 24 وكان ناقداً شديداً لأبيقور، لأن الأخير، كما قال، انتزع الخوف الضروري من الله. فالرعب من ما بعد الحياة هو، قبل كل شيء، ما قيَّد الإنسانية بالله. وكما وصف ماركس الأمر، كان بلوتارك متحدثاً باسم العقيدة التي "تبرر الرعب من العالم السفلي ... . ففي الخوف، وبخاصة في الخوف الداخلي الذي لا يمكن إطفاؤه، يُحكم على الإنسان أن يكون حيواناً." وفي الوقت نفسه، طوّر بلوتارك حجة العناية الإلهية الحميدة (حتى في أكثر الأفعال ترويعاً) كبرهان على وجود الله. فعند بلوتارك، كان يجب معاقبة أبيقور لتحويله الآلهة إلى كائنات نائية لا ضرورة لها، مقارناً إيّاها بـ"السمك الهاركاني [القزويني]" الذي لا ضرر له أو نفع. 25

ولذا، فإن نقد ماركس لبلوتارك، سواء في الأطروحة الأساس أو في الملحق، ذو أهمية كبيرة لفهم نقده للدين وفهم ردِّه على حجة التصميم خصوصاً. فلم يحمل ماركس إلا الازدراء لبلوتارك الذي قدّم وهو يتناول في سيرة الحياة التي كتبها عن ماريوس Marius المعركة التي دارت رحاها بين الروم وقبائل السمبري الألمانية سنة 101 بعد الميلاد بالقرب من فرساي، ما دعاه ماركس "مثالاً تاريخياً مرعباً" عن الكيفية التي انتهكت بها أخلاق دينية، متجذرة في الخوف من الآلهة كليّة القدرة، كل قيم إنسانية يمكن تصورها. يقول ماركس:

"بعد أن صوَّر هزيمة السمبريين، يقول بلوتارك إن عدد الجثث كان كبيراً جداً إلى درجة أن الماسليين [أي مواطني المستوطنة الإغريقية ودولة المدينة ماسليا Massilia التي تعرف الآن باسم مارسليا] كانوا قادرين على تسميد بساتينهم بها. ثم أمطرت السماء، وكان ذاك العام أفضل موسمٍ للنبيذ والفواكه. والآن، ما نوع الأفكار التي خطرت ببال مؤرخينا النبلاء وهم يفكرون بدمار أولئك الناس المأساوي؟ بلوتارك يعتبر ذلك فعلاً ربّانياً أخلاقياً، فقد سمح الله بزوال كلي لشعب نبيل عظيم وبأن ينتن، كي يتوفر لمحافظي ماسليا محصول فواكه وافر. ولذا، فحتى تحــول شعــب إلى كــومــة سماد يوفر مناسبة مغرية لعربدة أخلاقية [دينية]!" 26

ومن هنا، فإن محصولاً وافراً من النبيذ والفواكه، ناجماً عن الأجساد المتنتنة للسمبريين المقهورين، كان بحد ذاته، عند بلوتارك، حجة تُفسِّر عقلانية الطبيعة الناجمة عن العناية الإلهية. إذاً، كان إله بلوتارك عند ماركس "إلهاً مُنحطاً،" وكان بلوتارك عنده متحدثاً باسم "جحيم العامّة."

وفي دحضه لبلوتارك، رفض ماركس، في ملحقه، "أية براهين على وجود الله،" لأن هذه البراهين كانت في الحقيقة نقيضها، أي "براهين على وجود وعي إنساني جوهري." وبالفعل، أعلن "أن مملكةَ العقل، "منطقةٌ يتوقف فيها الله عن الوجود" – لأن هذه المنطقة هي مملكة الإنسانية الحصرية. ونقيضاً لبلوتارك، يقتبس ماركس من كتاب "نظام الطبيعة" System of Nature، للكاتب الفرنسي المادي الأبيقوري بارون دو هولباخ Baron d Holbach ما يلي: "لا يوجد ما هو أكثر خطراً من إقناع إنسان بوجود كائن خارق للطبيعة، كائن يجب على العقل الصمت أمامه وأن يُضَحِّي لأجله بكل شيء ليحصل على السعادة."

وهاجم ماركس، في ملحقه، كل من فردريك فلهلم جوزيف فون شيلنغ Friedrich Wilhelm Joseph von Schelling وهيغل Hegel، لأرائهما اللاهوتية. ففي نظر ماركس تخلى شيلنغ عن مفهومه المُبكِّر للحرية الإنسانية، حين استنتج في عمله اللاحق أن الله هو"الأساس الحقيقي لمعرفتنا." وأُدانَ هيغلَ لـ "قلبه" جميع مظاهر اللاهوت السابقة "رأساً على عقب" كي يُثبت وجود الله بطريقة مناقضة للاهوت المسيحي التقليدي. فسابقاً، اعتُبرت الصُدفة الطبيعية والمعجزات براهين على وجود الله. أما الآن، وبانسجام مع اللاهوت الطبيعي، يؤكد هيغل الشيء نفسه بالحجة المعاكسة. فبكل بساطة يقول "لأن الصُدفي غير موجود، فإن الله أو المُطلق موجود." بكلمات أخرى، لا بد أن يتم العثور على براهين وجود الله ليس في الصُدف الطبيعية أو في المعجزات بل في البرهان على الضرورة الإلهية.

ردَّ ماركس على مثل هذه البراهين المزعومة على وجود الله، بما في ذلك حجة التصميم، بكلمات سريعة: "غياب العقل هو وجود الله". وبالعكس، فإن تطور الوعي الذاتي التاريخي في العالم المادي هو وجود البشرية العقلاني. و"أبيقور هو بالتحديد من يشيد شكل الوعي في حالته المباشرة، من يحدد الكائن لذاته، من يحدد شكل الطبيعة. ففقط حين يتم الاعتراف بأن الطبيعةَ حرةٌ بشكل مطلق من العقل الواعي [أي، من عقلانية الآلهة المفروضة كلياً]، وحين يتم اعتبارها عقلاً بذاته، تصبح كلياً مزية العقل،" أو عالم البشرية الواعي بذاته. 27

بهذا، انفصل ماركس تماماً عن هيغل، هيغل الذي أعلن بتعابير مقدَّسة أن "منطقه" لم يكن سوى "توصيفٌ لله كما هو في وجوده الأبدي، قبل خلق العــالم والإنسان."28 ففي القلب من كامل فلسفة هيغل، قال ماركس وإنجلز في كتابهما "العائلة المقدسة" The Holy Family، يقع "تعبير الدوغما الألمانية المسيحية التقريبي عن التناقض بين الروح والمادة، بين الله والعالم." وفي كتابه "نقد فلسفة الحق عند هيغل" Critique of Hegel’s Philosophy of Right، ذهب ماركس إلى مدى أبعد، فوصف منطق هيغل بأنه "بيت مقدس" – الاسم الذي "قَدَّست" به محكمة التفتيش الكاثوليكية الرومية في مدريد "سجنَهَا" وحجرةَ رُعبها. 29

عادة ما يتم النظر إلى نقد ماركس للدين ولمثالية الفلسفة الهيغلية كمجرد تطور فقط للقائه بنقد لودفغ فيورباخ Ludwig Feuerbach الأسبق لمنظومة التفكير الهيغلية. ورغم ذلك، كان نقد ماركس لـ"التفكير اللاهوتي،" الذي وجد أكثر تعبيراته قوة في مقدمته لـ "نقد فلسفة الحق عند هيقل" في عام 1844، قد اكتمل جوهرياً في الوقت الذي قدم فيه أطروحته للدكتوراة في مطلع عام 1841 – نفس العام الذي نُشر فيه كتاب فيورباخ "جوهر المسيحية". Essence of Christianity 30 أكثر من ذلك، فإن كتاب فيورباخ "أطروحات أوليّة لإصلاح الفلسفة" Preliminary Theses on the Reform of Philosophy، الذي كان له تأثير أكبر على تفكير ماركس، لم يظهر إلا سنة 1842. ولذا، يكون أكثر صحَّة أن يحاجج المرء بأن نقد ماركس للدين تطور مستقلاً عن نقد فيورباخ أو إلى جانبه، الأمر الذي يعطى آراء ماركس مزيداً من القوة. 31

ورغم ذلك، فرض رفضُ فيورباخ الطبيعي naturalistic لفلسفة هيغل المثالية تأثيراً قوياً على ماركس. فعند فيورباخ، مثُلت الفلسفة التأملية في أكثر أشكالها تطوراً، المنظومة الهيغلية، اغتراب عالم الوجود الحسّي الذي قيَّد العقل البشري مادياً. إذ أعادت تلك المنظومة، باسم الفلسفة بدلاً عن اللاهوت، تصوير اغتراب الكائنات البشرية الديني عن الطبيعة. فقد قدّم هيغل تطور العالم بشكل مقلوب، فهو يتطور "من المثالي إلى الواقعي." على العكس من ذلك، أصرَّ فيورباخ على "وجوب أن تكون الطبيعة أساس كل علم. فأي مبدأ سيظل افتراضاً طالما لم يجد أسسه الطبيعية. وأكثر ما يكون هذا الأمر صحيحاً في مبدأ الحرية. والفلسفة [المادية] الجديدة هي فقط التي سوف تنجح في طبعنة naturalizing الحرية التي كانت إلى الآن فرضية نقيضة، فرضية ما فوق طبيعية." 32

هذا وقد دُعي كتاب ماركس "نقد فلسفة الحق عند هيغل" الذي نشر سنة 1844 في باريس في الحوليات الفرنسية الألمانية، "ماغنا كارتا النقد الماركسي للدين." 33 وفي هذا الكتاب أعلن ماركس:

"يصنع الإنسان الدين، ولا يصنع الدين الإنسان. والدين، فعلاً، تعبير عن وعي الإنسان بذاته وثقته بنفسه، ذلك الإنسان الذي إما لم يكسب نفسه بعد أو إنه خسرها فعلاً مرة أخرى. ولكن الإنسان ليس كائناً مُجرَّداً يربض خارج العالم. الإنسان هو عالم الإنسان، الدولة، المجتمع. فهذه الدولة وهذا المجتمع ينتجان الدين الذي هو وعي مقلوب بالعالم ... [الدين] هو التحقيق الوهمي للجوهر الإنساني، لأن الجوهر الإنساني لم يحقق أي وجود حقيقي. ولذا فإن الصراع ضد الدين هو بشكل غير مباشر صراع ضد ذاك العالم الذي يكون فيه الدين عبيره الروحي. والمعاناة الدينية هي، في الآن نفسه، تعبير عن معاناة حقيقية واحتجاج على معاناة حقيقية. إن الدين تنهيدة المخلوق المضطهد، قلب عالم لا قلب له وروح الأوضاع التي لا روح لها. إنه أفيون الشعب."

يُبدي ماركس هنا تعاطفاً حقيقياً مع الدين باعتباره "تعبيراً عن معاناة حقيقية" وسلواناً ضرورياً للمُضْطَهَدين. وهؤلاء ليس لديهم طريقة للوصول إلى وسائل سلوان أخرى، مثل الأفيون، المتوفرة للأثرياء، ولم يتعلموا بعد أن يثوروا ضد العالم المقلوب الذي يُعتبر الدين مظهراً وهمياً له. عاكساً موقفه الذي تبناه شاباً في ورقته المدرسية المعنونة "اتحاد المؤمنين مع المسيح،" حاجج ماركس بأن "إبطال الدين باعتباره سعادة الناس الوهمية يعني طلب سعادتهم الحقيقية [المادية]." وبذا، "يتحول نقد السماء إلى نقد للأرض." 34

نقد الأرض

تم ربط نقد ماركس للدين دائماً بالحاجة لفهم إنساني مادي علمي للعالم. وأدى نقد الاغتراب الديني إلى نقد الاغتراب الإنساني الدنيوي بحركتين جدليتين: (1) نقد مشتقٌ من أبيقور وفيورباخ للدين باعتباره اغتراب العالم البشري، وبالتالي قَلباً للحرية الإنسانية – نقدٌ توسَّع من اللاهوت إلى الفلسفة المثالية (كما في حال هيغل)؛ و (2) نقدً يعتبر الإنسانية/المادية التأملية الصرفة تجريدات فارغة، لأنها ليست، بكل بساطة، مقدمات لنقد الأرض (أي، للواقع التاريخي المادي).

وهكذا، فإن الإلحاد نفسه، طالما ظلَّ في ملكوت فيورباخ التأملي، فإنه غير كافٍ ومجرد من أي معنى أصيل، ما عدا كونه خطوة أولى في تطور فلسفة إنسانية. وأكَّد ماركس أن الإلحاد، كمَثل أعلى، "ظلَّ إلى حد بعيد تجريداً، نفياً لله، وتأكيداً، من خلال هذا النفي، لوجود الإنسان." ولذا بقي مجرد إنسانية "نظرية." 38

وكمادي، لم يُكرِّس ماركس نفسه لتجريد الله والدين. وفي الوقت نفسه، لم يحاول إثبات عدم وجود الله ما فوق الطبيعي، لأن ذاك تجاوز للعالم الحقيقي التجريبي ولا يمكن الجواب عنه، أو حتى تناوله، من خلال العقل أو الملاحظة أوالتحقيق العلمي. بدلاً عن ذلك، صاغ ماركس إلحاداً عملياً من خلال التزامه العلمي بالمادية التاريخية طريقاً لفهم الواقع بكل أبعاده. وتطلَّب نفي الله العملي وتأكيد الإنسانية والعلم حركة نشطة من أجل التغيير الاجتماعي الثوري، وامتلاك العالم لتحقيق التطور الإنساني – نمو القدرات البشرية وتوسيعها – والحرية.

وهكذا، لم يَدُرْ نقد ماركس للدين أبداً حول وجود الله ما فوق الطبيعي (حتى ولو نفياً)، بل حول تأكيد العالم المادي، عالم الكائنات البشرية والعقل والعلم – التي تطلَّبت جميعاً تنحية "الدين" كـ"اعتراف مخادع بالإنسان، من خلال وسيط." 36 ولذا، كان توماس دين Thomas Dean محقاً حين كتب في كتابه "الفكر ما بعد التوحيدي" Post-Theistic Thinking:

"مُتَّفِقاً مع الملاحظة الأرسطية الهيغلية بأن المتناقضات تنتمي لنفس النوع، يرى ماركس أن الإلحاد ليس أكثر من مجرد نقيض أيديولوجي للدين. ولذا، فإنه لا يقود إلى انفصال راديكالي عن طريقة التفكير الدينية. فالإلحاد يبدو أكثر مثل "مرحلة أخيرة من التوحيد، اعتراف سلبي بالله" وليس أساساً نظرياً لفلسفة وضعية دنيوية تدور حول الإنسان. فهو حتماً يفسح المجال للرغبة بالحلول محل الله، تلك الرغبة التي أُنكرها إلى الآن مفهوم للإنسان سامٍ مُتَحدٍّ ... وفقط بواسطة فعل تجاوز ثانٍ، بواسطة تجاوز توسط الإنسانية عبر الإلحاد، "الذي هو، رغم ذلك، افتراض مسبق ضروري،" بمكن أن تنفتح الإمكانية لـ"إنسانيّة وضعية، إنسانية تنبع إيجابياً من ذاتها." ولذا، ليس أساس إلحاد ماركس ولا ميتافيزيقيته العلمانية طقم حجج فلسفية أو براهين تأملية على عدم وجود الله. لو كان كذلك، لكان موقفه آيديولوجياً لاهوتي الصفة كما هو اللاهوت نفسه. بدلاً عن ذلك، كان إلحاده إنسانيةً مصاغة باستقلال عن أي توسط، تقف بشكل آني أو غير توسطي على قدميها." 37

وعنى موقف ماركس الجدلي، الذي نظر إلى الدين باعتباره مصدر "سعادة وهمية" غدت ضرورية لاستحالة "السعادة الحقيقية،"، أن من الممكن التّعرف على البشرية المُغْتَرِبَة في الدين نفسه. ولذا كان قادراً ليس فقط على الإشارة للدين على أنه "قلبُ عالم لا قلب له،" بل وأيضاً على إطلاق تعابير من مثل: "بعد كل شيء، نستطيع مسامحة المسيحية لأنها علَّمتنا حب الطفل." 38 مقابل هذا، كما لاحظ ماركس في "أطروحات حول فيورباخ،" Theses on Feuerbach، فإن إلحاديّة فجَّة سعت لتحويل نفسها إلى دين تقليدي، إلى"ملكوت مستقل مبني فوق السحاب" ليس لديها نسبيَّاً إلا القليل لتقدمه. ولذا، كان نقد الدين ذا فائدة اجتماعياً فقط عندما ذهب إلى ما هو أبعد من الإلحاد المجرَّد والمادية التأملية وحين فسح المجال لصعود إلحاد مُتَجذِّر في "الممارسة الثورية." 39

وكان أن وضع نقد ماركس المبكر للدين وللفلسفة التأملية الأساس لنقده اللاحق للآيديولوجيا، خصوصاً آيديولوجيا المجتمع البورجوازي. وهكذا، أصبحت الآيديولوجيا حالة أكثر عمومية لنفس قلب الأفكار والعالم المادي الذي ميَّز ظرف الدين المغترب : فقد كتب ماركس وإنجلز في "الآيديولوجيا الألمانية" The German Ideaology مُرجِّعين صدى نقد ماركس المبكر لـ"الفكر المُلَهْوِت": "ليست الأفكار المهيمنة أكثر من مجرد التعبير المثــالي عــن العلاقــات الماديــة المهيمنــة، عن العلاقات المادية المهيمنة التي أُدركت كأفكار." 40

وكثيراً ما أشار ماركس إلى أن "الإصلاح البروتستنتي" Protestant Reformation، وبخاصة منه اللّوثرية Lutheranism في إطارها الألماني، تُمَثِّل القماش الديني الجديد الذي لبسه المجتمع البورجوازي الصاعد. ولذا، أشار ماركش ساخراً إلى حجة مارتن لوثر Martin Luther القائلة بأن وجود السرقة في العالم دليلٌ على تصميم الله God s design. فكما وصف الأمر لوثر نفسه "يستخدم الله الفرسان واللصوص شياطينَ له ليعاقب التجار على ظلمهم." وبهذه الطريقة، وفقاً للوثر، "يمكن النظر إلى السرقة والنهب غير المسيحيّين" كإشارة إلى مجيء "كلمة الله النهائية ." فعند لوثر – كما قصد ماركس أن يفهم قُراؤه – ظهرت عقلانية الله حتى في ما دعاه توماس هوبس Hobbes Thomas "حرب الجميع ضد الجميع" في المجتمع البورجوازي.

في كتابه "رأس المال" Capital نظر ماركس إلى المال والسُلع ورأس المال نفسه على أنها جميعاً تأخذ شكل الله في المجتمع البورجوازي؛ بينما يأخذ الربح والإيجار والفائدة شكل "ثالوث" Trinity جديدً. وقارن ماركس "الصنميَّة Fetishism التي تُلحق نفسها بمنتوجات العمل" بملكوت الدين الضبابي" حيث "تظهر منتوجات الدماغ البشري كأشكال مستقلة ممنوحة حياة بذاتها." 41 ولذا، فإن التشابهات بين نقد الدين ونقد رأس المال، في فكر ماركس، لا نهاية لها.

وفوق ذلك، واصل ماركس أيضاً مواجهة الدين (بما فيه حجة التصميم)، بشكل أكثر مباشرة، لأنه يفرض نفسه على مجالي الأخلاق والعلم. فكان يجب الحكم على الأخلاق ليس على أسس أصولية أو نسبية، بل على أسس تاريخية راديكالية، حيث تتطور الشروط الأخلاقية مع حاجات الجماعات البشرية المادية – وهذا رأي يمكن العودة به إلى أبيقور. فلم يقل أبيقور بوجود نظام مطلق إلهي للمجتمع. ولذا هاجم ماركس جميع الأفكار "الروحية، ذات الصلة بالعناية الإلهية ... بالعناية الهادفة." ورفض كل أخلاقية أصولية نابعة من غايات الدين النهائية، مؤكداً ، بدلاً عن ذلك، علـى أن الكائنــات البشــرية هم "ممثلو ومؤلفو دراماهم الخاصة." 42

مُديناً أخلاقية الدين الضيقة وأثرها على الاقتصاد السياسي، لاحظ ماركس، في "رأس المال"، أن "معظم المُنَظِّرين السُكّانيين population theorists كهنة بروتستانتيون ... البارسون والاس Wallace، البارسون تاونسند Townsend، البارسون مالثوس Malthus وتلميذه كبير الأساقفة البارسون توماس تشالمرز Thomas Chalmers، عدا عن مساهمين آخرين في هذا الخط من التفكير أقل أهمية ... فمع دخول ’عُنصر السكان: [إلى الاقتصاد السياسي]، دقت ساعة البارسونيين البروتستانتية." 43 وكان الاعتراض الأساس على مثل هؤلاء المفكرين أنهم ابتعدوا عن مبادئ العلم، بسماحهم لحجج اللاهوت الطبيعي والأخلاقية الدينية بالتعدي على علم الاقتصاد السياسي، كجزء من الدفاع عن نظام الطبقة الحاكمة. كتب إنجلز الشاب سنة 1844، "كانت النظرية المالثوسية تعبيراً اقتصادياً عن الدوغما الدينية حول تناقض الروح مع الطبيعة وعن فساد كليهما." 44 فكما لاحظ ماركس في الـ"غرندريسه" Grundrisse، استبدل القس جوزيف تاونسند، في أطروحته لسنة 1786 الموسومة "قوانين الفقراء" Poor Laws، الخوف، كدافع للدين المسيحي، بالجوع كدافع للصناعة البورجوازية (اللذين شكلا معاً دليلاً على القانون الطبيعي وتصميم الله). كتب تاونسند، "ليس الجوع ضغطاً سلمياً هادئاً لا يتوقف فحسب، بل وأكثر الدوافع طبيعيّةً للصناعة والعمل، فهو يستدعي أكثر الجهود قوة." 45 [البارسون Parson، في كنيسة ما قبل الإصلاح، هو راهب أبرشية لا تخضع لسيطرة كنيسة أكبر).

وعند ماركس، كان مالثوس، مثل تاونسند من قبله، مذنباً بـ"بالأصولية الكهنوتبية." 46 فرغم أن حجج مالثوس قُُدِّمت كحجج علمية، إلا إنها استَحضرت، رغم ذلك، الله كسبب نهائي واستَـندت إلى إرادة الله والآخلاق المسيحية في تبريرها للتخلص من "قوانين الفقراء". وأكثر من عبَّر عن غضب الطبقات العاملة العام من مالثوس ولاهوته الطبيعي (المرفوع إلى مستوى الاقتصاد السياسي) الراديكالي السياسي وليام كوبِِت William Cobbett الذي خاطب مالثوس، بروح ماركس العامة نفسها : "ازدريت في حياتي رجالاً كثيرين؛ ولكن أحداً منهم لم يكن مثلك ... . فلا توجد مجموعة من الكلمات تستطيع وصفك؛ ولذلك، ولأنه لا توجد كلمة أفضل لوصفك، فإنني أقول إنك بارسون، هذه الكلمة التي تعني، من بين معانٍ أخرى، إنك أداة بيد تُجّار البلد." 47

خلافاً لهذه الاعتراضات على مالثوس، دافع ماركس عن طابع اقتصاد آدم سمث Adam Smith العلمي المعارض لنقد اللاهوتي والاقتصادي السياسي توماس تشالمرز الذي اعتبر أن سمث رفض وجهة النظر المسيحية لصلته الوثيقة بديفد هيوم David Hume (الذي كان متأثراً بمادية أبيقور) ولمفهومه عن العمل غير المنتج الذي رأي تشالمرز أنه هجوم على كُهّان الله [الذين لا يُنتج عملهم شيئاً]. ففي كتاباته الاقتصادية السياسية، حاجج ماركس، بأن تشالمرز سمح للدين والله، والديكورات المسيحية الكهنوتية الإضافية، بالتعدي المباشر على العلم. يقول ماركس: "إن العنصر البارسوني ... واضح جداً في كتاباته، ليس نظرياً فحسب، بل وعملياً أيضاً، لأن عضو الكنيسة المعروف هذا يدافع عنها ’اقتصادياً’ بـ ’أرغفة خبزها وأسماكها’ وبكل مؤسساتها التي تصمد بها هذه الكنيسة أو تسقط." 48

موت الغائيّة

كان المفهوم المادي عن الطبيعة والمفهوم المادي عن التاريخ، عند ماركس، أساسي العلم الحديث اللذين لا ينفصلان. فقد شكل التاريخ البشري والتاريخ الطبيعي، بالنهاية، شكلاً مرجعياً تاريخياً واحداً. ولذا، طوّر ماركس بثبات أراء ثورية ضد كل أفكار التصميم الإلهية. فقد أكد أن الحياة نشأت في العالم وفقاً لنوع من النشوء صُدفي. وحاجج، مع إنجلز، في "الآيديولوجيا الألمانية" سنة 1846 بأن الوجود العضوي لا يمكن أن يُفهم على أسس غائيّة، بل على أساس "منافسة مريرة بين النباتات والحيوانات" كانت فيها علاقة الأنواع بالظروف الطبيعية السبب المادي. وتبنّى، مبكراً، مفهوم الزمن السحيق الذي ظهر في الجيولوجيا التاريخية. 49

وإعجاب ماركس بنظرية داروين التطورية معروف جداً. فقد رُوِيَ أنه لم يتحدث عن أي شيء آخر لشهور بعد نشر "أصل الأنواع". فعندما قرأ عمل داروين بعد ظهوره بوقت قصير، كتب ماركس إلى فردناند لاسال Ferdinand Lasalle : "هنا، ولأول مرة، لم تتلق ’الغائيّة’ في العلم الطبيعي ضربة مميتة فحسب بل وشُرِحَ معناها العقلاني تجريبياً." 50 وكان نقده الوحيد لداروين أنه باستلهامه مالثوس لتطوير نظريته عن الانتخاب الطبيعي منح، دون قصد، في المجال الاجتماعي، مصداقية للمبدأ المالثوسي الذي دافع عن الأخلاقية المسيحية واللاهوت الطبيعي وتبريرات البورجوازية للتقسيم الطبقي والملكية. وهكذا، سعى ماركس وإنجلز في جميع الحالات إلى فصل النظرية الدارونية عن المالثوسية أو الدارونية الاجتماعية، مع التمسك بعلم مادي إنساني يسعى لتوسيع الحرية الإنسانية.

وبعد معارضته لقانون مالثوس السكاني المجرد، الذي سعى إلى تبرير العلاقات الطبقية، تحول ماركس باستمرار إلى حقل الأنثروبولوجيا الجديد، كي يُطوِّر فهماً مادياً علمياً تاريخياً لتطور السكان والمجتمعات البشرية في جميع أبعادها. فأشار إلى أنه كما رجع داروين إلى الأعضاء التي طوَّرتها الأنواع كنوع من "التكنولوجيا الطبيعية،" كذلك تطورت الأدوات البشرية كامتداد لأعضاء الكائنات البشرية وكنتاج للتطور الاجتماعي. إذاً، ألا يُزودنا تطور الأدوات البشرية بسبيل لتطور المجتمع البشري الذي تطلَّب "انتباهاً مساوياً؟ ألا يكون من الأسهل جمع هذا التاريخ لأن التاريخ البشري، كما يقول فيكو Vico، يختلف عن التاريخ الطبيعي، لأننا نحن من صنع الأول، وليس الثاني؟" 51

ومن المهم القول إنه في الوقت نفسه الذي كان فيه داروين يقدم تظريته عن التطور بالانتخاب الطبيعي، كان هجوماً آخر، ليس أقل جديَّة، على وجهة النظر الكتابية biblical من العالم، يأخذ موقعاً. فقد اعتُبرت سنة 1859، تاريخ نشر "أصل الأنواع" لداروين، بداية لما دُعي ثورة "الزمن العرقي" ethnological time. 52 فرغم أن بقايا إنسان النباندرتال Neanderthal قد اكتُشفت سنة 1856، لم يعرف علماء الطبيعة ما هي هذه البقايا إلا بعد مرور زمن طويل. لقد اعتبر اكتشاف بقايا بشرية ما قبل تاريخية في كهف بركسام Brixham قرب توركي Torquay في جنوبي غرب إنجلترا سنة 1859 برهاناً علمياً ساطعاً على أن الكائنات البشرية كانت موجودة على الأرض في زمن عتيق سحيق. 53 ومدّت هذه الحقيقة خط الزمن إلى أبعد بكثير من التاريخ المكتوب، الأمر الذي ناقض الرأي المستند إلى الإنجيل والقائل إن وجود البشرية لا يعود إلى أكثر من بضعة آلاف عام. وفجأة، واجه العلماء دليلاً على أن الكائنات البشرية تطورت عبر فترة زمنية أطول مما سمح به الحَرْفيّون الكتابيون لتاريخ الأرض. وبدأ بيولوجيون وجيولوجيون، على صلة وثيقة بداروين، من مثل جون لَبوك John Lubbock، وتوماس هكسلي Thomas Huxley، بالاهتمام بمسألة التطور البشري، معتمدين جزئياً على ما تم كشفه من سجلِّ ما قبل التاريخ.

أقام ليوبوك عمله على تقسيم أبيقور/ لوقريط العصور إلى حجري وبرونزي وحديدي، وفي الوقت نفسه، قدّم لويس هنري مورغان Lewis Henry Morgan عمله الطليعي في الأنثروبولوجيا، "المجتمع القديم" Ancient Society، القائم أساساً على دراساته لقبائل الإروكو Iroquois الأمريكية الأصلية – معيداً جذور منظوره التطوري الخاص إلى لوقريط. 54 وبعد نشر كتابه "رأس المال" (الجزء الأول) سنة 1867، وفي أسبقية حتى على أبحاثه الاقتصادية، كرّس ماركس بحثه لبقية حياته على دراسات عرقية كما تمثلت بـ"اليوميات العرقية" Ethnological Notebooks (1880 – 1882). وأقام ماركس سبيله في هذه الدراسات على مورغان، وذلك في محاولة لفهم التطور الكامل للعلاقات الإنتاجية والعائلية – مُلاحظاً أن قيام علم أنثروبولوجي إنساني أصيل لما قبل التاريخ ممكن الآن. ولذا، شكلت دراساته هذه توسيعاً للتعاليم العلمية على حساب تعاليم الدين.

وهكذا، ورغم أن ماركس كرَّس الجزء الأكبر من حياته الراشدة لتطوير نقد لنظام رأس المال كشكل من أشكال الإنتاج القائم على التقسيم الطبقي، يجب أن يتم النظر إلى ذلك كجزء من منظور إنساني/ مادي أكثر جوهرياً نبع من نقده للدين. فمِثْلُه مِثْل هيوم، كان ماركس مغرماً بالرجوع ليس فقط إلى لوقريط بل وأيضاً إلى الكاتب الهجائي (والأبيقوري) لوسيان Lucian [الساموساطي – نسبة إلى ساموساطا، تركيا الحالية] (120 – 180 قبل الميلاد) وكتابه "حوارات الآلهة" Dialogues of Gods الذي تموت فيه الآلهة، وفقاً لماركس، مرة ثانية بسبب حادثة مضحكة. ومثلما عاد هيوم إلى لوقريط ولوسيان وهو على فراش موته، كان رد ماركس على الموت، كما يذكر إنجلز، اقتباس أبيقور: "ليس الموت سوء حظ لمن يموت، بل لمن يبقى."

وبالفعل، وكما أشار ماركس، حاجج أبيقور: "على العالم أن يتحرر من الأوهام، وبخاصة من الخوف من الآلهة، لأن العالم صديقي." وكتب لوقريط، "تأتي الأشياء إلى الوجود دون مساعدة الله." وأضاف ماركس بأن التاريخ البشري كله، بما في ذلك تطور الطبيعة البشرية، وظهور حاجات جديدة، إلخ ... صنعته الكائنات البشرية ككائنات طبيعية مستقلة التفكير، دون مساعدة الآلهة.

ملاحظات

1. Karl Marx and Frederick Engels, Collected Works (New York: International Publishers, 1975), vol. 1, 190, 493–96. ومضى ماركس ليلاحظ هنا أن العقل الروحي "تم التعبير عنه كلاسيكياً" من قبل أب الكنيسة المبكرة ترتوليان Tertullian الذي ادعى أن ذلك العقل "حقيقي لأنه عبثي."
2. Marx and Engels, Collected Works, vol. 1, 73.
3. Center for Renewal of Science and Culture, Discovery Institute, The Wedge Strategy [Document], 1999, http://www.antievolution.org/features/wedge.html; Benjamin Wiker and Jonathan Witt, A Meaningful World (Downers Grove, Illinois: Intervarsity Press, 2006), 15–16, 60.
4. Karl Marx, Early Writings (London: Penguin, 1974), 243–45.
5. David McLellan, Karl Marx (New York: Harper and Row, 1973), 1–16; Arend Th. van Leeuwen, Critique of Heaven (New York: Charles Scribner’s Sons, 1972), 40–43, 78; Marx and Engels, Collected Works, vol. 1, 636–39; Sidney Hook, From Hegel to Marx (Ann Arbor: University of Michigan, 1962), 81.
6. Marx and Engels, Collected Works, vol. 1, 10–21.
7. Marx and Engels, Collected Works, vol. 4, 126–28; Arend Th. van Leeuwen, Critique of Earth (New York: Charles Scribner’s Sons, 1974), 14–16.
8. Francis Bacon, Philosophical Works (New York: Freeport, 1905), 473; Marx and Engels, Collected Works, vol. 1, 201; Charles Darwin, Notebooks, 1837–1844 (Ithaca, New York: Cornell University Press, 1987), 637.
9. Georg Wilhelm Friedrich Hegel, Lectures on the History of Philosophy (Lincoln: University of Nebraska Press, 1995), vol. 3, 184–87.
10. Marx and Engels, Collected Works, vol. 3, 419;Frederick Engels, Ludwig Feuerbach and the Outcome of Classical German Philosophy (New York: International Publishers, 1941), 17, 21.
11. Charles H. Talbert, “Introduction,” Hermann Samuel Reimarus, Reimarus: Fragments (Chico, California: Scholars Press, 1970), 1; Julian Jaynes and William Woodward, “In the Shadow of the Enlightenment: I. Reimarus Against the Epicureans,” Journal of the History of the Behavioral Sciences, vol. X, no. 1 (January 1974): 5–6.
12. The full German title of Reimarus’s 1760 Drives of Animals was: Allgemeine Betrachtungen über die Triebe der Thiere, hauptsächlich über ihre Kunsttriebe, zur Erkenntnis des Zusammenhanges zwischen dem Schöpfer und uns selbst.
13. Hermann Samuel Reimarus, The Principal Truths of Natural Religion Defended and Illustrated, in Nine Dissertations: حيث تم تناول اعتراضات لوقريط وبفون وموبيرتيوس وروسو ولامتريه وأتباع قدماء ومعاصرين أخرين على أبيقور، وتم تفنيد مبادئهم. (London: B. Law, 1766), 117–20, 152, 220.
14. Reimarus, Principal Truths of Natural Religion, 76, 84, 242.
15. Reimarus, Principal Truths of Natural Religion, 156–57, 229–34, 250–51.
16. Jaynes and Woodward, “In the Shadow of the Enlightenment: I. Reimarus Against the Epicureans,” 4; Julian Jaynes and William Woodward, “In the Shadow of the Enlightenment: II. Reimarus and His Theory of Drives,” Journal of the History of the Behavioral Sciences, vol. X, no. 2 (April 1974), 154.
17. See Karl Marx, Capital, vol. 1 (London: Penguin, 1976), 283–84; Marx, Early Writings,328–29; van Leeuwen, Critique of Earth, 20, 53. تظهر الأهمية التي حازها ريماروس بين الهيغليين الشبان واضحة في عمل شتراوس الذي كتب دراسة أساس حول "اعتذار" ريماروس الذي أعلن فيه "إن جميع الأديان الوضعية، دون استثناء، أعمال وهمية."David Strauss, “Hermann Samuel Reimarus and His Apology,” in Reimarus, Reimarus: Fragments, 46.
18. Marx and Engels, Collected Works, vol. 4, 79. 19. See Karl Marx and Friedrich Engels, Ex Libris (Berlin: Dietz Verlag, 1967), 127; Gottfried Wilhelm Leibniz and Samuel Clarke, The Leibniz-Clarke Correspondence (New York: Manchester University Press, 1956), 166; Marx and Engels, Collected Works, vol. 1, 190.
20. Paul M. Schafer, “Introduction,” in Schafer, ed., The First Writings of Karl Marx (Brooklyn, New York: Ig Publishing, 2006), 45; Marx and Engels, Collected Works, vol. 1, 43. For a general discussion of Marx’s relation to Epicurus see John Bellamy Foster, Marx’s Ecology (New York: Monthly ReviePress, 2000), 32–65.
21. Frederick Engels, “Bruno Bauer and Early Christianity,” in Karl Marx and Frederick Engels, Marx and Engels on Religion (New York: Schocken Books, 1964), 197.
22. van Leeuwen, Critique of Heaven, 74.
23. Marx and Engels, Collected Works, vol. 1, 29–31.
24. van Leeuwen, Critique of Heaven, 77.
25. Marx and Engels, Collected Works, vol. 1, 51, 74–75, 91, 448, 508–09.
26. Marx and Engels, Collected Works, vol. 1, 84.
27. Marx and Engels, Collected Works, vol. 1, 102–05, 446–48, 509.
28. Quoted in Hook, From Hegel to Marx, 17.
29. Marx and Engels, Collected Works, vol. 4, 85; van Leeuwen, Critique of Heaven, 195.
30.
حاجج إرنست بلوخ بأن "الأطروحتين الأولى والحادية عشرة حول فيورباخ موجودتان في المراجع عن أبيقور" من أطروحة ماركس للدكتوراة. See Bloch, Karl Marx (New York: Herder and Herder, 1971), 156.
31.
إن علاقة ماركس بفيورباخ تبدو أكثر تعقيداً حين يعتبر المرء أن فيورباخ، في كتابه "تاريخ الفلسفة المعاصرة" قد تعامل بالتفصيل بعث أبيقور لجاسندي، وأن هذا أثّر على ماركس في كتابة أطروحته للدكتوراة. Gassendi See Marx and Engels, Collected Works, vol. 1, 94.
32. Ludwig Feuerbach, The Fiery Brook (Garden City, New York: Doubleday, 1972), 161, 172, 198; Foster, Marx’s Ecology, 68–71.
33. van Leeuwen, Critique of Heaven, 12.
34. Marx, Early Writings, 243–45.
35. Marx, Early Writings, 357.
36. Marx, Early Writings, 218.
37. Thomas Dean, Post-Theistic Thinking: The Marxist-Christian Dialogue in Radical Perspective; (Philadelphia: Temple University Press, 1975), 69.
38. Marx quoted in Eleanor Marx, “Karl Marx: A Few Stray Notes,” in Institute of Marxism-Leninism, Reminiscences of Marx and Engels (Moscow: Foreign Languages Publishing House, no date), 253.
39. Marx, Early Writings, 421–23.
40. Marx and Engels, Collected Works, vol. 5, 59.
41. Karl Marx, Capital, vol. 3 (London: Penguin, 1981), 448–49, 953–56; Marx, Capital, vol. 1, 165.
42. Cornel West, The Ethical Dimensions of Marxist Thought (New York: Monthly Review Press, 1991); Marx and Engels, Collected Works, vol. 6, 170, 173; Epicurus, The Epicurus Reader (Indianapolis: Hackett Publishing Co., 1994), 35.
43. Marx, Capital, vol. 1, 766–77, 800.
44. Marx and Engels, Collected Works, vol. 3, 439.
45. Townsend quoted in Marx, Grundrisse (London: Penguin, 1973), 845.
46. Karl Marx, Grundrisse, 605.
47. Cobbett quoted in Kenneth Smith, The Malthusian Controversy (London: Routledge and Kegan Paul, 1951).
48. Karl Marx, Theories of Surplus Value (Moscow: Progress Publishers, 1971), part 1, 299–300; part 3, 56–57.
49. See Foster, Marx’s Ecology, 117–26; Marx, Collected Works, vol. 5, 471–73.
50. Karl Liebknecht, “Reminiscences of Marx,” in Institute of Marxism-Leninism, Reminiscences of Marx and Engels,106; Marx and Engels, Collected Works, vol. 41, 232, 246–47.
51. Marx, Capital, vol. 1, pp. 461, 493; Darwin, The Origin of Species (London: Penguin, 1968), 187–88.
52. Thomas R. Trautmann, Lewis Henry Morgan and the Invention of Kinship (Berkely: University of California Press, 1987), 35, 200; Foster, Marx’s Ecology, 212–21.
53. Jacob W. Gruber, “Brixham Cave and the Antiquity of Man,” in Melford E. Spiro, ed., Context and Meaning in Cultural Anthropology (New York: Free Press, 1965), 373–402. في البداية، ظل الشك يحيط بأهمية بعض البقايا البشرية ما قبل التاريخية التي عُثر عليها في القرن التاسع عشر (بما في ذلك تلك التي وُجدت في وادي نياندر)، وذلك لسوء الطريقة التي استخرجت بها هذه المُكتشفات، حيث تم الانحراف عن الطريقة البطيئة الحريصة التي يتطلبها العمل الجيولوجي، والتي كثيراً ما ينجم عنها عدم الحفاظ على محتوى الطبقات الأرضية، الأمر الذي يجعل المراقبين العلميين يشكون في أن بقايا مأخوذة من طبقات جيولوجية متنوعة قد اختلط بعضها ببعضه الآخر. على العكس من ذلك، كان استخراج بقايا كهف بركسام قد تم بإشراف جمعية لندن الجيولوجية، ولذا أصبح مؤكداً، للمرة الأولى، أن كائنات بشرية كانت موجودة على الأرض في العصر "القديم الأعلى".
54. Trautmann, Lewis Henry Morgan, 32, 172–73.
55. Marx and Engels, Collected Works, vol. 5, 141–42; Marx and Engels, Collected Works, vol. 3, 179; Foster, Marx’s Ecology, 51–62; Frederick Engels, “Letter to Friedrich Adolph Sorge, March 15, 1883,” in Philip S. Foner, ed., Karl Marx Remembered (San Francisco: Synthesis Publications, 1983), 26; István Mészáros, Marx’s Theory of Alienation (London: Merlin Press, 1971), 162–89.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسؤول إسرائيلي: حماس -تعرقل- التوصل لاتفاق تهدئة في غزة


.. كيف يمكن تفسير إمكانية تخلي الدوحة عن قيادات حركة حماس في ال




.. حماس: الاحتلال يعرقل التوصل إلى اتفاق بإصراره على استمرار ال


.. النيجر تقترب عسكريا من روسيا وتطلب من القوات الأمريكية مغادر




.. الجزيرة ترصد آثار الدمار الذي خلفه قصف الاحتلال لمسجد نوح في