الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف ودوره الطليعي

نذير الماجد

2008 / 12 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يحتدم الجدل عادة حول تحديد دور المثقف وملامحه ومسؤوليته تجاه الفكر والثقافة والمجتمع في آن معا، وهو الذي غالبا ما يقع بين سندان الواقع المأزوم والذي يرغب في تغييره وتجاوزه وبين مطرقة المرتهنين بهذا الواقع الذي يمنحهم الامتيازات والسلطة والنفوذ، ولأن المجتمع ذو ميل ونزوع طبيعي للمحافظة على الوضع السائد فإن من المحتم أن يتسم الاشتغال الثقافي بسمة المواجهة، وأي انخراط ثقافي لابد وأن يؤدي إلى سلوك صدامي، هذا هو قدر المثقف وهنا تكمن محنته.

إذ لا يمكن للمشتغل والمهموم بالشأن الثقافي أن يقترب من وهج الحقيقة إلا بعد أن يروض نفسه على المواجهة ويكون مهيئا على صد الصفعات أو امتصاصها، فالحقيقة ليست فاتنة دائما، أحيانا تبدو حارقة وموجعة، وكل اقتراب منها يتطلب قدرة عالية على الاحتمال، رغم هذا لا يمكن مزاولة أي فعل ثقافي دون القيام بكشف الحقيقة أو جانب منها على الأقل حتى وإن أدى ذلك إلى وجود صدمة في الوعي الاجتماعي، هذا ما يؤكده في الحد الأدنى المثقف الذي يحمل توجها راديكاليا مبدئيا يجعله لا يضحي بالحقيقة المعرفية مهما كانت النتائج، لكن هل يعني هذا أن المثقف لا يمكن أبدا أن يكون براغماتيا في تعاطيه مع الشأن الثقافي؟ على الرغم من هامشية هذا السؤال مقابل أسئلة أخرى تتصل بعمق الإشكالية الفكرية التي تحيط بمهمة المثقف ودوره ومسؤوليته، فإن الاحتكاك المباشر بالواقع العملي المرتبط جوهريا بأي فعل ثقافي يتطلب شيئا من البراغماتية.

من ناحية وظيفية يمكن تحديد دور المثقف في الانخراط في إنتاج الوعي، أي اطلاع المجتمعات على الحقائق الأصح، وأقول الحقائق الأصح لأن التوصل للحقيقة كاملة ليس سوى مدعى استيهامي مضلل لا يليق إلا بالحالمين، ومن الطبيعي أن يؤدي هذا الدور بصفته عاملا أساسيا للنهوض الاجتماعي إلى التخفيف من وقع المعاناة البشرية، لأن الخلل والتأخر أساسا نتيجة طبيعية للجهل. ومع أن الحد من المرارة والمعاناة ليس سوى نتيجة عملية للفعل الثقافي إلا أن أننا نجد المفكر الإيراني مصطفى ملكيان في دارسة له حول إشكالية المثقف يصر على وضع تمييز إجرائي بين مهمتين اثنتين للمثقف، الأولى: تقرير الحقيقة والثانية: الحد من المرارة وتخفيف المعاناة. ولكن سرعان ما تتوضح أكثر أهمية هذا التمييز عندما ندرك فحوى وملامح إشكالية المثقف ومحنته البادية في حدوث أي تعارض بين كشف الحقيقة ومعطيات الواقع المأزوم.

المفكر ملكيان ينتهي إلى اعتبار أن إنتاج الوعي يحتل الأولوية في سلم وظائف المثقف مهما كانت النتائج ومهما كانت الحقيقة صادمة، ولا يمكن للمثقف إلا أن يكون كذلك، لأن الاهتمام الثقافي في الأساس ينطوي على ممارسة نقدية متجاوزة، بيد أن من الطبيعي اشتراط توفر رصيد ثقافي وإمكانات وقدرات فكرية تنقل المهمة الثقافية من الإمكانية إلى التحقق، من القوة إلى الفعل.

وإلى جانب ضرورة الاتصاف بحالة الحذر والشك الدائم في كل المقولات الفكرية والعقدية لتجنب الوقوع في الوثوقية والتحجر، وإلى جانب الالتزام الدائم بالعقلانية في الفعل الثقافي كخصائص أساسية للمثقف، نجد المفكر المصري نصر حامد أبو زيد يلح على ضرورة التموضع الأبستمولوجي حفظا للفعل الثقافي من مطبات التفكير الأيديولوجي وكل ما يستتبعه من حجب للوعي وتزييفه. على أن هذا الدور الوظيفي للمثقف لا يتطلب تخصصا علميا بقدر ما يتطلب اندماجا كاملا في الهم الثقافي وهو ما يؤكده مصطفى ملكيان، لهذا لا يبدو الاختصاص في حد ذاته شرطا أساسيا للاضطلاع بالمهمة الثقافية بخلاف ما يردده دائما سدنة التحجر الفكري ودعاة أحادية الرأي، إذ يكفي حيازة جملة من المزايا الذاتية والفكرية حتى يتوجب خوض غمار التثقيف والتوعية.

إلا أن أهم خاصية يجب أن يتحلى بها المثقف هي استعداده للتضحية وتحمل كل ألوان الحرمان والمعاناة وذلك بصفته فاعلا اجتماعيا يمارس الفكر على أرض الواقع وليس فقط الفكر المجرد المتعالي على كل التحديات المعاشة، هنا تماما تكمن محنة الوعي والفكر، وهنا يمتحن المثقف لدى اقترابه من لجة المعرفة والنضال الفكري، لأنه سيغدو في مواجهة عدة خصوم بكل شراسة، ولأن هذا الواقع بتأخره وتخلفه وتراجعه هو الذي يضمن لهم الامتيازات ولأن كل وضعية اجتماعية مهما كانت مأزومة وحافلة بالمآزق لابد لكي تؤبد ذاتها من ارتهان المرتزقين بالثقافة والفكر فإن المثقف الحريص على التزام الأمانة والمصداقية المعرفية سيحشر حتما في مواجهة حامية مع خصم ثقافي أيديولوجي مهمته التبرير الثقافي للواقع، ومن شأن هذا الخصم اللجوء لكل الوسائل التي بإمكانها أن تؤخر وتشوه التنوير، يصبح المثقف هنا مفسدا مزعزعا لأمن المجتمع ولثقافته محاربا للدين وتعاليمه، وهو بالتالي سيتهم بهرطقاته وتجديفاته وزعزعته للثوابت ومناهضته للنص الديني والأخلاق والقيم وكل ما من شأنه أن يستثير عواطف الناس وانفعالاتهم.

لهذا كله يبدو الاشتغال الفكري في الدرجة الأولى تضحيةً ونضالا وليس مجرد ترف وكماليات، المثقف مسؤول ومناضل والانتلجنسيا هي الفئة التي تقود حركة المجتمع وتضيء شعلة التنوير. ما من مثقف حر كان له اسهامه في حركة التاريخ إلا ودفع الضريبة، لأن التغيير بما هو معاكسة للتيار لا يولد إلا بعملية جراحية تتوقف على مدى الاستعداد للتضحية، وكل العظماء والمفكرين في التاريخ كانوا على هذا الدرب، يقول برنارد شو: كل الحقائق الكبرى التي ظهرت في التاريخ تجلت في البداية وكأنها تجديف أو كفر! لهذا لم تسلم أعمال ابن رشد من الحرق والتصفية، وقبله لم تسلم الانتلجنسيا في أوج ازدهار الثقافة العربية والإسلامية في القرن الرابع الهجري من الغربة والعزلة والتضييق من الكندي الذي صودرت كتبه وكاد يقضى عليه لو لم يتراجع عن مساندته لموقف المعتزلة، إلى التوحيدي الذي ضاق ذرعا من عزلته ووحدته في مواجهة التيار، إلى الحكيم الرازي الذي راهن على العقل وحده في اشتغاله الفلسفي. وصولا لرواد ومفكري النهضة بعد عصر السبات والانحطاط الطويل، كعلي عبد الزراق الذي طرد من رحمة سدنة "التتريث" عندما كتب كتابه الشهير "أصول الحكم في الإسلام" وأعلن فيه عن عدم وجود نظرية سياسية في الإسلام، إلى طه حسين الذي تعرض لحرب معنوية حامية بسبب معالجته الجريئة للتراث الأدبي الجاهلي. كل هؤلاء كانوا قرابين على مذبح الفكر والحقيقة.

الفعالية الفكرية إذن تستوجب حسا نضاليا وموقفا لا يعرف المهادنة والخضوع، يقول كانط عندما تعرض لتهديد السلطة بمنع كتبه: قد لا أقول كل ما اعتقد به ولكني لن أقول شيئا لا اعتقد به.

هذه النزاهة الفكرية اللامتناهية وهذه الشجاعة الفكرية والنفس الطويل في التزام الموقف المعرفي لا تكاد تلحظ عند شرائح واسعة من المثقفين العرب المعاصرين، فبعضهم آثر الانكفاء والتحصن في بروجهم العاجية دون ملامسة الواقع وبعضهم الآخر ارتمى في حضن النخب السياسية يقدم لهم شهادات تزكية وتبرير "تبريك" في حالة تذكرنا بما قاله المفكر العراقي علي الوردي عن وضع الشعر العربي في قصور الخلفاء، والاتجار بالشعر لنيل الحظوة وكسب المال، والفعالية الثقافية عندما تتحول إلى اتجار تصبح مجرد دجل لا يختلف كثيرا عن أي شعوذة أو تخريف.

هذا البؤس الثقافي الماثل في الاستقالة الفكرية للكثير ممن كان يفترض بهم مزاولة الفكر النقدي والتصحيح قد تسبب في شيوع حالة من الكسل والشلل الفكري، وهو أمر أدى لتسلل الفكر الأصولي للواقع الاجتماعي وهيمنته على كل النشاط الفكري والاجتماعي والسياسي. في الواقع ثمة إشكالات وتحديات عديدة تزخر بها المجتمعات العربية كالفقر والتأخر الحضاري والثقافي والطائفية وهيمنة الفكر السلفي على كل مرافق الحياة وغيرها من قضايا لا يمكن مواجهتها إلا بتوفر جهد فكري وثقافي مضاعف تتحمل مسؤوليته النخب الثقافية وإلا فلا شيء يضمن الخروج من شرنقة الانسداد التاريخي كما يعبر المفكر الجميل هاشم صالح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. على خطى حماس وحزب الله.. الحوثيون يطورون شبكة أنفاق وقواعد ع


.. قوة روسية تنتشر في قاعدة عسكرية في النيجر




.. أردوغان: حجم تجارتنا مع إسرائيل بلغ 9.5 مليارات دولار لكننا


.. تركيا تقطع العلاقات التجارية.. وإسرائيل تهدد |#غرفة_الأخبار




.. حماس تؤكد أن وفدها سيتوجه السبت إلى القاهرة