الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إدراك ما تحت شعوري : الغوص التأملي

حسام مطلق

2008 / 12 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يظن الكثيرون أن الفكر الإنساني هو نتيجة حتمية للبحث العلمي المحض, للملاحظة والتجريب, هنا في السطور أدناه أسلط الضوء على جانب أخر مهم من مصادر الفكر الإنساني : الحدس.
كي نفهم دور الحدس في الحضارة والمعرفة نحن بداية مدعون للتميز بينه وبين الوعي, أو التفكير المنطقي, هذا من جانب. ومن جانب أخر مدعون للتميز بين الحوار الداخلي وبين التأمل الغوصي.
بداية أن عنصري الوعي هما : التفكير والإرادة, وكلاهما يتولدان مما تعكسه الحواس التواصلية مع الميحط, أما الخيال فلا يتعدى كونه إعادة تركيب, وإن احيانا بشكل معقد, للموجودات. فلا يتصور اساسا أن يعمل الوعي في اللاموجود, لأنه ببساطة حين يكون لا موجود فهو غائب عن وعينا وتاليا نحن لا نعرف به كي نفكر به.
قد يقول قائل ولكن ماذا عن الموجود الغيبي " الله " ؟. الحقيقة أن وجود الله هو وجود عقلي واسقاطي فمكوناته أو عناصر وعينا به, اي " السلطة – القوة – القدرة – الجمال ..الخ " هي موجودات أولية في وعينا لباقي الكائنات وانتاج الله على تلك الصيغة هو إعادة تجميع لها وفقا لضرورة نفسية. اي ان العناصر التي يتكون منها الله في وعينا هي عناصر موجودة وليست لا موجودة وتاليا النتيجة النهائية لتجميع تلك العناصر هو التركيب الخيال الذي قلنا الناتج عن عنصري الوعي " التفكير والإرادة ", اي هو بكلمة مختصرة فرض.
الفرض, كما هو معلوم لا يقدم معطيات للادراك أي هو ليس معلومة بذاته بل هو تعليل وتحليل للمعلومات, الوعي يمتحنها ويمارس عليها النقد, اي هو لا يوجدها من العدم لأن الوعي بطبيعته لا يدرك إلا الموجود وتاليا كل ما هو عقلي واعي يكون استجابة للمستوى الشعوري.
أما الحدس فيأتي من منطقة ما تحت الشعور, منطقة أعمق من الوعي لذا لا يخضع لقوانين الإدراك والمحاكمة العقلية وهذا مادفع القدماء كي يطلقوا ألفاظا مثل " الإلهام – الوحي " على الأفكار التي لا ترتبط بالملاحظة الخارجية, هم ببساطة ردوها إلى مصدر فوقي بدلا من مصدر غوصي.
العقل الواعي يقوم بتحليل الموضوع المعقد إلى عناصره الأساسية البسيطة, يفكك ويركب, أي يعيد إنشاء الموجود. أما الحدس فيأتي من اللاموجود حتى وهو يعالج الموجود, وهو لهذا يأخذ الصفة الكلية ويعالج الماهية عابرا فوق الإثبات العقلي بطرقه الواعية المعروفة. هو متحرر من المحاكمة العقلية. بتعبير آخر يمكننا أن نقول أن الحدس هو المادة الأساسية التي تحرك السؤال الفرضي فيما المحاكمة العقلية هي التفسير التجريبي للفرضية.
من هنا فإن إخضاع الحدس لقواعد المحاكمة العقلية هو أشبه بقياس السرعة بالكلغ, فمع أن هناك علاقة سببية بين السرعة والكتلة إلا أن العلاقة المصطلحية في ذات اللحظة غير قائمة. ذلك أن كل من الوعي والحدس يخضعان لآلية منفصلة تماما ليس فقط في العمل بل في الماهية والمصدرية والتراتبية الزمنية.
مما لاشك فيه أن الوعي عام وشامل وموجود لدى كل البشر الأصحاء, ولكن الحدس يبدأ وجوده لديهم من الصفر+ اصغر رقم يمكن تخيله وصولا إلى هوة واسعة جدا. من هنا كانت الفكرة في التأليه والنبوة, فقد كانت تفسير واعي لحدس غير مدرك بالعقل الواعي. أنه قياس للسرعة بالكغ. مصدر هذا الإلتباس في التفسير متحرر من الطبقة تحت ما تحت الشعورية وتسمى بطبقة الصور الأساسية والتي تتشكل منها المادة الذهنية الأساسية لكل البشر من تراكم الأساطير والمعتقدات يبدأ الإنسان بتلقيها عبر الإيماء الحركي والنبرة الصوتية حتى قبل بلوغه سن الإدراك وقبل أن ينطق أولى كلماته. هي صور مشتركة بين البشر من حيث الطبيعة مختلفة من حيث التفاصيل. تماما كما القلب والكبد من ضرورات التكوين الحيواني للإنسان, فإن تلك الصور مشتركة بدورها وحتمية ذهنية بينهم بغض النظر عن الثقافة والوعي. الثقافة والوعي تحددان ألوان الصورة لا الصورة نفسها. وهذا ما تعول عليه التيارات الدينية في مداهمة العامة بالقول " ان الإنسان يولد على الفطرة " الحقيقة أنه يولد مساويا من حيث الصور للصفر ولكن ادخال تلك الصور يسبق حتى النطق ولذا تحررها يبدأ مع التحرر التواصلي الأول, وهنا مصدر الإلتباس, خصوصا وأن تلك الصور, وبحكم أقدميتها الزمنية, تصبح الأساس الذي تقوم عليه باقي الصور, ولذا هي تسيرهم حتى عكس إرادتهم, تماما كما تشاهدون شجرة تتجه أغصانها عكس تغلغل أشعة الشمس, رغم أن قانون التركيب الضوئي يفرض أن تكون الجهة نحو الغرب حيث أشعة الشمس أغزر, إلا أن حركة الرياح قد تدفع تلك الأغصان إلى استجابة مغايرة للطبيعة والضرورات العضوية.
يبدو لي أن ترتيب الوعي البسيط يحدده الترتيب الجغرافي لمواقع الشعور,أي : الصور الأصلية, الحدس ما تحت الشعوري, الوعي والإدراك. وهذه التقسيمات كنت قد تطرقت لها في مقال سابق عبر مصطلحات تواصلية بالشكل التالي " الرغبات الكامنة, منطقة السر, السلوك الظاهر. وبالرغم من اختلاف الموضوع هنا عن المقال المشار اليه " آلية القرار – النفس وأقسامها " إلا أن العلاقة التركيبية واحدة ولعل العودة إليه بالنظر إلى الصيغة المبسطة له قد تساعد على فهم الفكرة بشكل أفضل لمن وجد في الشرح السابق مشقة.
إذن وقد وصلنا إلى فصل واضح بين ما هو واعي وخاضع لعلاقات وقوانين الإسقراء والإستدلال وبين ما هو حدسي قادم من التحت شعوري غير الخاضع لقوانين المحاكمة العقلية صار علينا أن نفصل بين عناصر التواصل مع المنطقتين, اقصد منطقة الوعي والمنطقة التحت شعورية.
وهذا في الصوفية يسمى " علم الحجة وعلم اليقين ".
بتعبير أخر اقصد الفصل بين الحوار الداخلي وبين التأمل الغوصي, والغرض من إحداث هذا الفصل ايصال رسالة بأن التواصل مع المنطقة تحت الشعورية يصبح في مرحلة من مراحل التأمل ممكنا بالإرادة مهما بدا هذا الكلام فاقد للمصداقية المنطقية, فكما سبق أن قلت: الحدس غير ممكن الإثبات منطقيا, عليك أن تقبل به كموجود وبكل هذه البساطة.
الحوار الداخلي يعمل على تصنيف الوقائع لتشكيل أحكام تتناول اساسا التصنيف نفسه, أي هو معالجة منطقية لوقائع بغض النظر عن منطقيتها وبغض النظر ما ان اتخذت المعالجة لاسباب نفسية سبل غير منطقة .
اي أن الحوار الداخلي يعمل على التميز بين المواضيع الخارجية التي هي بكليتها عقلية ومدركة وهي انعكاس لموجودات خارجية حتى وإن كانت هذه الموجودات أفكار تجريدية ولكنها بحكم خارجيتها صارت موجودة فعليا أو ذهنيا وبغض النظر ما إن كانت بعد على هيئتها الأولى المبسطة, أي كما استقبلتها الحواس, أو أن الخيال عمد إلى اعادة تركيبها. الحوار الداخلي له أربع نتائج : الرفض – القبول – التصحيح – الدمج . هو أبدا لا ينشىء من العدم. الحوار الداخلي يمكن نقله للورق, ويمكن دراسته تحليلا وتركيبا, هو الفرض الذي يخضع لعناصر الإثبات والنفي وصولا إلى الحكم النهائي. كمثال اسقاطي : الحوار الداخلي يشبه الكون " عناصره – موجوداته " بشكلها البسيط أو بعد طبعها بالخيال, هو كل شيء إلا لحظة النشوء الأولى, فتلك اللحظة هي ما يحمل الحقيقة المطلقة والنهائية, وهي اللحظة التي مهما تقدم العلم لن يسعه سوى أن يرجح تصورا لها على آخر, اما هي بذاتها فسوف تظل الغامض غير القابل للإثبات النهائي القطعي, ومع ذلك هي الحقيقة المطلقة. في التفكير هي الحدس, البداية السابقة لكل البدايات الفكرية. هذه اللحظة التي هي الصفر+أصغر رقم تخيلي هي موضوع المقال وهي ما يجب أن ينصرف إليه الجهد الإنساني لتحقيق التطور النهائي بقفزات سريعة وحاسمة.
إن ما نحتاجه اليوم هو تفعيل قدرتنا, أو للدقة قدرة الخاصة منا, على المزيد من تلك اللحظات كي يتحقق الإنتقال النهائي والشامل للوعي الجمعي بصورة منهجية عبر قانون السببية التواليدية, وهذا موضوع مقال آخر قريب. نحن مدعون إلى التدرب على كسر الحاجز بين ماهو تحت شعوري وما هو شعوري عبر منهجية خاصة " راجع الصوفية لماذا وكيف ". لن يكون بمقدور الإنسان ابدا أن يضع قاعدة لكيف يفكر تحت شعوريا, مع التذكير ان مصطلح " يفكر تحت شعوريا " هي ضرورة لغوية لا تعبر عن واقع الامر منهجيا, فجل ما يمكن له أن يصل إليه هو أن يميز بين ما مصدره تحت شعوري وما مصدره شعوري.
هذا يتطلب أن يراقب جيدا كيف يقود عملية التفكير العادي وكيف يتحرك لديه الوعي وكيف يحدث الحوار الداخلي. أن يطور مهاراته كي يميز بين أصواته الداخلية التي تتحدث متفاعلة فيما بينها مع المستدركات الواردة من العالم الخارجي وذلك عبر رفع الذات المراقبة فوق الذات الفاعلة, أو الذوات الداخلية, أن يرفعها فوق كل تلك الأصوات الداخلية تمهيدا لتقزيم تلك الذوات وصولا لسماع الصمت التام. ليس بإسكات الأصوات الداخلية, فهي ضرورة لامتحان الحدس تجريبيا لاقامة ما قلنا انه علم الحجة على علم اليقين الذي حرره ما تحدت الشعوري حدسيا, بل بتميزها صوت على باقي الأصوات.
الأمر أشبه أن تكون ولأسباب خاصة مقيم مع عدة أشخاص في غرفة واحدة, تلقائيا سوف يعمل ذهنك على عدم الاستجابة العصبية لأي من الضوضاء التي اعتاد رفاقك على اصدراها قبل النوم, ولكنه حتما سوف يتسجيب للأصوات الجديدة. التدريب يراد منه الاستجابة لذاك الصوت مهما كان خافتا قياسا بكل الأصوات التي اعتدت على سماعها من رفاقك قبل النوم.
بعض الطرق الصوفية تعمد إلى الضجيج والرقص لقتل الإحساس بالضجيج والحركة الخارجية, بعض المذاهب التأملية تعمد إلى تكرار الصوت المصدري لقتل الأصوات الأخرى تمهيدا للاستسلام للصوت الخافت الداخلي, أو عبر بعض التخيلات التي تدفع الإنسان خارج الإطار الإنساني, ومنها ما يعتمد على أحجية تبدو في أول الأمر سخيفة ولا معنى لها ولكن مع الجهد المبذول لحلها تتراكم ارادة قتل الأفكار الجانبية والمشوشرة.
بالنسبة لي أعتقد أن الأمر مرتبط بعنصرين " طبيعة الموضوع – طبيعة المتأمل " لذا لا اعتقد بصحة طريقة على اخرى أو باقصاء طريقة لصالح أخرى. الحدس اما موجود أو غير موجود من هنا الاساس الذي يبنى عليه والباقي معرفي. فحين يكون موجودا فإن التفكير الواثق يعيد صياغة عملية التفكير العادي ليصل المفكر إلى التميز بين ما هو فكري وما هو حدسي.
فكما تدفع الصورة لدى الإنسان العادي إلى استعادة الموسيقى المصاحبة في الكليب التلفزيوني يمكن للموسيقى أن تستدعي من الذاكرة صورة المغنية أو حركتها فإن التفكير الواثق يقيم حاجزا بين تداعي الصورة استجابة للصوت والعكس. هنا, عند بلوغ هذه المرحلة من التفكير الواثق, يمكن للمتأمل أن يميز تلك القدحة السريعة القادمة مما هو تحت شعوري عن كل ما هو شعوري.
والنصحية أن عليه ألا يضيع الوقت في فهم كيف حصلت, فهذا مستحيل, ما عليه أن يصرف جهده له هو أن يبني عليها. هذا البناء هو علم الحجة, أما علم اليقين فقد كان تلك القدحة. وبالمناسبة لا يمكن بلوغ هذه المرحلة قبل تفكيك مرحلة الصور الأساسية لأنها وكما قلت مضللة وتعمل عكس طبيعة الأمور.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تشاسيف يار-.. مدينة أوكرانية تدفع فاتورة سياسة الأرض المحرو


.. ناشط كويتي يوثق آثار تدمير الاحتلال الإسرائيلي مستشفى ناصر ب




.. مرسل الجزيرة: فشل المفاوضات بين إدارة معهد ماساتشوستس للتقني


.. الرئيس الكولومبي يعلن قطع بلاده العلاقات الدبلوماسية مع إسرا




.. فيديو: صور جوية تظهر مدى الدمار المرعب في تشاسيف يار بأوكران